بقلم: د. رفيف رضا صيداوي
عربياً، حظي الشباب بالاهتمام في العقدين الأخيرين إلى حدّ ما، وذلك بعد إهمال ملحوظ على الصعد كافة. إذ لطالما كشفت الدراسات أن الفئة الشبابية هذه، كما الأطفال، فئة مغيَّبة عن الخطط التنموية في غالبية البلدان العربية.
نادرة هي الدراسات والأبحاث والإحصاءات والمسوحات الشاملة، التي تتناول أحوالهم وشؤونهم، في حين تكاد تغيب السياسات التعليمية التي ترتقي بمستوى تعليمهم وجودته؛ وكذلك السياسات الثقافية التي تستهدف تطوير ممارساتهم الثقافية (حيث لا تتعدّى نسبة الكتب أو القنوات التلفزيونية والبرامج أو الصحف المخصّصة للشباب- على سبيل المثل لا الحصر- 3% من مجموع الصحف العربية المختصّة، بحسب “التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية 2008” (الصادر عن مؤسسة الفكر العربي)…إلخ، ناهيك بأن العادات المكتسبة في الطفولة، والتي تضطلع بدورٍ جوهري في تحديد الممارسات الثقافية للراشدين، مشروطة ليس بالأسرة فقط، بل بالمدرسة أيضاً، وبجودة تعليمها ومناهجها.
هذه الفئة الشبابية، والتي لطالما أشارت الأدبيات المختلفة إلى خضوعها للنمط الاستهلاكي المعولم، الذي بات يهدّد هويّتها، سواء اللغوية منها أم الثقافيّة أم الحضاريّة، وخصوصاً في ظلّ ما تلقاه اللغة الأم من تحديات، هذه الفئة الشبابية إذاً، سرعان ما برهنت، ومن خلال ما سمّي بـ”الربيع العربي”، على أنها لم تكن، وبحسب الظنّ السائد، غير مكترثة بشؤون أوطانها وهمومها، أو أنها غائبة عن الشأن العام وقضايا المستقبل. إذ على الرغم من الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي اضطرب ويضطرب بها عدد كبير من البلدان العربية، في ظلّ اقتصاد معولم شعاره النيوليبرالي “أن السوق هي التي تحدّد الاتجاهات حول مَن ينبغي أن يعيش أو مَن ينبغي أن يموت”، و”أن الأسواق تحلّ مشكلاتها المرتبطة بالتوزيع من تلقاء ذاتها”، وعلى الرغم من ارتفاع معدلات البطالة، وبخاصة بطالة الشباب، التي اعتبرها كثر ” قنبلة موقوتة تهدّد بالانفجار في وجه صنّاع السياسات”، إلا أن انخراط الشباب في ما سمّي بـ”الربيع العربي”، ولعبه دوراً أساسياً في حراكه، فاجأ، على الرغم من تلك الأوضاع السلبية، المحلّلين والباحثين، دافعاً إياهم إلى مراجعة أدواتهم المنهجية والمفهومية في قراءة الواقع الطارئ.
لعلّ أكثر ما تمّت إعادة النظر فيه، تمثّل في مفهوم الشباب نفسه. فالشباب ليسوا كتلة بشرية واحدة متجانسة، لديهم القيم نفسها، أي أنهم ليسوا وحدة سوسيولوجية ثابتة يحدّدها السنّ فقط. إذ لطالما أفادت بحوث وتقارير مختلفة، ومن مصادر متنوّعة عربيّة وأجنبية، بأن الشباب مثلاً، ومن فئة عمرية معيّنة، غائبون عن المادة الثقافية المقدّمة عبر المواقع الإلكترونية بنسبة مرتفعة، أو أن عدد المشتركين منهم في قنوات الفيديو الثقافية العربية ضئيل للغاية، ولا يقارن بأيّ صورة، بعدد المشتركين في قنوات أخرى غير ثقافية، وأن تواصلهم الثقافي الرقمي هو عبارة عن تواصل استهلاكي ترفيهي وسطحي النزعة، لا بل يُصنَّف من ضمن الترفيه السريع الشاذ…إلخ. في حين بيّنت الدراسات أن الممارسات الثقافية للشباب على الصعيد غير الرقمي لم تكن أفضل (تراجع الإقبال على القراءة، ارتفاع معدلات الإنفاق الاستهلاكي والتجاري على حساب الاستهلاك الثقافي المنتج…).
ماذا عن الشباب العربي؟
إن كتاب “الشباب العربي” Jeunesses arabes الصادر حديثاً لمجموعة باحثين، تحت إشراف Laurent Bonnefoy et Myriom Catusse، عن دار لا ديكوفيرت La découverte الفرنسية، أعادنا إلى مقولة قديمة لعالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، وهي “أن كلمة الشباب وحدها لا تعني شيئاً محدداً”، فهم ليسوا مجرد شريحة اجتماعيّة يحكمها العمر فقط، لا بل يتمايز أفرادها في العديد من الخصائص، كالجنس والعمل والانتماء الاجتماعي وشروط الحياة المتفاوتة بين الريف والمدينة والتحصيل التعليمي والمهارات المكتسبة، وغير ذلك من خصائص.
تناول الكتاب عيّنة من الشباب العربي من الجنسين، من 18 بلداً عربياً (بلدان الخليج والمشرق العربيين وشمال أفريقيا)، محاولاً رصد هواياتهم أو سبل التسلية لديهم، وكيف يمضون أوقات فراغهم، بغية الخلوص إلى رسم صورة حول “ما يقوله شباب العام 2013 العربي للعالم” .
لعلّ أهمية الكتاب تكمن في أنه لم ينطلق من الأحكام الجاهزة، والأفكار المسبقة والنمطية حول الشباب، وفي أنه أيضاً تجاوز مقولة شائعة في الشرق والغرب، مفادها “إن الأجيال العربيّة الجديدة، هي صنو خزان لا ينضب من المجرمين بالقوّة”. كما أنه لم ينطلق من الماكروي (العام)، بل من الميكروي (الخاص)، وتحديداً من القنوات الحياتية الخاصة بهم (ممارسات، طقوس، عادات، في إطار اجتماعي متنوّع: مناطقي، ديني، طبقي…)؛ وهي قنوات تسمح باستشعار أحوال الماكروي، ولاسيما عبر تتبّع مسارات التسلية لدى هؤلاء الشباب.
لم يخرج الكتاب بالتالي، بتعميمات حول الشباب، تسهم في إعادة نمْذجتهم. كا أنه لم يسهم في تقديم معطى ثري من الأحكام الجاهزة في صددهم. ولئن بدا أن السياسي غائب عن أجواء الكتاب، فإن تلمّس بعض التوجهات السياسية لدى الشباب مثلاً، ( تيارات اليمين، واليسار، والإسلام السياسي…) أفضت إلى التعريف بالتحوّلات السياسية، وبما ينبئ بوجود اختلافٍ للسياسي عن معناه أو تجلّياته المألوفة، التي سادت في ستينيات وسبعينيات القرن الفائت، ومن أبرزها غياب “الأسطورة المؤسّسة”، التي آمنت بها أجيال ذلك الزمن. فتمّ تمثّل نوع التسلية المستحدثة، شأن الراب في الوطن العربي، وخصوصاً في فلسطين والمغرب العربي، كإحدى القنوات السياسية، التي يَعبُر من خلالها الشباب من المجتمعي إلى السياسي، من خلال التعبير عن مشكلاتهم وهمومهم وشجونهم.
كما لحظ أيضاً، تواصل الشباب مع الماضي، وليس انقطاعهم عنه، سواء في ما يخصّ “الصراعات الموروثة” أم “الهويات المجروحة” أم “الجنان المفقودة”، ودائماً من خلال تتبّع مسألة تزجية أوقات الفراغ. بمعنى آخر، تمّت قراءة تجليات هذا التواصل مع الماضي عبر بصماته القائمة في أوقات الفراغ هذه: من الأغاني الدينية القبطية في مصر، والحنين السياسي، الذي أبداه بعض مناضلي اليسار في لبنان، باستعادتهم تحزّب الستينيات والسبعينيات، مروراً بتميّز مؤسّسات “الرقص التقليدي” في فلسطين…إلخ، بدا أن هناك تأثراً كبيراً لدى عدد من الشباب العرب بالأجيال السابقة. ممارساتهم في التسلية، عكست الأساليب والأنساق التي تمّت من خلالها إعادة إنتاج الممارسات العائلية، واستبطان المعايير أو القواعد الاجتماعية التي انتقلت إليهم، حتى ولو أنه أعيد الاشتغال عليها بتكنولوجيات متقدمة أو في سياقات مغايرة، وذلك بما يحول دون النظر إلى الثورات العربية، بوصفها “تحديات بكر، من دون ماضٍ أو مقدمات”. وكأننا بأنماط التسلية الحديثة للشباب، وبحسب ما يستنتج الكتاب، أمام ظاهرة لاحقة تعيد تجديد التراث باستمرار.
ولئن التفت الكتاب أيضاً، إلى الشباب الذين شكّلت لديهم التسلية الإيجابية (مثل الأنشطة الفنيّة والمرحة، أو العمل في الجمعيات الثقافية الفنية، مثل فرقة “باب الواد إس أو إس” SOS Bab El Oued في الجزائر…) منفذاً للخروج من ضغوط العائلة أو الجماعة، توقاً للتميّز والتفرّد الإيجابيّين، إلا أنه بيّن في المقابل، كيف أودت نشاطات التسلية الآثمة ببعضهم الآخر إلى التحرّر وتدمير الذات في آن.
صورة خالية من الادعاءات
لا يدّعي الكتاب- أي “الشباب العربي“- أن الشباب العربي هم في أوضاع يحسدون عليها، بل جلّ ما قام به هو نقل صورة واقعية عن أحوالهم، بجمالها وقبحها، أي بتبايناتها كافة، بعيداً من محاولات التجميل المؤدية إلى التفاؤل المفرط من جهة، والصورة السوداوية التي من شأنها أن تؤدي إلى تشاؤم مبالغ فيه من جهة ثانية. إلا أنه ومن بين التأملات الكثيرة التي يثيرها الكتاب، وعلى مستويات مختلفة، صعوبة القبض على مفهوم جامع للشباب سوسيولوجياً، خصوصاً مع تفاوت ممارساتهم الثقافية والترفيهية؛ وبالتالي، صعوبة تأطير الشباب العربي من ضمن نماذج تجوهرهم، وتجعل من بعض الصفات الاجتماعية سمة أو صفة ثابتة فيهم، سواء أكانت صفات إيجابية (الشباب الثوري، الشباب المبدع..) أم غير إيجابية (الشباب المحبط، الشباب الاستهلاكي…).
لعلّ هذه المسألة باتت أكثر تعقيداً في الوقت الراهن مع الاستقلالية النسبيّة للممارسات الثقافية والأذواق عن الطبقات الاجتماعية في مجتمعات ما بعد الحداثة، بحسب ما أكّد بيار بورديو، خصوصاً مع العوالم الافتراضية التي باتت توازي عوالم البشر الحقيقية، مختزلةً الفروقات الطبقية إلى حدّ ما، ومع “الانفصال التدريجي لثقافة الأحداث عن القنوات الكلاسيكية لنقل الثقافة: المدرسة، العائلة” Matthieu Béra et Yvon Lamy, Sociologie de la culture. غير أن ذلك كلّه لا يعني أنه لم تعد للفروقات الطبقية أو للأسرة أو المدرسة أدوارها في تشكيل نمط الممارسات الثقافية والترفيهية لدى الشباب. بل يمكن القول إن فرضية
عالم الاجتماع الفرنسي Laurent Fleury، في كتابه Sociologie de la culture et des pratiques culturelles، ومفادها “إنه في مجال الثقافة، ليس ثمة علاقات بسيطة وأحادية بين أوضاع الطفولة من جهة، والسلوك في مرحلة الرشد من جهة ثانية”، هي الأقرب إلى واقع الشباب.
إذاً، وكإجابة عن سؤال مَن هم شباب الوطن العربي اليوم؟ نقول إنهم كتلة بشرية تتجانس أوضاعها وظروفها حيناً، وتتقاطع أو تتباعد أحياناً، لكن خلاياها المكوّنة، وهي كتل حيّة وشابة بالطبع، تتشعّب إلى جملة خصائص وثقافات، غالباً ما تتفرّع بدورها، بحيث لا يمكن التغاضي عن الفروقات في الخصائص والإمكانات الفردية والموروثات الاجتماعية والثقافية.
*************
(*) مؤسسة الفكر العربي نشرة “أفق”
كلام الصور
1- غلاف كتاب Jeunesses arabes
2- فرقة SOS Bab El Oued
3- غلاف Sociologie de la culture