القَريَةُ… هذه المُبارَكَةُ الَّتي تَرَكناها لِعادِياتِ العَصرِ، قَرَأناها، ذِكرَياتٍ وَوُدًّا غَبَرَ، مع شُيُوخٍ كِبارٍ كَمارُون عَبُّود، وأَنِيس فرَيحَة، ويُوسُف حَبْشِي الأَشقَر وغَيرِهِم، فاستَعَدنا سَمَرَ لَيالِيها، ونَدَى أَسحارِها، وأُلفَةَ غَدَواتِها والعَشِيَّاتِ، وتَوَهَّجَت مَدارِجُها في الذَّاكِرَةِ حَيَّةً، نَبَّاضَةً، كآلِهَةٍ مِن نُوْر.
ومَهما هَرَسَتنا المَدِينَةُ في طاحُونِها، ونَثَرَت على أَرجُلِنا لُؤْلُؤَها ومَباهِجَها ومُغرِياتِها، فانتَظَمنا في دَوَرانِها القاسِي، وغَفَلنا عَن مَوائِدِ الحَنِينِ في قاعِ ذاتِنا، فلا غُنْيَةَ لِنُفُوسِنا المُجهَدَةِ مِن عَودَةٍ إِلى أَصالَةِ الجُذُورِ، وصَفاءِ الطَّوِيَّةِ، وخَلْعِ الإِهابِ القابِضِ على الكِيانِ كَدِرعٍ حَدِيدِيَّةٍ جَدْلاء.
وأَنَّى لِهذا أَن يكُونَ إِلَّا في رُجُوعٍ، ولو في إِغماضَةِ اللَّواحِظِ، إِلى الضَّيعَةِ وطِيبَتِها، والرِّيفِ ونَقائِه.
ولقد قالَها، شَهقَةَ رُوحٍ، الأَدِيبُ جاك دُو لاكرُوتِيل: “لِلمَدِينَةِ وَجهٌ، ولكنَّ لِلقَريَةِ رُوحًا”.
واليومَ نَقرَأُ هذه القَريَةَ مع كاتِبٍ ولو كان في مُستَهَلِّ إِبداعِهِ، فَقَد أَضافَ إِلى مَذاقاتِها نَكهَةً جَدِيدَةً تَجعَلُهُ واحِدًا مِمَّن ذَكَرنا ولو كان العُمرُ في مُقتَبَلٍ، والشَّبابُ في غَضارَة.
عِماد فغالي! أَعَدتَ إِلى مَشامِّنا بَخُورَ الضَّيعَةِ، وطِيبَ أَيَّامِها، فانتَصَبَ ناسُها، ومَغانِيها، وتِلالُها، في البالِ، فإِذا الدِّفءُ في الجَوانِحِ، وإِذا النَّغَمُ على أَوتارِ القَلبِ شَجِيٌّ، تَطفِرُ الدَّمعَةُ مع عُذُوبَتِهِ إِلى المَآقِي، ويَحلُو السَّفَرُ في خَيالاتٍ حَبِيبَةٍ خَلَت.
“في الضَّيعَةِ… عِندنا”.. كِتابٌ يَنغَشُ إِليهِ الفُؤَادُ، وتَسكُنُ النَّفسُ، لِما في تَلافِيفِهِ مِن أُلفَةٍ تُتِيحُ لِلمَرءِ أَن يَسلُوَ عَن واقِعِهِ المُنهِكِ، ويَعُودَ إِلى أَناهُ الفِطرِيَّةِ حيثُ تَتَوارَى نُتُوؤَاتُ المَشاغِلِ، ومَسارِبُ الهُمُومِ والوَساوِسِ، فَتَبدُو اللَّوحَةُ تَناغُمَ أَلوانٍ في رَنِيمٍ حَمِيمٍ، ودَغدَغاتِ رُؤْيا.
وكَأَيِّن مِن حِكايَةٍ قَرَأتُ، في هذا الكِتابِ، فَلَم أَجِدْ تَكرارًا يُمِلُّ، أَو تَلوِيناتٍ لِحَدَثٍ بِعَينِهِ بُغيَةَ التَّكثِيرِ، ورَصفِ الصَّفَحات. بَل إِنَّكَ فِيهِ لَفِي بُستانٍ أَلوانُهُ قَوسُ قُزَحٍ، في أَرَجٍ يَشُقُّ الصَّدرَ، وثَمَرٍ يُثِيرُ اللُّعاب.
في مِثلِ رِحلَةٍ صُوفِيَّةٍ عابِقَةٍ بِالعِشقِ يَأخُذُنا عِماد فغالِي إِلى خُصُوصِيَّاتِ قَريَتِه “فغال”.
وكَي لا تَزُولَ أَخبارُها، مِن جَلَلِها إِلى أَدناها، بِزَوالِ أَبطالِها، ولِفَرطِ تَحَسُّسِهِ بِخَفاياها، وما دارَ في طَواحِينِها يَومًا، فقد جَعَلَ كاتِبُنا رِقاعَهُ ذاكِرَةً حَيَّةً لها، وشَحَذَ قَلَمَهُ، وأَلهَبَ هِمَّتَهُ القَعساءَ، ونَدَبَ نَفسَهُ لِلعَمَلِ المُبارَكِ بِتَدوِينِ تُراثِها وتارِيخِها ذَخِيرَةً لِلأَجيالِ الآتِيَةِ، وإِرثًا جَمِيلًا حَنونًا كَحُداءٍ عَذْبٍ تُرَدِّدُهُ البِطاحُ بَعدَ أَن تَتَوارَى القافِلَة. فَرُبَّ جَمالٍ طَوَتهُ الأَيَّامُ، وغَيَّبَهُ الزَّمَنُ، لِأَنَّهُ لم يَحظَ بِرِيشَةٍ تَحفِرُهُ في القَراطِيسِ، وتَترُكُهُ لِلآتي زادًا خَيِّرًا، ورُغفانًا مُقَمَّرَة.
صَحِيحٌ أَنَّ قِصَصَهُ تَختَصُّ بِتَقالِيدَ مُعَيَّنَةٍ، لِقَريَةٍ مَقصُودَةٍ، وبِيئَةٍ مَخصُوصَةٍ، ولكنَّ تَداعِياتِ الأَفكارِ تَأخُذُ كُلًّا مِنَّا إِلى مُحِيطِهِ بما يَجِدُ مِن مَشابِهَ في المَنظُورِ والعَقلِيَّاتِ، فالقُرَى، في رِيفِنا اللُّبنانِيِّ، تَتَقارَبُ في المُتَوارَثِ، وتَتَماثَلُ رُؤَى بَنِيها، لِأَنَّها تَعُودُ إِلى جَذْرٍ واحِدٍ عَمِيقٍ أَصِيلٍ هو الأَرضُ المِعطاءُ، ونُسْغٍ مُشتَرَكٍ هو نَكهَةُ التُّرابِ المَجبُولِ بِالعَرَقِ الصَّبِيبِ، ومُساكَنَةٍ هادِئَةٍ أَلِيفَةٍ مع هَواءِ الوادِي المُضَمَّخِ بِطِيبِ الوَزَّالِ والشِّيحِ والشَّربِينِ، وسَحابِ الأَعالِي المُتَناثِرِ غِلالاتِ جَمالٍ على السُّفُوحِ المُخضَوضِرَةِ، ونُسَيماتِ النَّدَى المُثقَلِ بِأَرِيجِ الأَقاحِ، وخَرِيرِ السَّواقِي في الوِهادِ المُخضَلَّة.
في حَياتِنا المَحفُوفَةِ بِالشَّوكِ والعَوسَجِ إِلى بَعضِ زُهَيراتٍ خَجُولاتٍ يُطلِلنَ، في سَوانِحَ مَعدُوداتٍ، بِبَسمَةٍ شَفِيفَةٍ، وشِحنَةِ أَمَلٍ رَقِيقٍ، وخَفَرٍ ووَجَلٍ، مَن مِنَّا، وقد أَغَذَّ السَّيرَ في دُرُوبِها لا يَعُودُ به الذِّكرُ إِلى أَيَّامٍ خَلَت، وماضٍ جَمِيلٍ بَرِيءٍ خِلْوٍ مِن هُمُومِ أَيَّامِهِ الحاضِرَةِ، وعِبْءِ مَسارِهِ المَكدُود؟!
مِن فَضائِلِ هذا الكِتابِ اللَّطِيفِ أَنَّهُ يَسِيحُ بِنا، على جَناحِ الحَنِينِ، إِلى المَطارِحِ القَدِيمَةِ حَيثُ الطُّفولَةُ والصِّبا رَبِيعٌ فائِرٌ، وإِلى المَواطِئِ الحَمِيمَةِ المَرصُوفَةِ بالمَناعِمِ، والأَحلامِ المَجدُولَةِ بِعُمرِ البَراعِمِ، ولو انَّها، اليَومَ، “دِيارٌ عافِياتٌ*“، بَعدَ أَن هَجَرَتها الأَرجُلُ الخِفافُ، والوَجَناتُ الوَرد.
يَتَمَتَّعُ كاتِبُنا بِحَساسِيَّةٍ ضَيعَوِيَّةٍ مُرهَفَةٍ، ومِجَسٍّ دَقِيقٍ يَلتَقِطُ أَدنَى نَبَضاتِ القَريَةِ وبَنِيها، وفِطرَةَ الرِّيفِ وعَفوِيَّتَهُ النَّقِيَّةَ، ونَمنَماتِهِ السَّاحِرَةَ، وشُؤُونَهُ وشُجُونَهُ اللِّطاف. وهو يَرسُمُ ما يَرَى بِبَراعَةِ فَنَّانٍ عاشِقٍ، في أُسلُوبٍ واضِحِ البَلاغِ، سَلِيمِ اللُّغَةِ مُبِينِها، يَفي بِالغَرَضِ راوِيًا الأُحدُوثَةَ في غَيرِ اضطِرابٍ، أَو إِبهامٍ، أَو اشتِباكٍ مُربِكٍ في الماجَرَيات. لا يَبخَسُ الصُّورَةَ جَمالاتِها، ولا يَحُطُّ مِن سَناءِ الرُّؤيا ونَقائِها. وهو يُدَبِّجُ في صُقْعٍ يُبدُو بارِدًا إِلَّا أَن يَهمِزَهُ قَلَمٌ عَرُوفٌ، وعلى نَسِيجٍ عَرَكَتهُ الأَيَّامُ تَخالُهُ هَلْهَلًا رَمِيمًا، ولكنَّهُ يَنطَوي على جِمارٍ تَؤُجُّ أَنَّى نَكَتَتهُ الذَّاكِرَةُ، وَلَجَّ به الحَنِين. كما وأُسلُوبُهُ مَوَّارٌ بِالحَرارَةِ والتَّدَفُّقِ والصِّدقِ، طَبْعِيٌّ سَلِسٌ رَشِيقٌ، تَبدُو عليه مَسحَةُ البَساطَةِ والعَفوِيَّةِ، والابتِعادِ عن التَّراكِيبِ البَلاغِيَّةِ المُعَقَّدَةِ، والتَّزاوِيقِ البَيانِيَّةِ المُتَعَمَّدَةِ، بَيْدَ أَنَّهُ عَمِيقُ الدَّلالِيَّةِ، نَفَّاذُ الصُّوَرِ، حتَّى تَشعُرَ كأَنَّكَ في صَمِيمِ اللَّوحَةِ، تَتَحَسَّسُ تَفاصِيلَها، وتَتَجاذَبُ الأَحادِيثَ مع شُخُوصِها، وتَرجِعُ، كارتِحالَةٍ في حُلْمٍ، إِلى دِفْءِ أَيَّامٍ خَوالٍ لا تَزالُ لَسعَتُهُ حَيَّةً في حَنايانا.
وإِنَّ في عَمَلِهِ قَدْرًا مِن التَّوثِيقِ لِبَساطَةِ أُلَّافِ الأَرضِ في الرِّيفِ ونَقاوَةِ جِبِلَّتِهِم، ولِعاداتٍ قَرَوِيَّةٍ حَمِيدَةٍ إِلى اندِثارٍ أَمامَ مَدَنِيَّةٍ مَوسُومَةٍ بالرَّقمِ وحَجمِ المالِ والاقتِصادِ؛ كما وفِيهِ تَأرِيخٌ لِحَضارَةٍ تَنزَلِقُ مِن بَنانِنا، سالِخَةً مَعَها أَشلاءَ مِنَ الرُّوحِ، ومُرَمِّدَةً جِمارًا مِن مَواقِدِ أَيَّامٍ عِتاقٍ مِلاح.
وقد نَقُولُ إِنَّ في هذا الكِتابِ دِراسَةً سُوسيولوجِيَّةً لمُجتَمَعِ قَريَةٍ جَبَلِيَّةٍ مَسِيحِيَّةٍ مارُونِيَّةٍ في أَواسِطِ القَرنِ العِشرِين. وهي دِراسَةٌ تَتَوَكَّأُ على شَخصِيَّاتٍ حِسِّيَّةٍ مَرَّت في تارِيخِ واحِدَةٍ مِن قُرانا الجَمِيلاتِ، وتَفاعَلَت مَدَى جِيلٍ أَو أَكثَرَ مُؤَثِّرَةً ومُتَأَثِّرَةً بِمُحِيطِها الأَوسَعِ، قَريَةٍ لَمَّا تَزَل على طابَعِها الرِّيفِيِّ الأَصِيلِ، الأَثِيلِ مَناقِبَ ومَكرُماتٍ، وإِن تَمَثَّلَت بِتَقَدُّمِ العَصرِ عِلمًا ومُختَرَعات. والدِّراسَةُ، هذه، لَم تَتَوَسَّلِ الطُّرُوحاتِ العِلمِيَّةَ الاجتِماعِيَّةَ، ولا مَقُولاتِ كِبارِ المُنَظِّرِينَ، والمَدارِسَ النَّفسِيَّةَ، بل استَنَدَت إِلى طِباعِ ناسٍ لَم تُعَكِّرْها أَلاعِيبُ الحَياةِ الحَدِيثَةِ، وزَيْفِ المُجتَمَعِ، لِذا أَتَت صادِقَةً سائِغَةً لِنَفسِ القارِئِ، تُغنِي المَعرِفَةَ بِحِكَمٍ حَبَكَتها بَساطَةُ الحَياةِ، مِن دُونِ أَن تُرهِقَ القَلبَ وتُمِلَّ الجَوارِح.
يَعتَمِدُ صَدِيقُنا، في بَعضِ قَصِّهِ، المُباشَرَةَ أَو الطَّرِيقَةَ التَّحلِيلِيَّةَ في رَسمِ شَخصِيَّاتِه. فَكَأَنِّي بِهِ يُراقِبُها وهي تُتِمُّ أَدوارَها على المَسرَحِ، فَيَرسُمُ مَلامِحَها، ويُوضِحُ نَوازِعَها، ويُفَسِّرُ تَحَرُّكاتِها وتَصَرُّفاتِها وتَشابُكَها مع الآخَر. ولكنَّهُ، في بَعضٍ آخَرَ، يُقَدِّمُ لَنا شَخصِيَّاتٍ تَنمُو مَدَى السَّردِ، تَفعَلُ وتَنفَعِلُ، إِذ هي حَيَّةٌ نابِضَةٌ… والحَياةُ لا تُقِيمُ أَبَدًا في قالَبٍ جامِدٍ، ولا تَحلُو لها مَراقِدُ المُحَنَّطِين. ولكنَّهُ، في المُحَصِّلَةِ، ورُغمَ اتِّخاذِهِ الواقِعَ العَينِيَّ المُحَدَّدَ تَأرِيخًا ومَكانًا، يَخرُجُ مِن هذه المَحدُودِيَّةِ إِلى فَضاءِ النَّفسِ البَشَرِيَّةِ، حَيثُ التَّعاطِي مُطلَقٌ، والرُّؤيَةُ داخِلِيَّةٌ، والعِبرَةُ عابِرَةٌ للأَزمِنَة. إِنَّها، على يَدِهِ، أَدَبٌ حَيٌّ، باق.
فَيا صَدِيقَنا!
أَكرِمْ بِما دَبَّجتَ، فقد حَفِظتَ لِلآتِي هذه الذَّخائِرَ البَخُورَ مِن أَرضِنا الطَّيِّبَةِ، ومِن ناسِها النَّاصِعِي السَّرائِر.
سَلِمَت يَداكَ، ونحنُ نَعِدُ النَّفسَ بِحِكاياتٍ تَتْرَى، فَلا الرِّيفُ يَنضُبُ، ولا يَراعَتُكَ يَنفَدُ مِدادُها!
****
(*) “دِيارٌ لِسَلمَى عافِياتٌ بِذِي الخالِ أَلَحَّ عليها كُلُّ أَسحَمَ هَطَّالِ” (امرُؤُ القَيْس)
(*) أُلقِيَت في نَدوَةٍ أُقِيمَت في مَدرَسَةِ الإِخوَةِ المَريَمِيِّينَ، جُبَيل، حَولَ كِتابِ “في الضَّيعَة… عِندَنا”، لِلكاتِبِ عِماد فغالِي