مع إطلالة العام الجديد 2018، صدر لإيلي مارون خليل عن دار سائر المشرق رواية جديدة بعنوان “عشيق أمّي”، بحجم وسط، قياس (21 × 14). جاءت في 263 صفحة وثبْتٍ من أربع صفحات لمؤلّفات الكاتب وللتآليف حول نتاجه.
تتألّف الرواية من سبعة وثلاثين فصلًا متفاوتة الطول بين صفحة (الفصل الأخير السابع والثلاثون)، وصفحات متفاوتة العدد للفصول الأخرى.
مختصر الرواية:
ساريا امرأة تضجّ بالأنوثة والحياة، جامعيّة رسّامة شاعرة مثقّفة، تهتمّ بجمالها الخارجي فتعتني بزينة وجهها وشعرها وأناقة لباسها وأنواع عطورها. تزوّجت للمرّة الأولى وأنجبت من هذا الزواج ساره وصبيًّا. لم تكن على وفاق مع زوجها الأوّل، لكنّ الولدين يحترمانه ويحبّانه لمجرّد أنّه والدهما.
بعد سنوات أربع على وفاة زوجها، تزوّجت ساريا ثانية بعصام الذي يقول عن زواجه بساريا: “تزوّجت بساريا من سبع. أكبرها بعشر. بصراحة: بأقلّ من عشرين بشمعة. كنتُ في السّتّين، وقد انتهت إليّ مؤسّسة زوجها الأوّل التّجاريّة: “مؤسّسة الهَنا للتغذية”. إستلمتُ إدارتها من أربعٍ، من فور نجحتُ في السّيطرة على ساريا وتحييد ولَديها”. “ساريا؟ كانت عادت إلى الدّراسة الجامعيّة بُعَيد وفاة زوجها الأوّل، وكانت في سنتها الجامعيّة الأخيرة. رأيت فيها شريكة ممتازة (ص 155) لما تبقّى لي من حياة. وما خاب أملي. لكن، كم عذّبتني قبل قبولها الاقتران بي. إعتبرَتْ أنّي من طبقة الأغنياء، وقد كانت تتحدّر من أسرة عاديّة” (ص 156).
هذا الاختلاف الكبير بين ساريا وعصام، أشعرها، مع مرور الزمن على علاقتهما الزوجية، بفراغ عاطفي كبير، ملأه عشق وهيام للروائي وللصحافي طارق، وحول هذه العلاقة تدور أحداث الرواية التي يتناوب على سردها: ساره وساريا وطارق وعصام.
ما استرعى انتباهي، في الرواية، أمور سأتوقّف عندها، وهذا لا يعني الإحاطة بالرواية بكلّ ما فيها، إذ إنّ غناها في عالم الرواية يستوجب إحاطة أشمل لا أدّعيها لنفسي.
أوّلها: الغوص النفسي على أعماق شخوص الرواية.
ثانيها: السّرد والحوار والأسلوب.
ثالثها: عرض الآراء الشخصيّة.
أوّلًا: الغوص النفسي على أعماق شخوص الرواية
يستوقفنا، في الرواية، موقف الأهل من أولادهم:
- موقف والدة طارق من علاقاته مع الجنس اللطيف وعدم إقباله على الزواج: تصرّ والدة طارق وتلحّ باستمرار عليه بأن يطلّق حياة العزوبيّة ويتّخذ له شريكة حياة يستقرّ معها تحت سقف واحد ويؤسّسان عائلة.
- الموقف من زواجَي ساريا: أهلها امتدحوا الزواج الأوّل، بينما أهله لم يكونوا راضين. وأهلها وحموها لم يكونوا راضين عن زواجها الثاني لأسباب مختلفة.
إذا جمعنا هذه المواقف نجد بينها خيطًا مشتركًا يربطها معًا هو الخوف والقلق على مستقبل الأولاد الذين يتعب الأهل في تربيتهم فيخشون أن يتعرّضوا في المستقبل لصدمات في حيواتهم الزوجيّة.
إنّ هذه المواقف لدليل على بعض علاقاتنا الاجتماعيّة العائليّة، فالأهل يتدخّلون في شؤون الأولاد حتى ولو كبروا وتزوّجوا وأنجبوا.
تُرى، هل كان إيلي في عرض هذه المواقف للأهل، ينقل واقعًا، أو أنّه يلمّح إلى عدم رضاه عنها؟ هنا سرّ الكتابة عند إيلي: يترك للقارئ حرّيّة الاستنتاج، التزامًا منه بما يقوله دائمًا في كتاباته على مختلف أنواعها: القارئ (طبعًا المثقّف الذوّاقة) كاتب ثانٍ للعمل الأدبيّ.
وتلفتنا شخصيّة شقيق ساره الذي يكاد يكون ظهوره في أحداث الرواية بسيطًا، فهو يتدخّل لحماية أمّه من أذى زوجها الثاني عصام لها. ويبرز له دور ذو دلالة في الكشف عن حقارة عصام زوج أمّه إذ يكون (عصام) سببًا لخلاف بينه وبين حبيبته التي تحرّش بها عصام كونها موظّفة تعمل تحت إمرته. ونستنتج ممّا حصل أثر الحب على الحبيب المصدوم لأنّ شقيق ساره عانى اضطرابات عاطفيّة انعكست على تصرّفاته في محيطه العائلي ما جعله يختار الخضوع لعلاج نفسي.
أمّا عصام فهو نموذج للإنسان المقزِّز الذي يمثّل الشخصيّة المناقضة تمامًا لشخصيّة طارق. مادّيّ، يهتمّ بالقشور ولا اعتبار عنده لجوهر الأمور. يتصرّف بنزق مع زوجته، يريد جسدها ساعة يشاء، يتحرّش بأيّة أنثى تسنح له فرصة التحرّش بها. يعبث بعواطف الآخرين مهما كانت النتائج (تحرّشه بحبيبة ابن زوجته وما سبّبه له من صدمة نفسيّة). غيور يحاسب زوجته من غير أن يتنبّه إلى أنّه السبب الأساس لبُعدها عنه ووقوعها في عشق طارق. إهماله لساريا يذكّرنا بإهمال الكسيس كارنين لآنا مع فارق نوعي بين الشخصيّتين (عصام والكسيس).
بقدر ما تعجب بشخصيّة طارق وشغفه وعشقه لساريا، بالقدر ذاته تقرف من عصام ونفسيّته وتصرّفاته خصوصًا عندما ترسم لك ساريا صورته وهو مقبل عليها ليلًا وخوفها منه، وما آل إليه أمره من تقيّؤ وأذى بما حوله.
تُرى، هل كان إيلي يريد أن يبرّر لساريا انحرافها وعشقها؟ الله أعلم بالنوايا. “لا أحد يأمن وفاء (نيّة) شاعر”، (ص 5).
ونلمح، في الرواية، شخصيّات لا تقوم بأدوار مهمّة، لكنّها لافتة، تعود لـ”النسيب طوني” وصاحب المطعم – المقهى الذي يزوره طارق وساريا باستمرار، وبوب ورفيق النادلين فيه. إنّهم محاورون للبطلين، طارق وساريا، ومراقبون ومرافقون لتحرّكاتهما. ونفهم من كلامهم وتحرّكاتهم وتصرّفاتهم أمورًا تضيء على البطلين من دون التصريح بذلك. وكأنّ ايلي، بذلك، يوفّر على نفسه عناء التوضيح، فيترك، كعادته، للقارئ أن يستنتج. وكأنّه، أيضًا، يطلب إلى القارئ أن يستمتع أدبيًّا وفنّيًّا وعقليًّا في قراءته للرواية، فلا يقرأ ليتسلّى ويمرّر الوقت، بل عليه أن يقرأ بتمعّن ليستشفّ النفسيّات بأعماقها من خلال ما يقرأ وما تكشفه القراءة المتأنّية.
ونصل إلى الشخصيّات الرّئيسة: ساره (الابنة)، ساريا العاشقة، طارق العشيق.
ساره فاتحة الرواية، تختصرها، في ثلاث صفحات، ببراعة وبدقّة (طبعًا هما لإيلي الذي وضع الكلام كلّه، في الرواية، على ألسنة الأبطال الأساسيين: ساره، ساريا وطارق)، عارضة علاقة أبويها وموقفها مع أخيها منهما ومن زواجها الثاني.
وجدت ساره صفحات بخط طارق، ص 11، تكشف عشق أمّها له (من هنا العنوان “عشيق أمّي”). تردّدت كثيرًا قبل نشر ما كشفت، لكنّها أخيرًا قرّرت الإفصاح عن هذا السرّ: “فأنا، الآن، أعلن كتابةً، ما أعلنَتْه هي حياةً!” (ص 9) واعتذرَتْ من أمّها: “ولتعذُرني أمّي! متأكّدةٌ، أنا، من أنّها ستعذرُني. وستحِبّ إقدامي. وستحترم رغبتي. وستفخر بجرأتي. فلو خافت، لما أقدمت!” (ص 9). في هذا التصريح لساره كشفٌ لجانب مهمّ من شخصيّة ساريا، سيأتي الكلام عليه في موضعه.
تأكّدت ساره من أنّ أمّها عاشقة لما لاحظته من “تبدّل طرأ عليها: نمط حياة، دُرْجَة ثياب، ألوان لوحات، روائح عطور، اتّجاه كتب تختار وتقتني، سعادة وجه وعينين، نبض قلب… وقبل هذا وبعده، نوعيّة الرسوم واللّوحات الّتي تبدّلت، وكذلك القصائد” (ص 10). نفهم من هذا ما يريد إيلي كشفه عن أثر العشق في حياة الإنسان وتفاصيلها المادّيّة والفنّيّة والثقافيّة والنفسيّة.
بعد أن تأكّدت ساره “المهمّ أنّي عرفت. عرفت وتأكّدت. عرفت وتأكّدت وقلقت” (ص 10)، راحت تراقب أمّها بدقّة داخل البيت وخارجه، وتحاورها حول أمور كثيرة مرتبطة، من بعيد أو قريب، بطارق، حتّى أنّها تجرّأت مرّة وسألتها عن علاقتها الجنسيّة به.
شخصيّة ساره لافتة في الرواية. لم تتزوّج، لم تحبّ حتّى. لم تأتِ على ذكر كلمة لها علاقة بعواطفها الشخصيّة تجاه شاب ما. كأنّها كرّست ذاتها للـ”الانسان الأحبّ إلى قلبي، والأكثر تمكّنًا منه، والأعمق تأصّلًا فيه! فأسائل ذاتي،… أيحقّ لي أن أطرح هذا السّؤال المتعلّق بأمّي؟!” (ص 8).
مع قراءتك للرواية لا تعرف أيّ ملمح من ملامح ساره الخارجيّة. كلّ ما تعرفه عنها شغفها بأمّها وبأخبارها وبعلاقتها بطارق وبأثر هذه العلاقة عليها وعلى سعادتها.
ساره تهتمّ بأمّها وبأخيها، فبقدر فرحها لانعكاسات العشق على أمّها، تأسف لما حلّ بأخيها جرّاء تحرّش عصام، زوج أمّها الثاني، بحبيبته.
إنّها الراوية المراقبة الشغوف المتناسية لذاتها. إنّها ضحيّة الرواية. تتحوّل من فتاة فرحة بعشق أمّها إلى فتاة حزينة مكتئبة مختنقة جرّاء ما انتهت إليه علاقة العشق بين أمّها وطارق (ص 257). هي تعرف أنّ العلاقة انتهت لكنّ ما يقلقها انّها لا تعرف أسباب ذلك: “لست واثقة من الأسباب… هو شعور. مجرّد شعور. بنيته انطلاقًا من بعض تباعد. خفّت الاتّصالات. اللّقاءات. الاجتماعات…” (ص 257).
موقف ساره من عشق أمّها يمثّل هول الصّدمة الذي ينتج عن انفراط العقد العشقي الصارخ اللاهب بين عشيقين متيّمين. إنّه قدر الأولاد المتعلّقين بأهلهم، ولاسيّما الأمّ، يسعدون لسعادتهم ويشقون لشقائهم. إنّها إشارة خفيّة من إيلي، ربّما، للعلاقات العاطفيّة بين العشّاق والأهل الذين يكونون على علاقة متينة راسخة جيّدة، وفجأة يصدمون أولادهم بفسخ العلاقة أو الزواج: “الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون”.
أمّا ساريا فهي المرأة العاشقة التي ترفض أن تعيش بلا رجل: تزوّجت مرّتين: توفّي زوجها الأوّل فتزوّجت ثانية. لم توفّق في زواجها الثّاني فعشقت عشقًا يذكّرنا بعشق الشعراء العذريين الذين أصيب بعضهم بالجنون جرّاء الحبّ الجارف الذي أصابهم، لكنّ ساريا لم تجنّ ولم تبقَ عذريّة في عشقها. لقد ذهبت في علاقتها بطارق حتى الوصال الجسدي. إنّها آنا كارنين تولستوي الجديدة، من غير أن تنتحر جسديًّا. لقد أطاحت بكل القيود: هي أمّ وربّة بيت وزوجة وابنة مجتمع شرقيّ، فما أقامت اعتبارًا لهذه الروابط، بل تحدّتها جميعها في سبيل تلبية نداء قلبها نحو عشيقها طارق.
هذا الانجراف العاصف في علاقة العشق، صُدِمَ بواقع مرير، فساريا وصلت إلى مصارحة طارق بقولها: “سأطلّق لأكون معك ولك… هل أنت مستعدّ؟” (ص 241). ساريا تؤمن بأن عشقها لطارق يجب أن يتحقّق في الواقع، وهذا ما طلبته إلى طارق الذي كان يكتب ما لا يتوافق مع واقع تصرّفاته: “إلّم تكن مقتنعًا بفكره، فكيف تجريها على لسان بطل من أبطالك؟ لا تكن بشخصيّتين! ما تؤمن به، أكتبه، واحيَ بموجبه، وإلّا فأنت منفصم الشخصيّة، أو كاذب!” (ص 241). وطارق على رغم عشقه لساريا لم يتخلّ عن علاقاته بالعديدات غيرها، تسأله ساريا: “كيف تجعل قلبك مأوى عديدات؟” (ص 240)، وهذا يفضح التناقض في شخصية طارق إذ يتساءل في نفسه: “… كيف أستمرّ مع “هنّ”، إذًا؟! طالما أنّها تهواني، وتخلص لي، ولا “تخونني” إلّا مع زوجها.” (ص 240).
عندما أدركت ساريا هذه الحقيقة المرّة، وأيقنت أنّ طارقًا لا ولن يستطيع التغيّر حسبما يقتضي عشقهما، قرّرت قطع العلاقة والدّوس على قلبها، فانتهى هذا العشق إلى ما لم يكن متوقّعًا. لا ساريا رضيت أن تستمرّ “شهوة”، ولا طارق رضي أن يغيّر قناعاته.
أمّا طارق فهو شاب روائي صحافي متمسّك بعزوبيّته رغم إلحاح أمّه عليه بأن يتخلّى عنهنّ، ويتّخذ له شريكة حياته فيسعد معها. لم يكن طارق ليلبّي رغبة أمّه، ولا هو استجاب لطلب ساريا التي كانت مستعدة أن تطلّق زوجها الثّاني ليتزوّجا فيتحوّل عشقهما إلى زواج سعيد قائم على حبّ حقيقيّ عميق.
كانت علاقات طارق بهنّ سرّيّة حفاظًا على سمعته الأدبيّة والاجتماعيّة بين معارفه: “لمَ لا أستطيع التوقّف عن هذه “الشهوات” التي أخفيها عن الناس فيحسبوني “مُنَزَّهًا”. المسألة أنّي أعرف الصّورة الّتي كوّنها مجتمعي عنّي فأعمل على ألّا “أسقط” في أعينهم! فأكذب عليّ وعليهم. ثمّ إنّ الله أمر: لا تزنِ! لا تشتهِ امرأة قريبك! ولم يأمر: لا تحبّ!” (ص 240).
طارق يفلسف الأمور كما يريد. ما هو ممنوع علنًا مباح سرًّا ولو خالف تعاليم الدّين. إنّه يعتمد المنطق التبريري “لا تزنِ”! ألم يزنِ مع ساريا وغيرها؟ “لا تشتهِ امرأة قريبك!” هل حسب أنّ القريب هو جاره أو نسيبه؟ هل تفسير طارق لهذه الوصيّة يسمح لكلّ رجل بأن يشتهي أيّة امرأة لغير قريبه؟!
إنّه نزق الشباب. يذكّرنا طارق بفرونسكي عشيق آنّا كارنين في رواية “آنّا كارنين” للكاتب الروسي ليو تولستوي. لقد جرّ فرونسكي آنّا إلى علاقة زنى فأنجبا فتاة غير شرعيّة، وانتهى الأمر بآنّا إلى الانتحار. صحيح أنّ ساريا لم تنجب ولدًا غير شرعي من طارق، ولم تنتحر، لكنّ طارقًا مسؤول إلى حد كبير عن انجراف ساريا في عشقها الكبير له، ثمّ في صدمتها وتخييب آمالها حين لم يلبّ رغبتها في الزواج منه بعد تطليق زوجها.
لا شكّ أنّ ساريا مسؤولة أيضًا عمّا أقدمت عليه مع طارق وقد تحمّلت نتيجة أعمالها، فأقرّت في مطلع الفصل الأخير ص 263 بأنّها مع طارق يتحمّلان معًا مسؤوليّة ما آل إليه عشقهما: “بادرنا معًا. لم يتمّ انحناء”. فالمسؤوليّة مشتركة في الشروع وفي الختام. إنّه إقرار الكبار في عواطف الحبّ، فلا تنكّر للماضي الذي رسماه معًا وأقدما على تنفيذ كلّ خطواته بالرضى. حين كانا يتلاقيان كانا يسعيان معًا إلى اللقاء، فإذا اتّصل طارق لبّت ساريا، وإذا اتّصلت ساريا لبّى طارق.
في ختام هذه الالمامة السّريعة بشخوص الرواية، أنت تسعد بكلّ تفاصيل أحداثها العشقيّة، ولكنّك تأسف وتحزن حين تصل إلى النهاية التي انتهى إليها عشق هذين العاشقين المتيّمين، بل إنّك تصدم. مع القراءة تتمنّى وتترقّب أن يلتقي العاشقان في علاقة أبديّة، ولكنّك تصدم بما انتهى إليه أمرهما لأنّ المقدّمات لا تمهّد للنهاية التي وصلا إليها.
إنّها براعة إيلي في التشويق والصّدم، كأنّه، في عالم العشق، أغاتا كريستي في عالم الإجرام.
نختم بأنّ إيلي رسم، من خلال شخوص هذه الرواية، صورة قد تكون حقيقيّة إلى حدّ بعيد لما هو قائم في بعض العائلات ضمن جدران منازلها المقفلة.
والمتتبّع لتفاصيل السّرد والحوار، عبر تفاصيل الرواية، والعارف بإيلي شخصيًّا وبثقافته، يستنتج أنّه أسقط الكثير ممّا وُهِبَهُ على سارة وطارق، فوزّع عليهما طاقاته الأدبيّة وثقافته المتنوّعة ومشاركته في زيارة المعارض والكتابات الأدبيّة، وشغفه باللوحات اللبنانيّة.
ثانيًا: السّرد والحوار والأسلوب
“إلى من يهمّه الأمر!” (ص 5).
هكذا تبدأ الرواية. كأنّنا أمام رسالة إداريّة أو إفادة رسميّة. ثمّ تقرأ مباشرة في السّطر التّالي: “لقد عَبَرَ أبي…” (ص 5) فتتساءل: من هو صاحب ضمير المتكلّم هذا؟ وفيما تتابع القراءة تكتشف أنّه يعود لساره ابنة العاشقة ساريا تروي حكاية أمّها منذ وَعَتْها إلى انقطاع علاقتها بعشيقها طارق. ترويها بكلّ دقائقها وتفاصيلها وتعرّجاتها وخفاياها.
ومع تتابع الفصول تكتشف أنّ ساره ليست هي الراوية الوحيدة للأحداث، بل يتناوب على روايتها كلّ من: ساره وساريا وطارق وعصام. وفيما تتابع القراءة، منسجمًا مع الأحداث المتلاحقة المترابطة، متتبّعها لحظة بلحظة، ينقلك إيلي ببراعته الأسلوبيّة المعهودة بين سرد ووصف وحوار ذاتي وحوار ثنائي تصبّ كلّها في سير الأحداث نحو الخاتمة المرتجاة.
واللافت في الرواية، من بابها إلى محرابها، أنّك لا تقع على لفظة واحدة صعبة تستوجب منك قطع القراءة لتتفكّر في معناها، أو لتبحث عنه في المعجم. إنّها طبعيّة الأسلوب الحيّ المتحرّك المتميّز به إيلي مارون خليل. إنّ طبعيّة أسلوبه هذه تنساق مع شخصيّات روايته، فوالدة طارق تتكلّم الفصحى الهادئة عندما تريد إقناع ولدها بالزواج فتقول: “النجاح، طارق، يكون ببناء حياة مستقرّة، مطمئنّة، هادئة، مع امرأة فاضلة وأولاد خلوقين. الحياة الناجحة هي التي ترضي الله، وتقود إليه، بعد العمر الطويل” (ص 71).
ولكن، عندما تسمع طارقًا يجيبها “ممازحًا، أو ساخرًا، بما يثيرها” (ص 71)، “تحرن، أمّ طارق، أمّي. تنظر إليّ غضبى. تنسحب مبربرة بما لم أفهمه… تختفي راسمة إشارة الصّليب، لاهثة” (ص 71). وتقول بالعامّية العفويّة المنسجمة مع غضبها المسيطر على عقلها ولسانها فتنطلق على سجيّتها قائلة: “يا عذراء! نوّريلو عقلاتو، خلّيه يوعا مسؤوليّاتو بهالحياة!” (ص 71).
وينسحب الأمر ذاته على شقيق ساره عندما يستنجد بشقيقته ساره للتدخّل بين ساريا وزوجها الثّاني عصام إثر مواجهة حادّة بينهما: “دخيلك، ساره! ساعديني! رح يقبّروا بعضن! بيجرّصوا حالن وبيجرّصونا!” (ص 167).
ولا ننسى براعة إيلي في حشد الأحوال المتلاحقة: “… ورحْتُ، محلِّقًا، متأمّلًا، حالمًا، رائيًا…” (ص 49)، مع ما يضفي هذا من إيقاع موسيقي عذب يتناغم مع الجوّ الرومنسي المسيطر على طارق الغارق في تساؤلاته حول لقائه بساريا، ومحاولة معرفة أي ومتى التقاها سابقًا (ص 49).
وتلفتنا براعته في حشد التشابيه: “… خيّم ضياؤها، مشرقًا كصباح البشريّة الأوّل، فوّاحًا كالفردوس المأمول، صاخبًا كعصف قلبٍ عاشق، مسيطرًا كإيمانٍ مطلَق!” (ص 45). ولا بدّ من الإشارة إلى استيحاء إيلي لبعض تشابيهه من ثقافته الدينيّة وإيمانه العميق (أليس هو ابن الخوري مارون ومتأثّر به حتى العظم!؟).
وفي بعض السّرد ملامح تربط الرواية بالواقع الحقيقي الذي يعيشه إيلي أو يحيط به، فهل يشير هذا إلى بعض الواقعية الحقيقية التي استمدّ منها إيلي أبطال روايته وسيرهم وتصرفاتهم مع تغيير للأسماء والوقائع؟ فهو يذكر في أعلى الصفحة 13 تاريخًا دقيقًا يشير إلى زمن ولادة طارق. فهل هو تاريخ ولادة أحد ما من المقرّبين إلى إيلي؟ عادةً، يميل إيلي إلى هذا الرّبط الواقعي، حسبما لاحظنا في بعض كتاباته السابقة.
والواقع، كما أعرفه من إيلي مباشرة، أنّ تاريخ 20 شباط هو تاريخ ولادته الفعليّ، في حين أنّ تاريخ 22 تشرين الأوّل هو المسجّل على هويّته. أمّا السّنة 2001 فليست حقيقيّة. كأنّه المخرج السينمائي ألفرد هيتشكوك، لا بدّ من أن يمرّ ولو مرور الكرام في مشهد من كلّ فيلم أخرجه.
ثمّ يشير في ص 25 على لسان طارق إلى “موقع إلكترونيّ أدبيّ أنشأته صديقتي “كلود” من سنوات، إذ قرفت من الصّحافة الورقيّة” (ص 25). وهذا الموقع هو الذي ينشر إيلي، على صفحاته، بعض نتاجه الأدبي، وهو يعود للإعلاميّة كلود أبي شقرا. إنّه تسجيل واقعيّ وفاءً واعترافًا بجميل صديق.
ثالثًا: عرض الآراء الشخصيّة
صراحةً، لقد أتعبتني أيّها الصّديق العزيز في جمع آرائك الشخصيّة المبثوثة في تضاعيف الرواية على ألسنة شخوصها. أتعبتني لكنّك أغنيتني. لو شئت جمعها وإيرادها هنا لاحتلّت مساحة واسعة. لن أتعب القارئ بذكرها بالتفصيل، ولكنّني أشير إليها بعناوينها، تاركًا لمن يقرأ الرواية أن يتعب، كما تعبت، وأن يغتني، كما اغتنيت، وأن يتلذّذ ويتمتّع بهذا الوفر الثرّ من الآراء الشاملة. لم يستطع إيلي، جاحظ القرن العشرين وما بعده، إلّا أن يكون موسوعيًّا، على غير استطراد، فيبثّ ما جمعه، طوال عمره، مدّ الله به سنوات طوال، مع وافر الصحّة، في ثنايا تآليفه، ولاسيّما في هذه الرواية من معارف واستنتجه من آراء واتّخذه من مواقف تشمل:
الزواج بشجونه وشؤونه (ص 5 و6 و64 و65 و66)، الأوضاع العائليّة ومشاكلها (ص 5 و34)، غدر الشعراء (ص 6)، العلاقة بين الحرّيّة والأخلاق (ص 8)، الكتابة والحياة (ص 9)، الحب والفرح (ص 10)، أسئلة وجوديّة مصيريّة فلسفيّة (ص 13)، الثّورة والحرّيّة (ص 17)، آراء حول النّساء (ص 25 و69 و75 و102)، نعمة الصّمت (ص 28)، الإنسان وقناعاته (ص 32)، نقدًا لمركز بكركي (ص 33)، الذّكريات والأحلام (ص 33)، الشّراهة في الأكل (ص 47)، نقدًا لقرارات لجان التحكيم في المباريات (ص 50)، رأيًا في وسائل الإعلام (ص 53)، نقدًا لحرّيّة الإعلام (ص 54)، الإرادة والتحقيق والمعرفة والثّقافة (ص 54)، نقدًا للمثقّفين (ص 55)، نقدًا لنشرات الأخبار (ص 55)، موقفًا من العميد ريمون إدّه وغيره من الزّعماء المسيحيّين (ص 56)، نصائح صحّية (ص 56 و57)، رأيًا حول النّقد الموضوعيّ (ص 58)، رأيًا في الأمّيّة (ص 65)، أحلام الفنّانين (ص 86)، نقدًا لجمع النّفايات (ص 104)، وغيرها الكثير الكثير.
ألم تتعب أيّها القارئ العزيز؟! والله، ايلي متعب. الثّقافة حملها ثقيل على صاحبها وناشرها والسّاعي إليها.
أخيرًا، هنيئًا للمكتبة العربيّة برواية جديدة ثرّة مميّزة في أدب الرواية. وهنيئًا لنا بك أخي إيلي أديبًا مثقّفًا لامعًا، تحمّل الكلمة خزائن معرفة وثقافة، تنقل الواقع بما لا يجافيه ومن غير ثقله وقساوته. تُمتع وتُثقّف، تعظ وترشد بلباقة ولياقة من غير أن تجرح أو تسيء. تدخل الأعماق البشريّة بأدبك من غير أن تكون عالمًا متبحّرًا متخصّصًا بالنفس البشريّة.
إنّها عينك الثّاقبة المراقبة، وقلبك النّابض بحبّ الحياة، وصدقك وصدق كلمتك وقلمك.
إمّا أن تكون الكلمة صادقة ولو جارحة، وإلّا فلتسكت الأقلام. والسّلام.
13/2/2018