من السذاجة إقناع اللبنانيين بأن كلام وزير الخارجية اللبناني الذي تناول فيه رئيس المجلس النيابي، هو العامل الذي فجّر الصراع وأثار الفوضى ووضع البلد على شفير حرب أهلية، فمثل هذه اللغة سائدة بين أهل الحكم المتخاصمين، بل تمكن استعادة ما هو أفدح منها من سجالات تحمل تعبيرات مقذعة وغير أخلاقية أحياناً كثيرة. كان التوصيف حجة لفتح معركة تصب في قلب الصراع على المحاصصة والصلاحيات بين الطوائف وممثليها.
وبعيداً أيضاً من التفسيرات السطحية التي ترى الصراع نتيجة لانعدام «الكيمياء» بين رئيس حركة «أمل» ورئيس الجمهورية ووزير الخارجية، فإن الصراع الذي اندلع تكمن جذوره في الانهيار المتمادي لتسوية الطائف الأصلية، وللتسوية التي تجددت لهذا الاتفاق نهاية العام 2016، والتي أتت بميشال عون رئيساً للجمهورية وسعد الحريري رئيساً للوزراء. على امتداد عام من التسوية، كانت صراعات أهل الحكم عنواناً رئيساً في البلاد، وهو صراع على المحاصصة بشكل رئيسي. تميزت هذه الفترة بسعي من المسيحية السياسية ممثلة هذه المرة برئيس الجمهورية وتياره، لتغيير التوازنات الطائفية التي كرسها اتفاق الطائف 1989. فتحول شعار استعادة الحقوق ومعها صلاحيات رئيس الجمهورية «المسروقة» من المسيحيين والموهوبة إلى المسلمين، عنواناً لمعركة يومية، محكومة لأن تتلبس اللباس الطائفي وأن تشحن الشارع بالشعارات المذهبية.
في المقابل، ترافقت معركة الصلاحيات واستعادة الحقوق مع صراعات بين أهل الحكم على الصفقات المالية، في النفط والكهرباء وغيرهما من القطاعات التي تدر مالاً يسعى كل واحد إلى نيل النصيب الأكبر منه. وخلافاً لشعارات «العهد القوي» والإصرار على الإصلاح والتغيير، تكشف العهد عن نمط من الحكم يسعى إلى الاستئثار بالصلاحيات، وتحويل هذا الحكم إلى ما هو سائد في النظام الرئاسي، معطوفاً على الإتيان بصف من الوزراء من عديمي الخبرة السياسية والمعرفة بالبلد وتوازناته، ناهيك بسياسة خارجية أطاحت معظم ما كان سائداً من تقاليد تمنع انحياز البلد إلى المحاور والصراعات العربية والإقليمية.
في الوقت الذي كان رئيس الجمهورية يكرّس بحكم الأمر الواقع قواعد تتجاوز اتفاق الطائف سعياً للانقلاب عليه، كان فريق من أهل النظام المتمثل بالشيعية السياسية يسير في خط آخر يسعى من خلاله إلى انقلاب آخر على الطائف معاكس لما تريده المسيحية السياسية. ترى الشيعية السياسية أن موقعها في الحكم لم يعد يتناسب مع الموقع السياسي– العسكري– الاقتصادي الذي تحتله الطائفة الشيعية. وما كان جائزاً قبل «الطائف» لم يعد له مكان في السنوات الأخيرة، فالشيعية السياسية التي تستند إلى قوة مسلحة في الداخل، قادرة على تعطيل البلد عندما لا تتناسب قرارات الحكم مع أهدافها وتطلعاتها. برزت مظاهر هذا التحول في موقع الشيعة من توزيع الحكم، وخصوصاً في السلطة التنفيذية. جاء الإصرار على احتكار وزارة المال للطائفة الشيعية أحد العناوين في معركة تبديل التوازنات، فالتوقيع الإلزامي لوزير المال على كل المراسيم يؤمن مشاركة للطائفة الشيعية، ولو كانت منقوصة، في اتخاذ القرار.
ولعل معركة مرسوم الأقدمية لضباط «دورة عون» هو دليل على هذا التشبث بالتوقيع. منذ فترة غير قصيرة، كانت الشيعية السياسية قد بدأت تفصح عن تبدل في التوازنات لمصلحة المثالثة بدلاً من المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، من طريق الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي، ويُتداول في الكواليس أن الشيعية السياسية تريد مناصفة على شكل آخر : النصف للشيعة، والنصف الآخر للمسيحيين والسنة.
لا شك في أن المعركة الأخيرة في الشارع وفي الإعلام هدفت إلى شد العصب الطائفي، خصوصاً عند المسيحيين، بالنظر إلى طريقة رد حركة «أمل» على الفيديو المسرّب، وبهذا المعنى كانت إفادة التيار الوطني كبيرة، كما شدت من عصب جمهور «أمل» الذي لا يحتاج إلى مناسبة كي يجري استنفاره. لكن الخطير في «المعركة» أن تواصلها قد يطيح الانتخابات النيابية.
أما نتائج هذه المعركة على صعيد الحكم، فلا شك في أن حداً كبيراً من الشلل سيصيب السياسة والإدارة، بما يعنيه من تعطل للمؤسسات التنفيذية والتشريعية. ما يعني أن مفعول تسوية العام الماضي قد استهلك، ودخل البلد في نفق جديد يحتاج إلى تسوية يعجز أهل الحكم بصراعاتهم عن تحقيقها ولو في حد أدنى.
تبقى كلمة عن الخطاب الذي ساد خلال هذا الأسبوع من احتدام المعركة. على مستوى الإعلام المرئي أو المكتوب، ساد خطاب حاد يمكن اعتباره مألوفاً في الحياة السياسية. لا يعكس هذا الخطاب ما هو على الأرض، الذي يجد تعبيره في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث انتشر خطاب سوقي يسوده الكلام البذيء البعيد من الأدب والأخلاق، وهو كلام تفنّن في إطلاقه ونشره مؤيدو الطرفين المتصارعين. بدا الأمر كأن البلد يقف على شفير الحرب الأهلية. في كل حال، تبدأ الحروب الأهلية بالكلام، ثم تتحول الكلمات إلى رصاص.