دأبتْ على الاقتطاعِ من أفراحِها لتزيدَ من رصيدِ أفراحهم، إحساس يمتدّ بها لتمتطي وهج الحقيقة وتقفُ شامخة على حدّ حدس المبالغة.
خاضتْ حروبا ضارية مع الظروفِ، منْذ أنْ سلمها زوجها مشعل القيادة ، تلك الحقبة العصيبة التي أعطتها فرصة المجابهة بمفردها .
أتراها الأقدارُ اختلستْ من مشاعرها الطيبة لتجعلهم يدورون في فلكها، الأمّ ربيعة صديقة مثالية لأبنائها الأربعة الولدين والبنتين. ما عكرَ طيب فرحها بهم إلا مطالبهم، وغياب والدهم في بلاد الخليج لتأمين حياة أفضل لهم.
مساحة الحنين التي بداخلها ارتأت ملء إنائها من احتوائها لهم.
حاجتها لعبد الهادي ليقف إلى جانب نافذة حلمها المطل على الهناء ازدادت بمرور السنوات. حين عودته كان بناء البيت قد اكتمل بأدواره الأربعة وملكيته مسجلة باسم ربيعة وأيضا المبالغ المالية التي تبقت من البناء، تَخرجَ الأبناء من الجامعة وازداد بداخلهم امتداد الجسر المؤدي لحياة الرفاهية دون غيره..
ما هزم عبد الهادي عند عودته بعد أربع عشرة سنة من الغياب لم يزرهم فيها إلا مرات معدودة، وما لم يستطع فك شفرته هو الابتسامة التي غادرت ملامح أطفاله.
في لحظة اعتراضه عن تصرفاتهم، اتفقوا مع أمّهم ربيعة التي مالت ناحية نكرانهم
وفرشت بساط الخضوع لهم، أرادت كالعادة الالتحاف بفيض محبتهم أكثر.
لم ترغمهم استعطاف نظراته على الميل ناحيته بل راح يضمد مشاعره التي أسرف ذات غياب في هدرها لتأمين أفراح إضافية لهم ولأمّهم، التّي سجلت كلّ شيء باسمها بحجة غيابه.
ذات صباح رتب خيبته في حقائب الوجع، وتوجه للإقامة في الرّيف عند أخته الكبرى التي لامس حاجتها إليه كما أراد أن يُشْهِدها على زخم المآسي التي حلت به.
في غمرة مباهاتها بهم ، وإغداقها لدفء المحاباة، كرروا على مسامعها رغبتهم في تسجيل ملكية البيت بأسمائهم كهدية لتشيد صرح المحبة لهم و لزوجاتِهما وأزواجِهما في المستقبل القريب.
ما أدركته الأم ربيعة أن سهام غربتهم التي ألحقوها بوالدهم تستهدفها مباشرة هذه المرة، وتظل كلماتهم تتسلل بين رضاها وسخطها، الذي أصبح طيفه يسرق منها النعاس، فغيابه زاد عن السنة.
تذكرت ما قاله لها حين مغادرته: “عدتُ من الغربة لأسند أيامي الباقية على عضد ألوذ إليه بينكم فإذا بغربتي بينكم أشد” .
ضمتهم لصدرها ذات بوح وبشرتهم بموافقتها على تسجيل البيت بأسمائهم، عند الكاتب العمومي سألتهم بنبرة نزع منها فتيل الأمل: إن كانت لهم طلبات أخرى.
كان فكرهم يمتدّ على طريق الغبطة، ووقع المفاجأة يلوح لهم بدخول والدهم عبد الهادي مجلسهم، تلقت حضوره ربيعة بابتسامة صامتة، وتأملت دهشتهم الخرساء
قالت بنبرة لا تخلو من خيبة ظاهرة: وهي تفتح ملف وتوقع أسفله: “أعدت ملكية البيت لوالدكم”، وهمست وهي تقترب منه: “كان يجدر بي أخذ الحيطة، الغربة التي رُتبت لك كانت مدبرة لي”.