السّيّد درويش سيّدهم السّیِّد درویش… سّیدھم

    

[إهداء الى المربية الفاضلة الباحثة التّراثيّة الأستاذة نائلة لبّس عزّام المبشّرة الأولى بالسّيد درويش. لها الاحترام.]

إزاء تصحّر الموسیقي العربیّة، والعقم الحضاريّ الزاحف إلینا كالجراد ، والوافد إلینا كوباء انفلونزا الطّیر الأبابيتل التي ضربت اصحاب الفيل ، هكذا تضربنا أقنیة محطّات تلفزیونات سخافات عرب سات للشّیوخ والملوك والأمراء النّفّاطین بالذّّھب الأسود ، والعّفَاطین بعِيّ الخُطْب التي ستجعل الرّوح العربیّة خلال ثلاثة عقود عجفاء خاویة ھزیلة بالقھر والحصر والأغاني السّخیفة المتعثّرة بذیل الغباء ، وبشبكات أنابیب البترول الإماراتي / الامریكي المموّھة بورود حمراء، ومناظر بلاستیكیة خضراء ربیعیّة , نعم إزاء ذلك وقفت مُتلجلجاً متردّدٍا أمام كتابة شيء ماعمّا یسمّى موسیقى الأغاني العربیّة الرّائجة ، وعن بعض أصحابھا.

وأنا الذي كنت كلمّا تناولت أسطوانة من مكتبتي الموسیقیة والتي لحسن حظي عامرة بالموسیقى الكلاسیكیّة الأوروبیّة لأضعھا تحت إبرة الفونغراف أحسّ أنّ كلّ أسطوانة أسمعھا تبعدني كل یوم مسافة ما ــ وأنا غیر آسف ــ عن سماع ما یُسمّى الموسیقى العربیّة ، أو على الأصح موسیقى الأغاني العربیّة ذلك لأنّ الموسیقى العربیّة البحتة المجّردة والتّعبیریّة والتّصویریّة نادرة ندرة نبذ الشّجر في سھوب جافة جرداء قاحلة. وهكذا فالموسيقى الخالصة المستقلّة عن الشّعر والزّجل نادرة بل مفقودة غير موجودة عندنا. فليس لدينا موسيقى مستقلّة مجّردة أو تعبیریة أو تصویریّة كما سبق القول.

أمام ذلك التّلجلج والتّردّد وجدتني أمسك كُتیبًا صدرعام 1992 بمناسبة مرور مائة عام على میلاد الموسیقى السّید درویش (1892ــ 1923) لمؤلفه عبد الحمید توفیق زكي إصدار دار المعارف بمصر. لقد ترك ذلك الكتیّب في نفسي إنطباعًا أنّه كتب من ” قفا الإید ” كما یقولون عندنا ، لیكون ” تبرئة ذمّة من دار المعارف كي لا یفوتھا في ھذه المناسبة أن تقول لنا وللمصریینّ وللعرب أجمعين : لقد ولد عندنا موسيقيّ وملحّن عبقريّ !! ثم مات !! فاقرأوا معنا الفاتحة على روحه الطّاھرة ! إنني لمقتنع أن قراءة الفاتحة الیوم على روح السّید درویش أو المقرئ الشّیخ محمد رفعت أو الكاتب سلامة موسى والمثّال محمود مختار أو الزعیم جمال عبد النّاصر تعتبر والله لفتة كریمة , بل منّة عظیمة في ھذا الزّمن الألوق الأخرق المتامرك بالكوكا كولا والمالبورو من كعب بابوجه إلى شُرّابة طربوشه.

أعتقد أنّ السّید درویش الذي نشأ وترعرع ونشط ذھنه الموسیقيّ الوقاّد إّبان تفّجر الثورة المصریّة 1919 على الاحتلال الإنجلیزي رغبة في التّحرر والاستقلال كان ولیداً لتلك الظّروف التيَ تبلور فیھا طموح الأمّة نحو تحقیق ذاتھا , ولا شيء مثل طموح الأمة نحو تحقیق ذاتھا ینعكس أو تعكسھ أعمال عظمائھا من فنانین: شعراء وأدباء , ومفكّرین ورجال سیاسة مكافحین , ولذا فلن یكون السّید درویش في الفنّ الموسيقيّ الغنائيّ والمسرحيّ إلاّ صنًوا لأحمد عُرابي في ثووته ، ولمصطفى كامل في وطنیّته ، وللطفي السید في أستاذيّته ، ولطه حسی في عمق نظرته، والعّقاد في عصامیّته وشمول ثقافته ، ولشوقي وحافظ ومطران كلّ في شاعريّته. لیس عجیباً ولا غریباً أن یكون السّید درویش وحده مدرسة موسیقیة قومیّة في مصر , وأنّه بذر في حقول الموسیقى العربیّة بذارًا نقیًا سلیمًا, وسقاه وتعھده حتى نما وزكا , ولكن إلى حین.. ولم يُفد منه أساتذة الموسیقى الذین تلقوها بعده .

وھكذا عاش السّید درویش غریباً ومات غریباً ، وربمّا سیظلّ غریبًا على الأقل عن المؤسسة الرّسمیة ، وإن كان المشتغلون بورشات الموسیقى في مصر یشھدون له بالعبقریّة، وفقط في المناسبات من خلال البثّ المرئيّ المبعثر, أو الإذاعيّ الضائع في الأثیر, وكان الأحرى بھم أن ینفذوا إلى عمق أعماله لیمارسوھا لا أن یقفوا معجبین عند شطوط إبداعه, دون الخوض في لججه متھّیبین أو عاجزین. یقول الأستاذ عبد الحمید توفیق زكي في كتیبه ” سید درویش في عید میلاده المئوي” ” إن سیّد درویش نقل الموسیقى الغنائیّة المصریّة من مرحلة التّطریب إلى مرحلة التّعبیر التي دیدنھا الصّلة الموضوعیّة بین الكلم والنغم” ..

ویقول أیضا : إنه عمد إلى صیاغة اللحن البولیفونيّ أي المتعدّد الأصوات والأسطر اللحنيّة , فجعله ثلاث مجموعات تغني ثلاث ألحان مختلفة ، بكلمات مختلفة ، وموضوعات مختلفة في وقت واحد بطریقة مستساغة بالرّغم من أنه لم یكن قد درس علوم الموسیقي التوافقیّة ، والتّوزیع الآليّ والغنائيّ وما وراء ذلك من التّدوین الموسیقيّ ، وما إلیھا من العلوم الموسیقیّة العالمیّة !! ھاتان المیزتان التّعبیریّة والبولیفونیّة التّوافقیّة في موسیقى السیّد درویش ، ورؤیته أنّ الموسیقى لم تخلق لتعیش أسیرة في صالونات الباشوات والاغاوات والبكوات بل یجب أن تخرج إلى المسرح الغنانيّ لتكون ذات رسالة ، لان الموسیقى تخدم في عالم الفنّ والمسرحیّات البحتة ، ومسرح المنوّعات, والمسرح الاستعراضيّ , والأوبرا والأوبریت , والبالیه ، والفرق الفنیّة الشّعبیّة الاستعراضيّة ّالراقصة ، فضلا عن السیرك إذا اعتبر نوعا من العروض المسرحیّة. یعتبر السید درویش بنظر النّقّاد ثورة في التّفكیر الموسیقيّ..

ولقد أراد للموسیقىّ أن تتوجه وجھة غیر التي ھي علیھا, حتى إذا نشبت ثورة 1919 أصبحت موسیقى السّید درویش الصّورة الحقیقیّة لثورة الشّعب المصريّ بكل فئاته، وبالمقارنه مثلا مع ثورة 23 یولیو سنة 1952 , والتي كانت حربًا على الملكیّة والإقطاع في مصر، لم نجد من یواكب ھذه الثّورة من الفنّانین لیؤدّي ما أّدّاه السّید درویش عام 1919 اللھمّ إّلاّ ما كان من أغاني حماسیّة صارخة لتمجید الزّعیم جمال عبد النّاصر باعتباره أمل أمّة. حتى جاء الذي بعده فنسخ، وبجرة قلم ، ما كان قبله . على أنه لا یستطیع أيّ ناسخ مھما كانت جبروته أن ینسخ أو یمسخ آیة واحدة من آیات الإبداع التي جادت بھا عبقریة السّید درویش عندما تفجرت ثورة 1919 . ومن ھنا یمكن اعتبار رسوخ موسیقى السّید درویش میزة ثالثة ، وكأنّها في خلودھا نھر النیل , أو هرم من الأھرام التي لا تتزعزع , ولا تتضعضع. وأما المیزة الرّابعة فھي رفع صوت الشّعب المصريّ , لانّ السّید درویش عبّر بموسیقاه وأغانیه عن أناس لم یكونوا في العیر أو في النفیر من وجھة نظر الحكّام والسّادة الإقطاعیّین. إنّ طوابیر الصّنایعیّة والمراكبیة والشّیالین والسّقائین والعربجیة والفلاّحین والغلابة الصّایعین الضّایعین والذین ” لحس الكوكائین مخّھم ” جعل لھم السید درویش صدى في موسیقاه وأغانيه بل صوراً إنسانیة, حتى لقد شحن المسرح بجوّ الرّیف المصري الصّعیدي والنّوبيّ السّودانيّ ، وسخرت موسیقاه الكاریكاتوریّة من الحكّام , والطّغاة المتعجرفین أحفاد الممالیك والأتراك والأرناؤوط والأجانب المستغلّین والمحتلّین من الإنجلیز , وتھّكمت كذلك بالحكّام المنحدرین من سلالة الألبان ” الخدیویّین ” والحاشیة المنافقة التي كان لسان حالھا یقول: على شان ما نْعلى ونعلى ونعلى لازم نطاطي نطاطي نطاطي وأمّا المیزة الخامسة فھي تحریر الأغاني من المغني الفرداوي الذي ” یسلطن” على التخت الموسیقيّ بصوت رتیب بطيء متكرر ممطوط مغنّج مشخلع ذلیل, والذي لیس فیھ أي دلیل على أي تعبیرعاطفيّ أو تأثیر نفسي مباشر ، ھذا المغني الذي غایته إجادة جواب القرار في ” یا لیل یا عین ” التي كانت تمتد طول اللیل حتى یصل المغني إلى “بیت القصید ” أنا زعلان والبطانة تردّ علیه زعلان لیه ؟ ویستمرّ التّجاوب بینه وبین البطانة حتى يُؤذِّن دیك الصّباح، وَیُؤِذن اللیل بالرّواح !! ناھیك عن التّطییب الله یا شیخ !! الله یا سي محمد !! الله یا ست ألخ… . وأمّا المیزة السّادسة فھي موسیقى السید درویش بما فیھا من التوافق الھارمونيّ .

وقد سعت إلى التّحرّر من الإیقاع المسموع إلى الإیقاع المضمر كما في الموسیقى الأوروبیّة السّیمفونّیة ، وھي بھذه المیزة قابلة للتّوسیع والتّطویربالتّوزیع الأوركستراليّ والكوراليّ الجدید , وعلیه فھي موسیقى غیر جامدة وغیر تقلیدیة ، بل جدیدة ومتّجددة مع الزّمن وتظلّ قابلة للتّجدید وأمّا المیزة السّابعة , والتي یندر أن نجد لھا مثیلا في موسیقى فنانین آخرین فھي میزة الغناء الجماعيّ الكوراليّ , ومن المعروف أنّ الصّوت الجماعيّ أوقع في النّفس من الصوت الفُراديّ، وقد استطاع السّید درویش أن یضع على لسان المصریّین عشرات الأناشید الوطنیّة ویكفیه فخًرا نشید: بلادي بلادي بلادي لكي حبّي وفؤادي ھذا النشید الذي أصبح فیما بعد نشید العرب في جمیع بقاعھم وأصقاعھم . ویقال إنّ السید درویش قدم إلى بلاد الشام في رحلتین فنیتین سنة 1912 وسنة 1915 , ولقد أفاد من رحلتیه ھاتین إفادة كبرى , فقد تعرّف إلى الأستاذ عثمان الموصلي , وسمع عنه الكثیر من الموشّحات والقدود والضّروب الموسیقیة القدیمة،  كما تعرّف إلى موسیقى سائر الأقطار العربیة , واقتبس من ألحان سوریا ولبنان ومن فلسطین بالذات ، وإنه دخل إلى كنائس لطوائف متعددّه، وتعرّف إلى موسیقاھا وأسالیب تراتیلھا وقراءاتھا الأناجیل بالعربیّة والسّریانیّة وسائر أناشیدھا.

ولمّا سئل عن ذلك قال : إنھا أوبرا إلھیة !! كما خالط الناس في أفراحھم وأتراحھم ، وسمعھم في أعراسھم یھزجون أھازیج الحماسة والحوربة الجماعیّة التي یشتھر بھا أهل برّ الشّام , فخزن كلّ ذلك في ذاكرته لیستفید منھا راقیًا بھا بالغناء المسرحيّ الجماعيّ الكوراليّ , كما ظھر ذلك في العدید من الأوبریتات التي قدّمھا على مسرح جورج أبیض , وعلي الكسّار , ونجیب الرّحانيّ , وأولاد عكاشة مثل شھرزاد ، والعشرة الطّیّبة ، والباروكة ، وغیرھا عشرات. ويُروى أنّ السيد درويش اثناء اقامته في حلب تعرّف إلى أسرة ذات ثراء وسخاء، وفي يوم رحيلة أطلّت إحدى صبايا الحيّ من شرفة بلكون بيت أهلها ،ولوّحت له بمديلها بعد ان مسحت به دموعها، وورمت به ألى السيد درويش فتناوله ووضعه في جيبه، والفتاه تقول وهي تشهق: زورونا في السّنة مرّة حرام تنسونا بالمرّة… فكانت الأغنيّة الخالدة. وأمّا المیزة الثّامنة فھي أنّ اغاني السّید درویش وطقاطیقة وأناشیده وأدواره مثل: أنا هويت وانتهيت، وانا عشقت فهى تمسّ شغاف القلب وتزداد بمرور الزّمن جدّة. لموسيقى السيد درويش وأغانيه نوطة في القلب ، حتى قال عنھا أمبرتو بیاشي وھو ایطالي لنجیب الرّیحاني لدى سماعه أوبریت فيروز شاه إإسمع یا سي نجیب! وأنا بشرب دي الوقت الخمرة بدون ما اشرب خمرة! وأنا بعترف الیوم إنو الشّرق فیه ملحن، ما بِقلِّش عن الملحنین اللي في أوروبا.

إنّ موسیقى السید درویش في أغانیه تبدّد الإحساس بالوحدة ، والوحشة والغربة، ولا ترمیك في بئر الاحزان العمیقة المظلمة ، ولیس ھناك موسیقى عربیة لغیر السّید درویش تشعرك بوحدة الكون وانسجام الوجود , وتجعلك تحسّ بأنّ الحیاة جمیلة وحمیمة , وحرام ثمّ حرام أن یكون فیھا قبح , وأنّ كلّ یوم سيأتي أروع من الذي قبله , وأن السّعادة تلوح دایمًا في الافق. ھذا وكان السید درویش إنسانًا بسیطًا مرھف الحسّ ، عزیز النّفس أبّیًا , ولم یكن یضع یده من تحت، وكان یغضب لأقل أمر یرى فیھ مساسًا بكرامته , ولكنّه كان یرضى ولو لسماع كناريّ یغرد, وكان كلّما تزاعل مع نجیب الرّیحانيّ یقول له ھذا , وھو یبتسم ابتسامة ماكرة: ومن فین دي الوقت یا سي سید أجیبلك بقا كناري ؟! فكان یضحك ، ویسارع إلى المصافحة ، والمسامحة والعفو فلا یحمل في قلبه موجدة ولا حقد. ولقد رفع سید درویش من مستوى محترف الموسيقى الذي كان يُنظر إليه كحاوي أفاعي أو قرداتي أو دبباتي أو مشعوذ , ولا تقبل شھادته في المحاكم ..

كما أنّه نفى عن الممثّل المسرحيّ صفة المھرّج والمشخّصاتي. ولقد أخصبت مصر في زمانه فنیّاً .. وتكّونت في عھده أول ھیئة ( نقابة ) للفنّانین. عاش السید درویش إحدى وثلاثین سنة بعدد سني الموسیقي الألماني فرانز شوبرت. وإذا كان السید درویش في حیاته وفنه كما ترى , أفلا توافقني على أنّه كان سیدھم؟ وإنّه سیظل سیدھم إلى أن یأتي سید آخر یفوقه نعم ، ولكن كیف ؟! ومتى ؟ والسيد درویش سّیدھم. إنه سیاتي بالدّعاء , فنحن أمة لا تحسن في ھذا العصر إلا الدّعاء ولا تبدي إجماعھا إلا على لفظة واحدة تعوّدت علیھا منذ مئات السّنین تقولھا بلا عناء وراء كل داع : آمین!! اللھمّ آمین

اترك رد