“حُقُولٌ وغِلال”، مُتعَةٌ لِلذَّوقِ الرَّفِيعِ، والأَدَبِ الرَّاقِي!

زارَني، البارِحَةَ، الصَّدِيقُ مُورِيس النَجَّار، فَشَرَّفَني مَرَّتَين: بِزِيارَتِهِ، وبِتَكلِيفِي بِكِتابَةِ مُقَدِّمَةٍ لِهذا الكِتاب. وكَم أَرجُو أَن يُوَفِّقَني اللهُ، كَي أَكتُبَ بِمُستَوَى مَحَبَّتِي لَهُ، وأَدَبِهِ ومَواهِبِه!

أَمَّا مَواهِبُهُ، فقد أَكثَرَ اللهُ لَه الوَزَناتِ، فهو مُرَبٍّ رِياضِيٌّ أَمضَى شَطرًا كَبِيرًا مِن عُمرِهِ في تَعلِيمِ الرِّياضِيَّاتِ لِطُلَّابِ المَرحَلَةِ الثَّانَوِيَّة. وهو، أَيضًا، شاعِرٌ تَشهَدُ له دَواوِينُهُ الخَمسَةُ بِجُودَةِ شِعرِهِ، وأَدِيبٌ رِوائِيٌّ، وناقِدٌ حَصِيفٌ، وإِلى هذه، مَنَحَهُ اللهُ دَماثَةَ خُلُقٍ، ونُبلًا، وتَواضُع. والأَهَمُّ مِن هذه وتِلكَ، نِعمَةُ الإِيمانِ الَّتي أَكادُ أَحسُدُهُ عليها.

وبِفَضلِ هذه النِّعمَةِ، تَصَدَّرَت كِتابَهُ صلاةٌ إِنسانِيَّةٌ، تُذَكِّرُكَ بِصَلاةِ طاغُورَ الخالِدَةِ، فهو لا يَطلُبُ غِنًى، أَو جاهًا، أَو غَيرَ ذلك مِن أُمُورِ الحَياةِ الدُّنيا، بل يَطلُبُ مَزِيدًا مِن الإِيمانِ، والتَّواضُعِ، وحُبِّ الآخَرِين. وما أَروَعَهُ يقول:

“رَبِّ! سَاعِدنِي كَي أَرَى وُرُودَ غَيرِي، وَأَغُضَّ عَن أَشوَاكِه.. أَوَلَيسَ حَسَكِي وَافِرًا، وَجُلُّ أَزَاهِيرِي ذَوَابِل؟!

رَبِّ! بَدِّدِ الغَشاوةَ عَن بَصِيرَتِي حَتَّى أَجِدَ فِي الآخَرِ غِنًى لِوُجُودِي.. أَوَلَيسَهُ غُصنًا فِي كَرمَتِك؟!”.

وكما يَبدَأُ كِتابَهُ بِالصَّلاةِ، كذلك يُنهِيهِ بِها: “رَبِّ! سَاعِدنِي كَي يَبقَى نُورُكَ نِبْرَاسِي.. أَلَستَ الطَّرِيقَ والحَقَّ والحَيَاة؟!”.

بُورِكَ لَكَ، يا صَدِيقِي، هذا الإِيمانُ الصَّادِقُ، وكيف لا يُساعِدُ الرَّبُّ أَمثالَك؟

والكِتابُ مَقالاتٌ سُطِّرَت في كُتُبِ زُمَلائِهِ الأُدَباءِ – وما أَكثَرَهُم! – وكَلِماتٌ أُلقِيَت في مُناسَباتٍ مُعَيَّنَةٍ، إِلَّا مَقالَتَهُ الأُولَى “اللَّوحُ الأَخرَس” المَنشُورَةَ في جَرِيدَةِ “الأَنوارِ”، وهي مِنَ الأَدَبِ الوِجدانِيِّ الرُّومَنطِيقِيِّ الأَلِيمِ، إِذ يُخاطِبُ فيها أَدِيبُنا لَوحَ الكِتابَةِ الَّذي رافَقَهُ رَبِيعَ عُمرِهِ، فَيُخاطِبُهُ صَدِيقًا حَمِيمًا، ويَبُثُّهُ أَشواقَهُ والحَنِينَ، فَلا يَعُودُ “أَخرَسَ” كَما وَصَفَهُ في عُنوانِ المَقالَةِ، بَل مُحَرِّكًا، رُغمَ جُمُودِهِ، ما يَعجَزُ عَنهُ أَلفُ صَدِيقٍ وصَدِيقٍ، بِدَلِيلِ قَولِه: “وَهَا جُمُودُكَ الدُّهرِيُّ يُحَرِّكُ، فِي نَفسِيَ، مَا تَصَلَّبَ على الزَّمَنِ، وَيُوقِدُ، في جَوارِحِي، جِمارًا خِلتُها خَمَدَت إِلى الأَبَد!”.

قَوْلَةٌ تُذَكِّرُكَ بِبَيتَي لامَرتِين (أَلفُونس دِي لامارتِين Alphonse de Lamartine؛ 1790 – 1869) الخالِدَين:

“Objets inanimés, avez-vous donc une âme

qui s’attache à notre âme, et la force d’aimer?”

وأَدِيبُنا أَنِيقٌ هادِئٌ مُحِبٌّ بِطَبعِهِ، وقد ظَهَرَ هذا كُلُّهُ في أَدَبِهِ، فَتَراهُ يَهتَمُّ بِكَلِماتِهِ وجُمَلِهِ إِلى حَدِّ الدَّلالِ، فهي مَضبُوطَةٌ بِالحَرَكَةِ، مُنَضَّدَةٌ بِحَرفٍ جَمِيلٍ، تَأخُذُ مَكانَتَها في الجُملَةِ، وكأَنَّها فَتاةٌ فاتِنَةٌ مِغناجٌ، والجُمَلُ تَنسابُ في أُسلُوبِهِ، انسِيابَ الماءِ العَذْبِ في السَّبِيلِ، وقد أَخَذَ بَعضُها بِرِكابِ بَعضٍ، بِعَلاماتِ الوَقْفِ المُناسِبَةِ، وأَدِيبُنا فِيها خَبِير.

أَمَّا المَحَبَّةُ الَّتي جُبِلَ مِنها أَدِيبُنا، فَبَيِّنَةٌ في صلاتِهِ ونَقدِهِ، انعِكاسًا لِحَياتِهِ في السُّلُوكِ واللِّسان. فهو، في نَقدِهِ، لا يَكشِفُ عَيْبًا، ولا يُشِيرُ إِلى مَنْقَصَةٍ، ولا يَدُلُّ إِلى هَفْوَةٍ، ولا يَغْمِزُ مِن قَناةٍ، بَل يُرَكِّزُ على جَمالاتِ الأَدَبِ المَنقُودِ، وهو بِالجَمالِ خَبِير.

وكِتابُهُ “حُقُولٌ وغِلال” كاسْمِهِ فيهِ مِن الأَزهارِ أَجمَلُها، ومِن الرَّياحِينِ أَعطَرُها، ومِن الثِّمارِ أَشهاها، هو مُتعَةٌ لِلذَّوقِ الرَّفِيعِ، والأَدَبِ الرَّاقِي، والعَقلِ الحَصِيف. وما أَروَعَهُ يُعَرِّفُ الشِّعرَ بِأَنَّهُ “اختِلاجُ النَّفسِ الشَّفِيفَةِ أَمامَ رَفِيفِ الجَمالِ، اختِلاجٌ يَتَمَخَّضُ عن كَلماتٍ آياتٍ، تَرسُمُ النَّفسَ وأَسرارَها بِرِيشَةٍ بَراها الخالِقُ في ساعَةِ نَشْوَة”.

وإِذا شِئْتَ أَن تَتَصَيَّدَ خَطَأً لُغَوِيًّا، أَو إِملائِيًّا، أَو طِباعِيًّا، فَاذهَب إِلى غَيرِ كُتُبِهِ، فهو في اللُّغَةِ ضَلِيعٌ، وإِلى هذا التَّضَلُّعِ، يَهتَمُّ بِلُغَتِهِ فَيَتَأَنَّقُ فِيها تَأَنُّقَهُ في اختِيارِ مَلابِسِهِ وأَصدِقائِهِ، فَما أَبعَدَ الخَطَأَ عَن أَدَبِه!

ومَهما كَتَبتُ في أَخلاقِكَ، يا أَوفَى الأَصدِقاءِ، وفي أَدَبِكَ الرَّفِيعِ، يا أَدِيبَ المَحَبَّةِ والسِّحرِ الحَلالِ، لَن أَشبَعَ، ولكن لِكُلِّ شَيءٍ خِتامٌ، فَاسمَحْ لِي أَن أَختِمَ كَلِمَتِي هذه بِكَلامٍ استَعِيرُهُ مِن أَدَبِكَ، فَأَنا عاجِزٌ عَن أَن أَكتُبَ مِثلَهُ، فَأَقُول:

“أَلا مَدَّ اللهُ دَواتَكَ، وبارَكَ يَراعَتَكَ فَنَحنُ مَعَها مِن مَوعِدٍ إِلى مَوَاعِدَ، بَينَ رَقصِ الشُّعَاعِ عَلى رُبًى مُخضَوضِرَةٍ، فِي فَجرٍ شَذِيٍّ نَدِيّ…

أَكرِمْ بِكَ أَمِيرًا، وَنِعِمَّا لِأَناتِكَ، كَم لَها على الضَّادِ مِن نَعْمَاء!

فَاكتُبَنْ، يا سَيِّدَ القَلَمِ، اكتُبَنْ، ونَحنُ القارِئُونَ النِّهام!”.

سَلِمتَ لَنا، يا مُورِيس، سَلِمتَ، سَلِمت!

*****

(*) مُقَدِّمَة كِتاب “حُقُولٌ وغِلال” لِمُورِيس وَدِيع النَجَّار الَّذي سَيَصدُرُ قَرِيبًا.

اترك رد

%d