كامل صالح…   السّياقات السخية

خرابك كثير

لم أعد أعي يميني من يساري

كثير كعشق يسيل على الشجر

على كسرة خاطر تتدثر صلاة نبي

خرابك كثير

أعلق روحي على نوم الحبق

علني أنجو من رائحتك العالية كجبال لبنان

خرابك كثير

ولم أعد أعي لهفتي من جنوني

أيتها البهية كما قبل البدايات

كما الإيمان في قلب الأطفال

البهية كما النور في إجابات السماء.

كامل صالح

        السّياقات السخية

يُخرج كامل صالح نصّه هذا على طريقة الشعر الحديث، إلا أن تكرار عبارة “خرابك كثير” يولّد بين أسطره إيقاعاً صوتياً واضحاً يوفّرله الانسجام والتماسك، ويستنبت في السامع لذة الإصغاء لوقع الخارج عن المألوف، ولذة التوقع لمزيد من هذا الخراب/ الاختلاف.

يكشف هذا النص عن انتشار ضمير المتكلم ، متصلاً أو مستتراً، فيه : أعي- أعلق_ لهفتي- جنوني، وبالتالي يحيل هذا الضمير على أنا الشاعر، بينما تُحيلنا كاف المخاطبة في عبارة “خرابكِ كثير” على أنا الحبيبة/ المعشوقة.

تذكرنا مفردة ” خرابك” التي وظّفها الشاعر بعبارة أنسي الحاج المعروفة : ” التخريب حيوي ومقدّس”، ومن باب التداعي نتذكر كلاماً لأدونيس عن التجديد، والابتكار في توظيف اللغة وإبداع سياقات جديدة لها ” أن تخرج الكلمة من ليلها العميق لتعيد صوغها في سياقات جديدة تحقّق توالدها وجدّتها”.

د. كامل صالح

يجيد كامل صالح في مقطعه الشعري هذا توليد الدهشة حين يسند الكثرة للخراب، ليعود ويسند لهذا الخراب فعل الضّياع الذي يغرق فيه ، فالرجل قد ضيّع الاتجاهات، صار يخلط في أبسطها فلا يعرف يمينه من يساره؛ تعطّلُ الوعي هذا أو تأرجحُه يعود إلى الحالة العشقية التي يحياها.

يتناوب في هذا المقطع واقعان: واقع الخراب، وواقع التداعي وفقدان التوازن أمامه، المستوى الأول تسببه أنتِ ( كاف المخاطبة) في عبارة الاستهلال ، والمستوى الثاني تقوم به الأنا ( أنا الشاعر المنفعلة) بهذا الخراب.

يتشكل المعنى في هذا المقطع من هذا التضاد، أو من هذه العلاقة المتعارضة التي تنمو تدريجاً: بين “كثير الخراب”  بمعنى التدمير وإفساد التشكيل/ وبين التشكل المتجدد الناتج عن هذا الخراب.

خرابك كثير/ لم أعد أعي يميني من يساري

( لم أعد أعي/ الضياع- فقد الوعي لشدة الذهول)

خرابك كثير/ أعلق روحي على نوم الحبق

( النوم / راحة- الحبق/ نعومة ورائحة زهية)

خرابك كثير/ لم أعد أعي لهفتي من جنوني

( اللهفة / الرغبة- الشوق وكلاهما ممتع حيوي)

تتأكد حالة الذهول من خلال عبارة ” لم أعد أعي”  ليأتي النداء بعد ذلك” أيتها البهية ” ينبهنا إلى كمّ جمالها وبهائها، وإلى انتفاء أي معنى من معاني التّدمير المعروفة المتدوالة، فتكتسب المفردة/ الدال، مدلولاً جديداً تماماً، ويصبح الخراب بناءً لحالات سخية من المشاعر العشقية/ الرهيفة التي تسيل على الشجر، بل حالة من الخواطر المتلفعة بدثار قدسيّ من صلاة نبي من الأنبياء!

هكذا تبرز المعشوقة في العبارات الأخيرة مخلوقةً بهية تفوق ببهائها إرهاصات توقّع البدايات، فتبدو أصفى من الإيمان في قلوب الأطفال الندية، لتشع ببهائها في السطرالأخير، وتصير نوراً / معرفياً توفّره إجابات السماء المقدسة.

تستمتع إذ تقرأ، لكنك تخاطب ذاتك قائلآ على استحياء: لو أخّر الشاعر بهاء حبيبته قليلاً، لكان نصه نضح باحتمالات أعلى، ولكان جعل دهشتنا تنضج على نار قلق أكثر توقداً، ولجعل متعتنا حينذاك تتوالد بلا انتهاء.

 

 

اترك رد