بقلم: كلود أبو شقرا
لم يكن ذلك الأحد في 22 أيلول عادياً بالنسبة إلى الباكستاننيين المسيحيين، فبعدما احتفل حوالى 600 مسيحي بالذبيحة الإلهية في كنيسة “جميع القديسين”، وهموا بالخروج للمشاركة في مأدبة غداء مجانية، هاجمهم مسلحان انتحاريان وفتحا النار عليهم من أسلحة خفبفة قبل تفجير نفسيهما، وقد أسفر هذا الاعتداء عن أكثر من 126 قتيلاً وحوالى 166 جريحاً نصفهم من الأطفال والنساء، كرمهم أبناء رعيتهم منذ أيام، بوضع ملصق يعرض صور الضحايا، وشُيد في باحة الكنيسة، مكان الانفجار، مزار تذكاري لهم. تقع كنيسة “جميع القديسين” في الوسط التّاريخي لمدينة بيشاور، بناها المستعمرون البريطانيون عام 1883.
رداً على الاعتداء، تظاهر المسيحيون في كراتشي وفيصل أباد وطالبوا بحماية أكبر لكنائسهم، وفي العاصمة إسلام أباد أغلق حوالى مائة متظاهر طريقا سريعا رئيسيا في المدينة لساعات ما تسبب بزحمة سير كبيرة.
أعداء الإسلام
بحسب ما ورد في تقارير عدة، يتعرّض المسيحيون في باكستان لإبادة جماعية من قبل حركة طالبان الباكستانية التي تبنت فصيلة منها تطلق على نفسها اسم “جند الحفصة” الاعتداء، وبرر الناطق باسمها الهجوم قائلا: “المسيحيوّن هم أعداء الإسلام، لذا نستهدفهم. سنتابع هجماتنا ضدّ غير المسلمين على الأراضي الباكستانية”، فيما دان رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف الهجوم وعبر، في بيان، عن تضامنه مع المسيحيين، وقال إن الإرهابيين لا دين لهم واستهداف أبرياء مخالف لتعاليم الإسلام والديانات الأخرى.
“لم تثنِ هذه المجزرة المسيحيين عن ارتياد الكنائس وممارسة شعائرهم الدينية بل زادتهم إيماناً بالمسيح، الطريق والحق والحياة”، يؤكد الأب بوني مينديس، كاهن باكستاني ومدير أسبق لكاريتاس آسيا، والمعاون الحالي في لجان كاريتاس و”لجنة العدالة والسلام” التابعة لمجلس أساقفة باكستان.
يضيف أن المسيحيين عاشوا، بعد مجزرة بيشاور، أيام حداد واحتجوا بقوة في أنحاء البلاد، كذلك، صلوا بطريقة مسكونية، بحضور منظمات أخرى من المجتمع المدني ومسؤولين مسلمين،لافتاً إلى أن الإيمان توطّد بشدة بعد الاعتداء، وسامح المسيحيون مرتكبي المجزرة، ويعملون وفق طلب البابا فرنسيس تعزيز الأخوّة مع المسلمين لأنهم يعيشون منغمسين في واقع مسلم.
يوضح أن المسيحيين مستهدفون اليو أكثر من الماضي، وأن الإرهاب يفتك بالمسلمين المعتدلين أيضاً ، ويتابع: “لدى حركة طالبان باكستان برنامجها، فهي لا تريد الديمقراطية بل ترغب بفرض الشريعة الإسلامية، مع ذلك يدعم المسيحيون جهود الحكومة الهادفة إلى إطلاق مفاوضات مع حركة طالبان، رغم الاعتداء الأخير الذي تبنته مجموعات منها، فلا بديل ولا خيارات أخرى غير خيار التفاوض. تبقى التسوية صعبة. إنها درب متعرجة، إنما لا بد من سلوكها مع الأخذ في الاعتبار الاحترام التام لسيادة القانون”.
الإسلام أو… القتل
تأكيداً على عمق تجذّر المسيحية في باكستان، رغم كل الصعاب، شيدت في مدينة كراتشي أكبر كنيسة في البلاد، تستوعب أكثر من 5 آلاف شخص… يوضح القيمون على هذه الكنيسة أنهم يرغبون، عبر هذا الصرح، بنشر رسالة محبة وسلام بين الباكستانيين في مدينة كراتشي التي شهدت عنفاً ساسياً وطائفياً.
يعتبر جوزيف كوتس، رئيس أساقفة كراتشي ورئيس مجلس الأساقفة الباكستانيين، أن بلاده “تُعدُّ واحدة من البلدان الأكثر صعوبة بالنسبة إلى المسيحيين”، فبعد الهجوم على كنيسة “جميع القديسين” في بيشاور، وجه مذكرة إلى جمعية “عون الكنيسة المتألمة” الإيطالية، مما جاء فيها: ” نشهد أبعاداً مقلقة توصل إليها التعصب الديني والطائفي في البلاد، ويمثّل قتل رجال ونساء وأطفال اجتمعوا للصلاة عملا جباناً مشيناً”.
بدورها تفيد الجمعية الكاثوليكية أن “الحياة اليومية للأقليات الدينية في باكستان تتصف بالفقر والظلم والتمييز، فحتى الكتب المدرسية تعرّف غير المسلمين بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، ويطلب الأساتذة من تلاميذهم كتابة موضوع بعنوان: “أكتب رسالة إلى صديقك وأدعه إلى اعتناق الإسلام”.
وفي هذا السياق يشير المطران كوتس إلى أن “الطلاب المسيحيين يتعرضون في المدارس إلى ضغط مستمر لاعتناق الإسلام، على غرار بقية المؤمنين تلقيت رسائل تدعوني إلى التخلي عن ديني”.
كان تقرير أعدّه معهد بحوث الإعلام في منطقة الشرق الأوسط كشف النقاب عن اشتمال الكتب المدرسية في باكستان دروساً تعلم التلاميذ أن قتل المسيحيين هدف لا بد من أن يعملوا من أجله، ويجب أن يسعوا عبره إلى نيل الشهادة، ما يفسّر السبب الكامن وراء الهجمات التي تستهدف المسيحيين في باكستان.
يتابع التقرير: “في باكستان، حيث تشنّ الجماعات الإسلامية هجمات منتظمة ضد الباكستانيين غير الإسلاميين، مثل المسيحيين والهندوس وبعض طوائف المسلمين، مثل الشيعة والمسلمين الأحمديين، الذين لا تعتبرهم تلك الجماعات مسلمين حقيقيين، تضفي وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية والقادة الحكوميون والعلماء الدينيون صفة الشرعية على كراهية الأقليات الدينية، في وقت يتم التعامل فيه مع مصطلح “أقلية” في إطار تحقيري. وقد تولد نتيجة إضفاء شرعية كهذه على الكراهية من خلال الكتب المدرسية، والسياسات الحكومية، والمواعظ التي تلقى في المساجد والتجمعات الدينية، اضطهاداً متنامياً ضد المسيحيين الباكستانيين، الهندوس، الشيعة والمسلمين الأحمديين”.
يضيف التقرير أن تقويمًا للكتب المدرسية في باكستان بيّن أنها تغذِّي التيار الإسلامي، وتروّج للكراهية والجهاد بين تلاميذ المدارس الابتدائية، وأن خطاب الكراهية ضد غير المسلمين ظاهرة عادية في المجتمع الباكستاني منذ نشأة الدولة عام 1947.
مسيحية ذبيحة
على مرّ تاريخهم، يعاني الميسيحيون في باكستان اضطهاداً مزدوجاً دينياً واجتماعياً، كونهم ثاني أكبر أقلية دينية بعد الهندوسية، إذ يشكلون 1.6% من سكان باكستان، أي حوالي 2.8 مليون شخص، وفقًا لإحصائية عام 2005، وينتشر المسيحيون جغرافيًا في إقليم البنجاب، في حين يقتصر وجودهم في بقية المحافظات في المراكز الحضرية، وثمة مجموعة كاثوليكية في كراتشي هي من المهاجرين التاميل والغوان، وصلوا إلى المدينة عندما طوّر البريطانيون البنية التحتية فيها خلال الفترة الاستعمارية بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفي الوقت نفسه تضطلع الجماعات البروتستانتية بمهام تبشيريّة في باكستان.
يقول الأب الدومينيكي باتريك بيتر إن المسيحيين في باكستان فقراء، ويعتاشون من كفاف زهيد. “إنه تحد كبيرلهم، حتى للمتعلمين، فمعظم المسيحيين فقراء لدرجة أنهم لا يستطيعون دفع رشوة للحصول على وظائف جيدة، في حين أن فرص المسلمين أفضل لأنهم قادرون على دفعها، ويعطي القانون الأفضلية للمسلم”.
يضيف أن المسيحيين يسهمون في تقدم باكستان في مجالي التربية والطب، “تملك الكنيسة الكاثوليكية مؤسسات تربوية وتفتح أبوابها للجميع، كذلك الأمر بالنسبة إلى المستشفيات الكاثوليكية، بالتالي، ينبغي على المسيحيين، وبخاصة الكاثوليك، تقديم شهادة إيمان استثنائية وسط المسلمين من خلال عيش قيمنا المسيحية، كوننا شهوداً لإيماننا، من خلال رسالتنا وكيفية عيش حياتنا اليومية”.
يشير إلى وجود فئتين من المدارس: المدارس الإنكليزية والمدارس الأردية. “معظم الباكستانيين القادرين على دفع تكاليف التعليم يرسلون أبناءهم إلى المدارس الإنكليزية، وتندرج المدارس الإرسالية التي تشمل المدارس الكاثوليكية ضمن هذه الفئة”.
يؤكد أن المشكلة ليست في المسلم العادي، بل في تلاميذ المدارس والمعاهد الدينية الإسلامية التي تديرها بعض المساجد، “فيما التلاميذ الذين يتخرجون من مدارسنا يبنون صداقات جيدة بين بعضهم البعض وكثيراً ما ينمون صداقات تدوم مدى الحياة”.
قانون جائر
يعاني المسيحيون الباكستانيون من “قانون التجديف” الذي ينص على حظر شتم القرآن والإسلام والنبي محمد ويعاقب من يتهم بذلك، وقد صدرت أحكام إعدام على خلفيته بحق 12 مسيحياً على الأقل، ووجهت اتهامات بإهانة الإسلام، زوراً، إلى مئات من المسيحيين إلى جانب بعض المسلمين.
منذ 1990 حصدت أعمال عنف ناتجة عن إهانة الدين 18 مسيحياً و16 مسلماً (من السنة والشيعة) واثنين من اتباع المذهب الأحمدي وهندوسياً، بحسب “اللجنة الوطنية للعدل والسلم” التي تضمّ اساقفة باكستان الكاثوليك. وجميعهم قتلوا في عمليات تصفية خارج إطار القضاء فيما لم تُنفذ عقوبة إعدام صادرة في هذا السياق.
ففي 28 تموز 1994، حثت منظمة العفو الدولية رئيسة الوزراء الباكستانية بنظير بوتو لتغيير القانون لأنه يستخدم لترويع الأقليات الدينية، فحاولت لكنها لم توفق، وقتل السياسيون الذين سعوا إلى تغيير القانون سنة 2011 من بينهم شهباز بهاتي، الوزير المسيحي في الحكومة الباكستانية، وسلمان تيسير، حاكم البنجاب المؤيد لإصلاح القانون حول إهانة الإسلام، ما أثار انتقادات وزير الخارجية البريطاني هيغ، وطلبت الكنيسة الكاثوليكية في باكستان من البابا بنديكتوس السادس عشر، آنذاك، اعلان شهباز بهاتي شهيدًا
في تشرين الثاني 2005، هاجم ثلاثة آلاف إسلامّي متشدّد كنائس كاثوليكية وجيش الخلاص وكنائس مشيخية متحدة في سانجلا هيل في باكستان، على خلفية مزاعم حول أهانة أحد المسيحيين الإسلام. وقد أدانت الأحزاب السياسية في باكستان الهجمات على نطاق واسع، مع ذلك، عبّر المسيحيون الباكستانيون عن خيبة أملهم، بعدما كشف الأب شمشون ديلاوار، كاهن الرعية في سانجلا هيل، أن الشرطة أفرجت عن الأشخاص الذين ارتكبوا الاعتداءات، ولم تبلّغ الحكومة الباكستانية المجتمع المسيحي معلومات حول التحقيق الذي يقوم به قاض محلي. وتابع أن رجال الدين المسلمين ألقوا خطباً بغيضة عن إهانة المسيحيين وإيمانهم.
احتجاجاً على الرسوم الساخرة للنبي محمد في إحدى الصحف الدنماركية في شباط 2006، هاجم إسلاميون متشددون كنائس ومدارس مسيحية ، ودمروا المنازل والممتلكات، كذلك أصيب ما لا يقل عن 20 شخصا من بينهم مسؤولون في الشرطة، بعدما هاجم 500 متظاهر إسلامي الطائفة المسيحية في مدينة جوجرانوالا في 29 نيسان 2011.[
خلال مؤتمر صحافي في كراتشي، أكبر مدينة في باكستان، في 30 أيار 2011، حظّر مولانا عبد الرؤوف فاروقي ورجال دين مسلمين آخرين الكتاب المقدس، وقال مولانا فاروقي: “لدينا محامون مستعدون للطلب من المحكمة حظر الكتاب”.
احتجاجاً على فيلم ” براءة المسلمين“، أضرم محتجون النار، في 23 أيلول 2012، في كنيسة ومدرسة سانت بول عالية ومكتبة ومختبر حاسوب مسيحي ومنازل أربعة من رجال الدين المسيحيين، بما في ذلك منزل المطران مجيد بطرس وتعرض ابن قس مسيحي للإعتداء.
في 9 آذار 2013 هاجم ثلاثة آلاف من المسلمين الغاضبين حي “جوزف كولوني” المسيحي في لاهور، ودمروا منازله بعد اتهام أحد المسيحيين بالتفوّه بعبارات مسيئة للنبي محمد.
سلسلة الاعتداءات على المسيحيين تطول ويكاد لا يخلو يوم منها، مع ذلك لا يفكرون في مغادرة بلدهم، ويعتبرون وجودهم في هذه المنطقة من العالم رسالة وشهادة على أهمية القيم المسيحية التي تستوحى قوتها من فعل الحب، ولا عجب أنهم بشجعون اليوم رئيس الوزراء على إجراء حوار مع “طالبان باكستان”، مع أنهم يذوقون من هذه الجماعة الأمرّين.
كلام الصور
1- كنيسة “جميع القديسين” بعد المجزرة مباشرة
2- المسيحيون يتظاهرون احتجاجاً على المجزرة
3- كاتدرائية القديس باتريك في كراتشي
4- مدرسة القديس بولس في كراتشي
5- كاتدرائية قيامة المسيح في لاهور