إغفِرْ لَنَا والباقي عَلَيْنا

            

في كلِّ مَرَّة أَسْأَلُ الله الآب أَنْ يَغْفِرَ لنا خطايانا كما نحن نغفرُ لِمَنْ خَطِئَ إلَيْنا، يزْدادُ شعوري بأَنَّنا بحاجة إلى خبز المَغْفِرةِ هذا، أَكْثَر ممَّا نحن بحاجة إلى خبز القوت الأَرضي. وأَتساءَلُ عمَّا إذا كان طلبُ الغفرانِ ميزةً بشريَّة، خُصَّ بها الإنسانُ تميُّزًا عن سائِرِ المخلوقات، وعمَّا إذا كانت المُسامحةُ التي نتبادلُها نحن البشر، سُلَّمًا نَرْتقي به درجاتِ الكمال، وعلامةً تُشير إلى كمْ نحن بحاجةٍ إلى حُبٍّ فَقَدْنَاه بَعْدَ إساءَةٍ جَرَحْنا بها قريبًا أَو عزيزًا أَو عابِرَ سبيل.

وهكذا يكونُ طَلَبُ الغفرانِ دليلًا على وَعْيِنا للخَطَأ وللخطيئَة، وشعورنا بأَنَّ قوَّةً كانت فينا وغابت مِنَّا، فنَعِيَ خطورةَ الذُّنوبِ وثِقْلَ المَعاصي وتَعَبَ الضَّمير، وَنَلْمُسَ بالحِسِّ والإدراك أَنَّنا نعيشُ في عالمٍ جريحٍ مُلَوَّثٍ بكلِّ شرٍّ فَعَلْناه، وأَنَّ هذا العالمَ بحاجةٍ قُصْوَى إلى الغفرانِ منَ الله، وتبادُلِ المسامحة بين النَّاس، كي يعودَ الأَملُ بالعَيْشِ الأَفْضل إلى ساكِنيه، والرَّجاءُ الشَّافي مِنَ اليأْسِ إلى كلِّ نفسٍ فيه.

غريبٌ هذا الغفران الذي يجعلُ الله ينتظرُ عَوْدتَنا إلَيْه ويَلْقانا على الطَّريقِ والعطفُ يملأُ عيْنَيْه بدموعِ الرَّحمةِ وفَرْحة اللِّقاء. غريبٌ كيف أَنَّه يجعلُ من الخطيئَةِ القبيحَةِ بحَدِّ ذاتِها، سببًا لحبٍّ كبيرٍ يولَدُ في قلْبِ التَّائِبِ بعد نَيْلِهِ المُسامَحَةَ، غافِرة الذُّنوب، مَهْمَا كثُرتْ وكبُرت. وكأَنَّ الحُبَّ النَّابعَ من قلبِ التَّائِبِ يضاعِفُ وِسْعَ الغفران الآتي من قلبِ الله، لِذا قال المعلِّم لذاك الفريسيِّ الذي استغربَ كيف أَنَّ تلك المرأَة تغسِلُ قدَمَيْ يسوع بالعطر: يُغفَرُ لها كثيرًا لأَنَّها أَحبَّت كثيرًا.

غريبٌ هذا الغفران لأَنَّه يَضَعُني أَمام حقيقةِ ذاتي لأَكتشفَ كلَّ نَقَائِصي العقليَّة والقلبيَّة والنَّفسيَّة والجسديَّة، وكأَنِّي أَمامَ مرآةٍ سحريَّة تجعلني أَرى بوُضوحٍ تام، ليس وجهي وحَسْب، بل كلَّ ما يختبئُ خَلْفَ عينيَّ وأُذنيَّ ولساني وجبيني. وتبدأُ ثمارُ الأَذيَّة تتساقطُ من على أَغصانِ عُمْري الذي بدَّدتُ بالرَّغباتِ والشَّهواتِ والملذَّاتِ والمَآدبِ والمكاسبِ وحبِّ الظُّهور، ومَا إلى هنالك من أُمورٍ لو لَمْ تكُنْ، لَبَانتْ صورةُ الله جلِيَّةً كما شاءَها الخالِقُ الرَّحيمُ أَنْ تكون.

ليستِ الغرابةُ في الغفرانِ الآتي من الله إلَيْنا فقط، بل في الغفرانِ الذي نتبادَلُهُ نحن البشر لننالَ غفرانَ الله، كما تقول الصَّلاة، هذا الغفران له من القوَّة ما يجعلُنا نعودُ إلى سلامٍ فقدْناه بالأَحقاد والخصومات والرَّغْبة بالثَّأْر ورفْضِ الأُخوَّة بين النَّاس، يُعِيدُ إلَيْنا الحُبَّ والفرحَ لنستمرَّ في مسيرة الحياة وكأَنَّ كلَّ شيءٍ جَديدٌ. ونتعلَّمُ من غفرانِ الله أَنْ نغفِرَ بعُمْقٍ لمَنْ أَساءَ إلَيْنا، لا أَنْ ننالَ الغفرانَ وتُمْحَى خطايانا، ونَبْقى نحن على عدائيَّتِنا لِمَنْ خطِئَ تجاهنا. كما فعل ذاك العبدُ الذي سامحه سيِّدُه بما عليه، فخرج ذاك العبدُ يُلحُّ بطلب ما لَهُ مع النَّاس، وكأَنَّ الرَّحمةَ التي لَحِقَتْ به، لم تصِلْ إلى إحْيَاءِ رحمتِه تجاه الآخرين.

عَلِّمْنا يا الله بحبِّكَ الغافِرِ حتَّى الأَعماق، أَنْ نَغْفِرَ نحن من أَعماقِ قلوبِنا، فنكون على صورتِكَ التي شِئْتَها أَنْ تكونَ يَوْمَ خَلَقْتَنا. إغفِرْ لنا ذُنوبَنا كي نجرُؤَ على العَيْشِ مع الآخرين ونمْتلِئَ رِضىً، حين تَرْضَى علَيْنا، ولا تَتْرُكْنا في غَياهِبِ ظُلماتِنا، تمامًا كمَا فعلْتَ مع الخروفِ الضَّال، ومع المرأَةِ الزَّانِيَة، ومع الابْنِ الشَّاطِر، ومع أَبْناءِ نينوى الَّذين انْتَظروا يونان النَّبيَّ الآتي بالوَعْدِ والوعيد، فإذا بكَ تَسْبِقُه برحمتِك وعَفْوِك ممَّا جعله يرفض الذَّهابَ إليهم.

اترك رد