العَوْدُ الدَّافِئ   

   

(… ودَفَعَني حَنِينِي الدَّائمُ إلى قَريَتي، ومَنزِلِ طُفُولتي، ومَرابِعِ صِباي، إلى ابتِناءِ مَنزِلٍ هناك. وكانَت هذه القَصِيدَةُ الَّتي أَلقَيتُها في أَوَّلِ سَكَنِي فِيهِ، خِلالَ سَهرَةٍ ضَمَّت شُلَّةً مِنَ الأَصدِقاء)

لَيتَ لِي رِيشَةَ النَّبِيهِ الأَدِيبِ،   وخَيالًا مِن شاعِرٍ مَوهُوبِ
وتُؤَاتِي يَراعَتِي خَمرَةُ الإِلهامِ ــــــــــــ مَحبُوكَةً بِفِكرٍ لَبِيبِ
فَأَخُطَّ الماضِي سُطُورًا رِهافًا،       سائِلًا في عِتابِ صَبٍّ كَئِيبِ
ما لنا بَعْدُ، في زَمانٍ عَجِيبٍ،         صَوَّحَ النَّضْرَ في القَوامِ الرَّطِيبِ
ودَهَى العَزمَ في المَفاصِلِ حتَّى    خَمَدَ التَّوقُ لارتِيادِ الغُيُوبِ؟!
***
لَيتَ شِعرِي… والعُمرُ يَجرِي سَرِيعًا، ــــــــــــ نَدرَأُ الباقِياتِ مِن كُلِّ طِيْبِ
عَن عَوادِي الدَّهرِ المُخِبِّ علينا  بِكُرُوبٍ تَكُرُّ تِلوَ كُرُوبِ
تَتَوالَى، فَالقَلبُ مِنها مُعَنًّى،     خائِرٌ بِالجِراحِ بين النُّيُوبِ
لَيتَ نَأوِي إِلى مَلاذٍ خَفِيٍّ       بَينَ صَحْبٍ، وخَمرَةٍ، وحَبِيبِ،
وسَمِيرٍ راقٍ، وناياتِ شِعرٍ،    وغَوانٍ غِيْدٍ، ولَحْظٍ مُذِيبِ،
ورِياحٍ في وَلوَلاتٍ عِذابٍ،   وجِمارٍ ثَخِينَةٍ في شُبُوبِ
هُوَذا العَيشُ… دَع سِواهُ وأَبعِدْ    عَنكَ سِيماءَ مُستَطِيرٍ قَطُوبِ
هي أَيَّامُنا تُوَلِّي، سِراعًا،         مِثلَ حِنَّاءَ فَوقَ كَفٍّ خَضِيبِ
فَتَبَصَّرْ… فَقَد تَهِشُّ لِغِرٍّ        وتُوَلِّي عَنِ الحَصِيفِ الأَرِيبِ
وَانَتِهِزْ كُلَّ سانِحٍ مِن نَداها          وارضَ مِن وَفرِها بِأَيِّ نَصِيبِ
وتَحاشَ أَن تَهدُرَ العُمرَ في كَنْزِ ــــــــــــ نُضارٍ، وفي مُنَى التَّنقِيبِ
رُبَّ غَصَّانَ مِن أُولِي نِعمَةِ العَيشِ، ــــــــــــ وراضٍ، في كَدحِهِ، مُستَطِيبِ!
***
أَنا إِن لَوَّحَ الزَّمانُ بِكَأسِ الصَّابِ ــــــــــــ لَوَّحتُ لِلزَّمانِ بِكُوبِي
ثُمَّ نادَيتُ: يا خَيالاتِ عُمرٍ       أَفَلَت، أَرجِعِي العُهُودَ وثُوبِي
فَاللَّيالي تُعطِي، ولكنْ بِقَدْرٍ        أَنتَ مِن نَزْرِهِ بِوَعدٍ كَذُوبِ
تَزدَرِي وَثبَةَ الجَنانِ إِلى الوَجْدِ، ــــــــــــــــ وتُزرِي بِزَهوِ ثَوبٍ قَشِيبِ
فَتُخَلِّي شَبابَكَ الغَضَّ نَهبًا  لِكَلالٍ، وشِقوَةٍ، ونُدُوبِ
فَتَجَنَّب صُداعَها بِخُمارٍ،       وتَحَرَّر مِن رَوغِها بِوُثُوبِ
فَارتِحالٌ في لَذَّةِ الرَّاحِ كَسْبٌ،    وشُعاعٌ في حُلكَةٍ ومَغِيبِ
إِنَّما نَحنُ في ضَياعٍ وعَجزٍ،         قَشَّةٌ في الرِّياحِ عِندَ الهُبُوبِ
إِن نَذُقْ في اللِّمامِ شَهْدَ اللَّيالي،            نَرتَمِ تَحتَ وَطءِ دَهرٍ غَضُوبِ
أَو نُكافِح، فَلِلكِفاحِ إِطارٌ،                جَهدُنا أَن نُعِيقَ آنَ الغُرُوبِ…
***
يا زَمانِي… فَلا تَظُنَّنَّ شَوقِي       لَوثَةً في صَمِيمِ عَقلٍ نَجِيبِ
فَأَنا في الجِسامِ فِكرٌ نَضِيجٌ،     زانَهُ راجِحُ النُّهَى، ومَشِيبِي
وأَنا أَكتَوِي بتَوقِي إِذا ما               عادَ لِلبالِ طَيفُ ماضٍ سَلِيبِ
يَومَ كُنَّا على المَدارِجِ أَطفالًا،  ــــــــــــ   كِمامًا خُضرًا بِمَرجٍ عَشِيبِ
نَقتَفِي إِثرَ شارِدِ الطَّيرِ حتَّى                      لو نَأَى العُشُّ في الأَراكِ الرَّهِيبِ
لا يَضِيرُ الدَّخائِلَ البِيضَ أَن      ــــــــــــ      تَقسُوَ في الكَيدِ واقتِرافِ الذُّنُوبِ
فَقُلُوبُ الصِّغارِ، لو عَبَثَت ظُلمًا، ــــــــــــ وُرُودٌ تَزِينُ قَفْرَ القُلُوبِ
فَتَعالَيْ يا صَبوَةً هَجَرَتنا،         وإِلَينا يا مَيعَةَ العُمرِ أُوبِي!
***
لَيتَ، في غَفلَةٍ، نَعُودُ إِلى ما     ـــــــــــــ    كان مِن لاعِجٍ، وَعُمرٍ طَرُوبِ،
كم رَعَيناهُ في الجَوانِحِ، دِفئًا،      وأَرِيجًا في الخاطِرِ المَشبُوبِ
يا زَمانَ الصِّبا، ويا راحَةَ البالِ، ــــــــــــ ويا دِيمَةَ الهُيامِ السَّكُوبِ
يا رَنِيمًا مَدَى الجَوارِحِ يَنمُو،   كَنِمالٍ جَيَّاشَةٍ، في دَبِيبِ
أَينَ عَهدُ الهَوَى، وتلكَ اللَّيالِي،   أَينَ كَرَّاتُ خافِقٍ عَندَلِيبِ،
أَينَ وَجْدٌ يَغزُو الجَوارِحَ إِمَّا            لاحَ سِرْبُ الدَّلالِ عَبرَ الدُّرُوبِ
أَينَ تِلكَ العُيُونُ تَهزَجُ غُنجًا،   فَقُلُوبٌ تَؤُجُّ وَسْطَ اللَّهِيبِ
أَينَ تِلكَ الرَّسائِلُ الزُّرْقُ كانت                    حُرَقَ الشَّوقِ في اخضِلالِ النَّسِيبِ
في الحُرُوفِ الوِضاءِ آهاتُ رُوحٍ  تَتَلَوَّى في لاهِبِ التَّشبِيبِ
أَينَ، يا غادَتِي الصَّغِيرَةَ، مِنَّا     غَسَقٌ هادِئٌ، بِلَونِ الشُّحُوبِ
والفَراشاتُ في حَراكٍ رَخِيٍّ،   كَتَهادٍ مِنَ الفَتاةِ اللَّعُوبِ
أَنتِ في ما أَرَى جَمالُ ثُرَيَّا     نَوَّرَت حُلكَةَ الفَضاءِ المَهِيبِ
طَلعَةٌ صُبحَةٌ، وقَولٌ أَرِيجٌ،       ومِنَ الخَيزُرانِ مَشْقُ قَضِيبِ
وعلى شَعرِكِ المَلِيسِ نَسِيمٌ          يَحمِلُ الفَوْحَ في شِراعِ جَنُوبِ
كم وَدِدتُ الرَّحِيلَ في جِنْحِهِ اللَّدْنِ ــــــــــــ إِلى عالَمٍ بَعِيدٍ غَرِيبِ
أَنتِ فِيهِ المَدَى أُطَوِّفُ ما شِئتُ ــــــــــــ ولا أَكتَفِي بِضَوعِ الطُّيُوبِ
لا اختِباءٌ مِن أَعيُنٍ شاخِصاتٍ،       أَو هُرُوبٌ مِن عاذِلٍ ورَقِيبِ
فَنُوارِي عَنِ العُيُونِ هَنانا              ونُنادِي: يا أَعيُنَ المَكْرِ ذُوبِي
ثُمَّ يا دَهرُ لا تُقَوِّضْ لِقانا،                  يا دُنًى أَقفِرِي، ويا شَمسُ غِيبِي
فَلَنا الأَرضُ باتَ كُلُّ بَهاها                    شَوق هَيْمَانَ في حِمَى المَحبُوبِ!
***
رَبِّ! يا مَن بَرَيتَنا بِحَنانٍ،             مِن دِماءٍ تَدعُو، وحُسنٍ مُجِيبِ
غُضَّ عن غَيِّنا إِذا ما تَمادَى     ــــــــــــ      القَلبُ في سَكرَةِ الضَّلالِ المُعِيبِ
رَبِّ! يا واسِعَ السَّماحِ، رَجانا           في نَدَى قَلبِكَ الوَسِيعِ الحَسِيبِ
أَنتَ نِلتَ الصَّلِيبَ عَنَّا فهل تَقبَلُ ــــــــــــ مِنَّا العَذابَ فَوقَ الصَّلِيبِ؟!

اترك رد