إضاءة على رواية واسيني الأعرج الجديدة

ليالي مي زيادة في جحيم العصفورية

واسيني – مَيْ – لَيَالي إِيزِيسْ كُوبِيَا – ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية – رواية – دار الآداب… كلمات أحاطت بصورة الآنسة مَيْ على غلاف الكتاب، وهي لمّا تزل فتيّة.

في الصورة تبدو مَيْ جالسة بحيث يظهر القسم الأعلى من جسدها، مع انحناءة خفيفة لأعلى الكتفين، تتناغم مع الانحناءة الخجولة لرأسها بشعره الأسود المقصوص حتّى أسفل أذنيها، كما اعتدنا أن نراها في معظم مراحل حياتها؛ يشعّ وجهها بضياء زنبقيّ، تجلّله نظرةٌ عميقةٌ لعينين تتّقد فيهما شعلة ذكاء حادّ، ولكنّه على الرغم من حدّته لم يحمها من تهمة الجنون! على ثغرها ملامح ابتسامة تكمّل صورة الزنبقة المتجسّدة في وجه هذه العذراء البهيّة! زنبقة لم يلائمْها هواءُ المجتمع العفِن ونورُه الشحيح، ما جعل نفسها في توق دائم الى شِعاب الفكر، حيث عاشت براءتها، وسطع أريجُ روحِها البديعة التي فاح عطرها من بين سطور رسائلها وكتاباتها؛ هي بسمة تخفي أيضًا بحورًا من التساؤلات والرؤى، ممّا كان يهيج في نفسها فيملأ رذاذُ أمواجِهِ شواطئَ حياتِها ومتونَ كتبها. هذا الكيان استحضره واسيني الأعرج، استدعاه من دنيا الغياب، أنطقه، بعدما ألقى فوق يده الخبيرة وشاحًا سحريّاً أسماه الرواية، وما إن نفضه حتى تجلّت لنا سيرة مَيْ زيادة، الآنسة مَيْ التي أعطاها أسمًا استعارته يومًا للتّخفي خلفه: إِيزِيسْ كُوبِيَا. ولكنّهااليوم لم تعدِ بحاجة إليه!

واسيني ومَيْ، كلمتان أو اسمان كانا ليختصرا كلّ ما تضمّنه الكتاب بشكل موفٍ. هذا الكتاب الذي يفوح بضوع روح إنسانة طبعت اسمها في عالم الفكر بحروف من الذهب؛ ولكن يبدو أنّ الحياة استكثرت عليها هذا النصر، فنهبت منها حتى الحروف، من دون أن تتوصّل الى إخماد شعاع هذين الحرفين: الميم والياء! فزال كلّ شيء وبقيت مَيْ!

رواية أم سيرة ذاتية؟!

واسيني، مَيْ، ليَالِي إِيزِيسْ كُوبِيَا، أهي حقًّا رواية أم سيرة ذاتية؟! أهو واسيني الذي ألّف، أم هي مَيْ التي خطّت صفحات من عمرها؟! هو هذا وذاك! فقد لبست مَيْ واسيني أو لبسها واسيني، احتلّ حياتها، مشى على طرقاتها، دخل بيوتها وجال في كلّ الأراضي التي احتضنتها باحثًا عنها، عن نذر ونسمة منها؛ حتى تقمّصت فيه! فما عدنا نميّز بين ما خطّته ريشة مَيْ وما رسمه خيال واسيني! في كلماته سحرٌ مجبول من ضوءٍ وهواءٍ وشمسٍ وغيوم؛ لا تدرك إن كانت يد مَيْ هي التي التقطتها بأطراف أصابعها، أم أنّ واسيني استلّها من شعاع فكرها بعدما تقمّصت فيه!

تتكرّر أسماء، وتتوالى أحداث نحياها ونحن نقرأُها، نعيشها في العمق. أسماء منها ما هو مألوف ومؤكّد، ومنها ما يتخطّى معرفتنا ويفاجئنا حضورُه. أسماء لا تُحصى من عالم

الفكر: طه حسين، أحمد شوقي، حافظ ابراهيم، عبّاس محمود العقّاد، سلامة موسى، خليل مطران، أمين الريحاني، أنطوان الجميل، يوسف الحويّك الذي كتب لها الرسائل الغراميّة

نيابة عن خطيبها نعّوم زيادة؛ وطبعًا جبران خليل جبران وسواه… وأسماء ممّن احتضنوها في شدّتها ولو بعد حين: من العائلات مثل آل الجزائري، والأفراد كالتاجر مارون غانم، والمحامي فؤاد حبيش صاحب جريدة المكشوف… ثمّ تأتي لائحة جديدة من الأسماء التي تُدخلنا فعليًّا في أجواء روائيّة: هيلينا، بلوهارت، إزميرالدا وكازيمودو… مع حضور ملفت لكامي كلوديل ورودان!

لقد شاع اسم مَيْ زيادة الى حدّ جعله يطغى على تفاصيل حياتها، فاكتفى الكثيرون بمعرفة اسمها من دون العودة الى تاريخها الفكريّ العريق وسيرتها: مَيْ المثقّفة التي تتقن تسع لغات، مَيْ سيّدة المنبر بحضورها الآسر وكلماتها العميقة وجرأتها وهي تطالب بالحداثة، مَيْ سيّدة الصالون الأدبي الجامع لكبار الأدباء، الذين فُتِنوا بفكرها وبسمتها وعبيرها الهيولي. مَيْالمؤمنة المؤدّبة، الثريّة المتواضعة، التائقة للحق والحب؛ مَيْ التي جرّدها الزمن من أقلّ حقوقها، وأفقرَها؛ هي التي جسّدت الحب والعطاء والإنسانيّة في حياتها!

واسيي الأعرج

الضربة القاضية

لم يُنصف الدهر مَيْ، صفعها الصفعة تلو الأخرى، حتى أتت الضربة القاضية بإدخالها الى العصفوريّة. ولكنّ مَيْ، حتّى وهي تجرجر أذيال الخيبة والانكسار، بقيت مشعّة، كسيّدها! كالمسيح حملت صليبها،سقطت تحته حتّى أدمى روحها. كمسيحها تلقّت السياط والمهانة والمذلّة، ولم تفقد جوهرها!ص337.

مَيْ التي هزّ تاريخها ضمائر الأمراء والرؤساء، فكتبوا رسائل التوصية لإخراجها من جحيم العصفوريّة رسالة الأمير عبدالله بن الحسين ص 268، ورسائل التأكيد على متابعة ملفّها

ردّ الرئيس إميل إدّه ص 269، ساعين لتحريرها من الظلم الذي كبّلها جسدًا وروحًا. مَيْ التي تخلّى عنها أقرب المقرّبين، أولئك الذين غمسوا لقمتهم في قصعتها! مَيْ التي حطّمها إرث مجتمعها الذي تدرك جيّدًا تشوّهاتَه: أن تكون رجلاً يكتب، فهذا تحصيل حاصل، أن تكتب امرأة لا بد أن يكون لها ظل ص 204. هي تدرك تمامًا واقع المثقّف: لقد تربّى المثقّف في شرقنا الجريح، على كلّ وسائل النفاق التي تضمن استمراره ص 286. كما تدرك واقع المرأة التي فتحت عينيها على الاستعباد ص287، لكنّها تصرّ مؤكّدة أنّها لن تكون خاضعة: لست امرأة سهلة ولا حتّى طبيعيّة، أحتاج أن يقتنع عقلي قبل جسدي ص 294-295. هي امرأة مدركة تمامًا لواقع شرقنا الجريح، أكان جرح رجولة وانتماء أم جرح كينونة، النتيجة واحدة ومُشينة: أفهم جيّدًا اليوم لماذا حداثتنا معطوبة. حداثة الخطاب والمناسبة.

ولكن معرفة مَيْ لكلّ هذه الأمور لم تنقذها من شرّها، وهي تدرك السبب: وهو أنه حيث تكون العاطفة متيقّظة ومرهفة، فهناك النزاع الأليم، والاستشهاد العظيم، وإذا رافقتها الأنفة وشرف السكوت على الحروف، والكروب، فهناك مأساة الصّلب تتجدّد مع الأيّام ص 308. نعم، مَيْ عاشت الصّلب، ولكنّ صرختها المحقّة كانت كافية لتجذب أنظار العالم الى دمائها المنسكبة.

واسيني الأعرج، لا يسعنا من موقعنا كأخوة لمَيْ زيادة التي أنجبها هذا الوطن، سوى أن ننحني إجلالاً لروحك التي عانقت روح مَيْ، واستحضرتها من جديد الى عالمها الذي يكاد ينساها في خضمّ الحداثة! ولكنّك، إيمانًا منك بأنّ هذه المرأة هي من روّاد الحداثة، أعدت لها حقّها في أن تكون في وسط هذا العالم، فلا يخفيها غياب. واسيني الأعرج، لك منّا تحيّة تقدير على هذا العمل المبدع والمشترك بين واسيني ومَيْ.

اترك رد