الأسئلة الملحقة في اقتصاد المعرفة (*)

بقلم : حنا عبود*

المعرفة ابتكار بشري لمصلحة الإنسان فقط. وأول اقتصاد في العالم هو اقتصاد المعرفة، لأن المعرفة أداة ينتجها الإنسان ليخصّ بها نفسه من دون سائر hana-aboud-1.-1jpgالكائنات المعروفة فوق سطح هذه الأرض. لكن ما هو وجه الشبه بين اقتصاد المعرفة القديم والجديد؟ لعلّه تقاليد المعتقدات السرية، حيث الاحتكار الحديث للمعرفة لا يختلف عن الاحتكار القديم لدى الشامان أو الساحر؛ وحيث “الغش” في البضاعة المادية، يوجد أيضاً في البضاعة الفكرية.

أول اقتصاد في العالم هو اقتصاد المعرفة. فما وصلنا من السجلات المصرية (وبعضها يعود إلى أكثر من ثمانية آلاف سنة مثل “كتاب الموتى”) يدل على اهتمام الإنسان بإنتاج نوع من المعرفة، لاعلاقة له بالعلم والعالم، بل نجد عالماً آخر غيبياً هو ما يتمناه لا ما يعيشه.

وظل اقتصاد المعرفة الغيبية مهيمناً بالكامل، حتى ظهور الفكر اليوناني، الذي يعتبر الخرق الأول لهيمنته في مجال الفكر. لكن الثورة الصناعية، وهي الثورة الثانية بعد الثورة الزراعية، أحدثت انقلاباً في مفهوم إنتاج المعرفة، فلم يعد البحث جارياً وراء السيرافيم والشيروبيم، بل وراء الطاقة وحيازتها واحتكارها وطريقة طرحها في السوق… وهكذا.maouta

أما الثورة الثالثة، ثورة الإنفوميديا، ونفضل تسميتها بثورة الاتصالات، فقد أتاحت المجال للجميع في التنافس الذي أتاحه اقتصاد المعرفة. فلم يعد مروّج البضاعة، من أيّ نوع كانت، بحاجة إلى أن يخطو خطوة واحدة، فمن موقعه يحقق ما يريد، مما جعل الحركة التبادلية، للسلع المادية والمعرفية، تذكرنا بالبساط السحري، فسمسم في الثورة الثالثة، فتحت أبوابها على مصاريعها.

 تعريف المعرفة

 باختصار نقول إن المعرفة ابتكار بشري لمصلحة الإنسان. فالإنسان حدّد- على سبيل المثال- “الأعشاب السامة” بناء على مصلحته. لكن هذه الأعشاب لم تظهر عبثاً. لا بدّ أن هناك توازناً تخضع له، فثمة حاجة لها أبعد بكثير ممّا شخّصته “معرفة” الإنسان. ومحاولة إخضاع الطبيعة لهذا المخلوق، كما يقول فرنسيس بيكون، هي التي تحدد نوع معرفته فقط، ولا شيء آخر. ومن هنا بدأ الإخلال بالتوازن البيئي، الذي لم ينتبه إليه البشر إلا في العصور المتأخرة جداً، إلى درجة توزيع الكمامات الواقية في بعض المناطق الملوّثة.

إن المعرفة أداة ينتجها الإنسان ليخصّ بها نفسه من دون سائر الكائنات المعروفة فوق سطح هذه الأرض، وهي مثل أي أداة أخرى كالعصا والكرباج والسيف والصاروخ وأحمر الشفاه والأغاني… والفارق بين النوعين هو الفارق بين المرئي وغير المرئي، مع العلم أن كثيراً من أنواع المعرفة تتحول إلى مرئي. ولهذه المعرفة آثار سلبية وإيجابية، مثل آثار إنتاج المعرفة المادية سواء بسواء. وفيها من النافل أضعاف ما فيها من المفيد المجدي، ومع ذلك فإنها ثورة بكل معنى الكلمة… ويكفي أن تجري الاتصالات بمثل هذه السرعة لتحدث ثورة في اختصارها الزمن، وفي ضخها السريع للمعلومات.

 أنواع المعرفة

 هناك نوعان أساسيان في اقتصاد المعرفة: المعرفة المكتسبة، والمعرفة المبتكرة. الأولى هي المعرفة العادية التي لا يد للإنسان في صنعها، فهو يعرف بحكم نظره: الأنهار والأشجار، والرعد والبرق… وهذه المعرفة حيادية ما دامت بعيدة عن نوايا الإنسان. ولم يحدثنا الأدب القديم عنها، بل حدثنا عن المعرفة المبتكرة: حدثنا عن حوريات الأنهار والغابات، وكيف أن الرعد والبرق هما صوت زيوس أو بعل أو حاداد، أو أي كائن آخر أنتجته المعرفة، وهذا ما وصل إلينا. فلم يصل وصف نهر أو غابة… لم يحدثنا أحد عن الزهرة، بل عن فينوس، ولا عن المريخ، بل عن مارس، ولا عن الشمس، بل عن أبوللو. وأعظم من سجل تاريخ تفاعل المعرفة مع العالم، وكيف كانت المعرفة رمزية في بادئ الأمر، هو الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل. لكنه زعم إن البشرية ستصل إلى زمن لا يكون فيه إنتاج المعرفة مخالفاً للتكامل الطبيعي بين العالم والإنسان. وهذا شيء لم يتحقق حتى اليوم، فمن جملة إنتاج المعرفة تلك النفايات السامة التي تقلق البشرية.bacon

 وكما كان اقتصاد المعرفة في العالم القديم يقوم على الأسرار، كما تدل على ذلك المعتقدات السرية، كذلك الأمر في هذه الأيام، فإنتاج المعرفة يخضع لتقاليد، لا تختلف عن سابقاتها السرية التليدة. والمعرفة- مثل أي سلعة مادية- تجري عليها قوانين السوق، ومنها الاحتكار. والاحتكار الحديث للمعرفة، لا يختلف عن الاحتكار القديم لدى الشامان أو الساحر. وكما يوجد “الغش” في البضاعة المادية، يوجد أيضاً في البضاعة الفكرية، إلى درجة أن مفكراً من بلاد الشام، هو لوقيانوس الساموسياطي اعتمد نظرية تقول إن البشرية تعيش على الكذب.

 تكاد أنواع المعرفة القديمة تنحصر في الميتافيزيقيا، بينما اليوم تشمل كل شيء، من الإلكترون حتى التكنولوجيا، وحتى المعلومات السطحية، وقفزت البرمجيات قفزات واسعة في نقل المعارف بكل أنواعها. لكن المسائل الأساسية لا تزال اليوم مثلما كانت بالأمس، فالإنسان أكبر مخلوق مراوغ، وما ظهور مذاهب التشكيك من غورجياس وبيرهون، وحتى العصر الحالي، سوى احتجاج على المثالية التي أضفاها بعض المفكرين على الإنسان.

 أسئلة ملحقة

 لا شك أن النقلة الكبيرة للبشرية تمثلت في سرعة نشر المعلومات ودعم عالم الواقع، بحيث لم يعد علماء الميتافيزيقيا يهيمنون على المعرفة، كما جرى في العصور الوسطى. ولكن هناك الكثير من الأسئلة الملحفة تطرح نفسها نكتفي ببعض منها:

 1- هل الطبيعة- بعد الثورة البروميثية اليوم- مرتاحة أكثر ممّا كانت مرتاحة من قبل؟ وهل تضخم القدرة البشرية في التسلط على الطبيعة لمصلحة البشرية؟ وما نسمعه اليوم بأن الأمل كبير في الخلاص من التلوّث، سمعه مفكرو القرن التاسع عشر بعد التهديد الذي أحدثته الثورة الصناعية.

 2- إذا لم يحدث جدب، فلن تحصل مجاعة في العالم القديم، ولكن العالم الحديث لا جدب فيه اليوم، ومع ذلك يزداد عدد المحرومين والجائعين. فأيّ أثر للثورة البروميثية إذا كانت أعداد المحرومين تتضاعف مع مضاعفة إنتاج المعرفة الحديثة؟ ألم نقع في ما حذّر منه الاشتراكيون المثاليون في القرن التاسع عشر، بأن الثورة الصناعية عصر حديدي لا قلب له، سوف يدفع الناس ثمنه؟ وهل يمكن إدخال قلب بشري في الثورة البروميثية الحالية، أم إنها كالثورة الصناعية؟

 3- تقلص الإنتاج الأدبي كثيراً في الثورة البروميثية، كأنه المستهدف بهذه الثورة. ولم يقتصر الأمر على فرع من فروع الأدب، أو نوع من أنواعه، بل شمل الأدب بكامله: من مسرح وشعر وملحمة، بل أصاب القحط الأعياد الأدبية، التي ابتكرها الإغريق، فلم يعد هناك أي اجتماع بشري يقصد منه زراعة الفرح وتبرعم زنابق الغبطة. فهل هناك طريقة تتيح بها الثورة البروميثية للإنسان أن يمارس تقاليد الفرح والغبطة؟

 4- الفولكلور هو بدعة ابتكرتها الشعوب لدفع الكروب. واليوم يخنق اقتصاد المعرفة كل هذه المظاهر، والشعوب تقع في الكروب من دون أمل في مخلص أو منقذ. ولم يقض اقتصاد المعرفة اليوم على الفلوكلور وحده، باعتباره نشاطاً جماعياً موروثاً، بل أيضاً قضى على النشاط الفردي، فلا نسمع اليوم بفيدياس، لأنه لا يوجد في السلطة السياسية بيركليس، بل لا يمكن أن يوجد بيركليس في مثل اقتصاد المعرفة الجاري. وآخر مجموعة نشطة في الرسم والفن، كانت مجموعة السبعة، الذين كرسوا رسومهم لطبيعة بلادهم كندا، بينما اليوم تسمع بمجموعة السبعة والثمانية والعشرة والعشرين، ولكن ليس للفنانين، بل لرؤساء الدول الصناعية. فهل يمكن أن تتابع البشرية سيرها بهذه الطريقة؟hegel-1

5- هل استطاعت المعرفة “الواقعية” أن تغيّر متشدداً واحداً في عقيدته؟ وهل استطاعت المعرفة “الميتافيزيقية” أن تجعل واحداً من أنصار الوضعية المنطقية يؤمن بكلّ المعارف التي وصلته من العصور الوسطى، أو العصور القديمة؟ إن ما فعلته الثورة البروميثية أنها سرّعت آلاف المرات وتيرة النقل، وفي الوقت ذاته سرّعت وتيرة الصراع بين الطرفين، أو الأطراف الكثيرة والمتكاثرة… وساعدت على التفكير أضعاف ما فعلته الثورة الصناعية.

بالطبع هناك الكثير من الأسئلة تطرح على اقتصاد المعرفة، وليس الغرض سوى توجيه هذا الاقتصاد لمصلحة الانسجام والتوازن الطبيعي، ولو أن فرنسيس بيكون عاد اليوم، لغيّر رأيه في أن المصلحة التي زعم أنها تخدم الإنسان تقوم حقاً بخدمته، ولا تدمره.

 هل المنافسة حتمية؟

ليست المسألة اختيارية، فالثورة تجرّ وتجرف كل الشعوب، تماماً كما فعلت الثورة الصناعية، والتخلف عن هذه الثورة، لا يختلف عن التخلف في الثورة الصناعية. وحتى تدخل المنافسة يجب أن تكون قوياً، وليست وسائل القوة متاحة للجميع، لذلك لجأت بعض الدول إلى توفير أسباب القوة من باب آخر، فألمانيا ألغت مفاعلاتها النووية، وأسبانيا زادت من اهتمامها بالطبيعة السياحية، فزادت إسهاماتها في المشاركة. وهناك طرائق وأساليب كثيرة لتهيئة الظروف التي تخلق الكادرات المختصة لمجاراة الثورة البروميثية، التي تتيح لك اليوم أن تنجز في ساعات ما كان يستغرق سنوات.

 كل ما يرجوه الناس اليوم أن تكون نسبة النوايا الحسنة عند المسيطرين على الثورة البروميثية أكبر بكثير ممّا كانت في الثورة الصناعية السابقة، بحيث نتجنّب العقابيل التي جرتها الثورة الصناعية، وبحيث لا يكون الحض على إنتاج المعرفة، تشجيعاً لهجرة العقول، فيصير العالم الثالث تاسعاً.

 ****************

(*) مؤسسة  الفكر العربي، نشرة “افق”

(*) ناقد وباحث من سوري

كلام الصور 

1- كتاب الموتى الفرعوني

2- فرانسيس بايكون

3- هيغل

اترك رد