الوحدة الوطنية الفلسطينية … أولاً وآخراً

 

   

جواباً عن قرار الرئيس الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، وهو قرار مخالف للشرعية الدولية ولقرارات الأمم المتحدة، جاء التضامن الدولي والعربي الواسع، رسمياً وشعبياً، ليؤكد مرة أخرى أن القضية الفلسطينية ما تزال تشكل الحلقة المركزية في الصراع العربي- الصهيوني، وإنها العنصر الجامع للشعوب العربية، والمتعارض مع حال التذرّر الطائفي والمذهبي، الذي تغرق فيه المجتمعات العربية، وتترجمه حروباً أهلية طاحنة. إذا كان التأييد الدولي صادقاً في تعبيراته ومنطلقاته، إلا أن معظم التأييد العربي والإقليمي، خصوصاً الإيراني والتركي، تشوبه الشكوك في مضمونه وأهدافه. موقفان وسما هذا التأييد، موقف قومجي عربي، وموقف طائفي مذهبي.

في العالم العربي، من الصعب اليوم التمييز بين ما هو صادق وحقيقي في التأييد للقضية الفلسطينية، وبين ما هو كاذب، يعتمد المزايدات في إطلاق “الحنان” والتعاطف مع فلسطين والقدس. كانت القضية الفلسطينية منذ النكبة ميدان صراع بين الشعب الفلسطيني والأنظمة العربية وأحزابها القومية وبعض اليسار منها. وكان الهمّ الدائب لهذا الفكر القومجي، الرسمي والحزبي، رفض اعتبار القضية الفلسطينية قضية تخص شعب فلسطين أولاً، إضافة إلى كونها قضية عربية. كانت المصادرة الدائمة للصوت الفلسطيني هي الطاغية تحت حجة أن فلسطين هي قضية العرب أولاً وأخيراً. لعل أهم الإنجازات التي حققتها المقاومة الفلسطينية، على رغم كل الخسائر والشرذمات التي أصابتها، كانت بلورة الشخصية الوطنية الفلسطينية، والإصرار على القرار الوطني المستقل، وتكريس ذلك بوجود منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً لهذا الشعب.

هذا الإنجاز هو محصلة النضال الفلسطيني، دُفعت دماء غزيرة من أجل الوصول إليه، وشكل عنصر تصادم مع معظم الأنظمة العربية، خصوصاً الأنظمة المتاخمة لفلسطين. وهذا الإنجاز هو الذي يعطي الشعب الفلسطيني القدرة على مواجهة المشروع الصهيوني يومياً بصدوره العارية. كان الموقف البعثي ينكر هذه الخصوصية، ومن أجل ذلك ساهم، مع غيره من الأنظمة، في قمع الشعب الفلسطيني في الشتات، وأعملت تمزيقاً وشرذمة في مؤسساته الرسمية والشعبية، وأبادت من الشعب الفلسطيني أكثر مما ارتكبه العدو الصهيوني. وها هي اليوم تستغل مناسبة القرار الأميركي لتستعيد خطاب إلغاء موقع الشعب الفلسطيني من المعادلة، بل مصادرته واختزاله بها. وهو موقف ينذر بمخاطر على القضية برمّتها.

في المقابل، دأبت إيران، منذ قيام جمهوريتها الإسلامية، على التدخل في الشأن الفلسطيني، استناداً إلى خلفية أيديولوجية لا تقل خطراً عن الديماغوجية القومجية العربية. طرحت إيران منذ البداية موقفاً يرى أن القضية الفلسطينة قضية دينية وليست عربية فقط، ما يعني ضرورة ربطها بالمحور المذهبي الطائفي الذي تلتزمه إيران. لم تأل إيران جهداً في العمل على تمزيق الوحدة الفلسطينية والتشكيك في خصوصية الشعب الفلسطيني في مواجهة إسرائيل. تدخلت في دعم قوى فلسطينية طائفية من قبيل حماس وسائر التظيمات الإسلامية، ووجدت فيها حليفاً مشتركاً ضد الوحدة الفلسطينية والقرار الوطني المستقل. دعمت انفصال حركة حماس وعطلت مشاريع المصالحة. وعندما وجدت الحركة نفسها أخيراً أمام مأزق سلطتها، وقبلت بالعودة إلى المصالحة، عادت إيران إلى وضع العصي فيها ومنع حصولها. اليوم ترتفع الديماغوجية الإيرانية ومعها الأحزاب المسماة “ممانعة” في ركب موجة الاستنكار للموقف الأميركي، لتطرح مجدداً مشروعها الطائفي المذهبي وتسبغه على القضية الفلسطينية، نازعة عنها هويتها العربية. على غرار التأييد القومجي العربي، يصب التأييد الطائفي المذهبي لمعسكر إيران في خانة ضرب القضية الفلسطينية ومصالح شعبها، وسائر الجمهور العربي الصادق في تأييده.

مما لا شك فيه أن القيادة الفلسطينية تواجه اليوم وضعاً يحمل الكثير من التناقضات، وملغوماً بمؤامرات لا حدود لها من هذا المعسكر أو ذاك. كان السلاح الأمضى، دوماً، في يد القيادة الفسطينية، التمسك بالأهداف الصريحة في إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس، وفي صون القرار الوطني الفلسطيني ومنع مصادرته، وفي الإصرار على الوحدة الفلسطينية سبيلاً وحيداً للحفاظ على المكتسبات ومنع هدر نضال الشعب على امتداد عقود من الزمن. لعل هذا العناد في التمترس أمام معادلة الوحدة والقرار المستقل ورفض التصفية تحت عناوين مشاريع تسوية لا تلبي مطامح الشعب الفلسطيني. هذه الأمور المستعصية، ما تزال تثير أحقاد الفكر الديماغوجي القومجي والفكر الطائفي، اللذين يلتقيان في هدف واحد هو ضرب القضية الفلسطينة وإنهاء المشروع الوطني الفلسطيني، تحت شعارات منافقة، نظرياً وعملياً. وهو ما أثبته التاريخ الرسمي العربي والتدخل الإيراني على امتداد العقود الماضية.

في مواجهة المشروعين الأميركي والإسرائيلي، وسعي الأنظمة العربية والإقليمية، إيرانيةً كانت أم تركية، والتي تهدف جميعها إلى مصادرة القضية من أجل توظيفها في مشاريعها الخاصة، لا سبيل أمام الشعب الفلسطيني سوى الإصرار على تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، أولاً وقبل كل شيء، لأنها وحدها الضامنة لإجهاض المؤامرات المتربّصة بالشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.

 

اترك رد

%d