حين نَسْأَلُ الآبَ أَنْ تكونَ مَشيئتُه على الأَرْض كمَا في السَّماءِ أَلَا يَعْني هذا، مِنْ جُمْلَةِ ما يَعْنيه، أَنْ نُتَمِّمَّ نحن البَشَر مَشيئَتَه بطاعتِنا وسَمعِنا لكَلامِه وعَمَلِنا بِه؟ أَمْ يَعْني أَنْ يُحَقِّقَ هو بذَاتِهِ مَشيئَتَه عَلَيْنا وعلى الخَليقَةِ برُمَّتِها؟ أَفَلَا يَكونُ هذا حينَ يَأْمُرُنا أَو يُوْصينا بأَنْ نَفْعَلَ مَا لَمْ نَكُن نَرْغَبُ بفِعْلِهِ نحن حينَ نَغْرقُ برَغَباتِنا وشَهَواتِنا ومُيولِنا ونَزعاتِنا ونَزَعاتِنا وأَحْقادِنا وكَرَاهيَّتِنا ورَفْضِنا كلَّ نُصْحٍ ونَبْذِنا لكلِّ خَيْر؟
كلَّ مَرَّةٍ نَتَأَمَّلُ الوُجُودَ على أَرْضِنا ومِنْ حَوْلِنا في الكَواكِبِ والأَجْرام السَّماوِيَّة أَلَا نرى مَشيئَةَ الله في حُسْنِ مَسارِها ودِقَّةِ نِظامِها؟ وحينَ نَرى مَا لا نُدْرِكُهُ في الطَّبيعة، أَفَلَا يَجِبُ أَنْ نَتَساءَلَ عَمَّا إذا كانتْ مَشيئَتُه تَفْعَلُ فيه، وعَقْلُنا لا يُدْرِكُ غايَةَ هذا الفِعْل؟
حينَ نَفْهَمُ أَنَّ مَشيئَةَ الله تَتِمُّ مِنْ خلالِنا، نُدْرِكُ أَنَّ إرادَتَنا يَجِبُ أَنْ تَلْتَقِيَ بإرادةِ الله حينَ يَدْفَعُنا إلى فِعْلٍ مَا، أَوْ يُنْهينَا عَنْ فِعْلِ أَمْرٍ آخَر، وَنَعِي بالتَّالي أَنَّ مَا يَطْلُبُه هو لِصَالِحِنا ومَا يَمْنَعُه عنَّا فيه ضَرَرٌ لَنَا، ونَسْتَشْعِرُ في حالَتَي الطَّلَبِ والمَنْعِ بِحُبِّهِ الوَهَّاجِ لَنَا وعَطْفِهِ عَلَيْنَا ورَغْبَتِه في سَعَادَتِنا وبُلوغِنَا الكَمَالَ الَّذي دَعَانَا إلَيْه حينَ خُلِقْنَا. أَلَيْسَ هذا مَا فَعَلَهُ السَّيِّدُ المسيح مع ذاك الفَتَى الغَنِيِّ الَّذي جاءَ يَسْأَلُ المُعَلّم: ماذا عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ لِأَرِثَ الحياةَ وأَبْلُغَ الكَمَال؟ ومَا زادَ المَسيحُ في الطَّلَبِ منَ الغَنِيّ الَّذي أَحَبَّ صِدْقَهُ حينَ قالَ إنَّه يَحْفَظُ الوَصَاَيا مٌنْذُ صِبَاه، إلَّا لِأَنَّه يُريدُ لهذا الشَّابِ أَنْ يَبْلُغَ الكَمَال. أَوَلَيْسَ هكذا يَفْعَلُ مع الَّذينَ يَسيرونَ على دَرْبِ القَداسَةِ فَيَطْلُبَ مِنْهُم أَكْثَرَ وأَكْثَرَ لِيَجْعَلَ مِنْهُم قِدِّيسينَ عُظَمَاءَ ولَيْسَ فقط مُؤْمِنين جَيِّدين؟
لِتَكُنْ مَشيئَتُكَ، تَعْني كذلك أَنْ تَكونَ مَشيئَتُهُ فينَا فَنَتَقَدَّسَ بلِقَائِها وتَلَقِّيها، وهكذا تَتَقَدَّسُ الأَرْضُ كمَا السَّماء مُقَدَّسَة، ومَشيئَةُ الله في السَّمَاءِ ساطِعَةً لأَنَّ السَّمَاءَ خالِيَةٌ مِنَ الأَحْقادِ والآلامِ وعِبَادَةِ المَالِ والكِبْرِيَاءِ والحَسَدِ والمُيُولِ الأَمَّارَة بالسُّوء، وهكذا تُصْبِحُ الأَرْضُ حينَ نُتِمُّ، نحنُ والله، مَشيئتَهُ على هذه الأَرْضِ بَعْدَمَا تَتِمُّ في قلوبِنا وعقولِنا وأَجْسادِنا، فَيَنْتَفي البُغضُ وتَنْقَلِب الشَّراهةُ إلى قَنَاعَة، والبُغْضُ إلى مَحَبَّةٍ والحَرْبُ إلى سَلَامٍ والتَّكَبُّرُ إلى تَوَاضُعٍ والظُّلْمُ إلى عَدْلٍ، ويَسُودُ التَّضَامُنُ بَيْنَ النَّاسِ ويَعمُّ التَّلاقي ويَمْلأُ الفَرَحُ كلَّ الوُجوهِ والقُلوبِ ويَأْتي التَّآخي لِيَمْسَحَ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عَيْنِ مَحْزونٍ ويُطْعِمَ اللُّقْمَةَ لِمَنْ حَرَمَتْهُ قَسَاوَةُ الأَيَّامِ مِنْها.
لا شَكَّ أَنَّ في طَلَبِ مَشيئَةِ الله صِرَاعٌ بَيْنَ مَا أُريدُه لِنَفْسي الرَّاغِبَةِ في مَتاعِ هذا العالَمِ وبَيْنَ مَا يُريدُه الله مِنْ أَجْلِ بُلوغِ سَعَادَةِ العالَم الآتي. وهُنا عَرَف القدِّيسونَ كَيْفَ يُوَفِّقونَ بَيْنَ مَا يَرْغَبُ الله بِهِ لَهُم ومَا يَرْغَبُونَ هُم لِأَنْفُسِهِم فالْتَقَتِ المَشيئَتَان. أَمَّا نحن الضُّعفاءَ الَّذين نَرَى في مَذَاقِ طيبَاتِ الأَرْضِ سَعَادَة نَخَالُها تَدومُ ونَعْلَمُ أَنَّها فَانِيَة، ونَرَى في مَبَاهِجِ الأَرْضِ فَرَحًا ونَعْرِفُ أَنَّه سَيَنْقَلِبُ حُزْنًا، ونَرَى في مَلَذَّاتِ الجَسَدِ بَهْجَةً ونَعْرِفُ أَنَّها سَتَيْبَسُ كَمَا الزُّهور إنْ عَاشَتْ فإلى حين، ونَرَى في المَكَاسِبِ ضَمَانَةً ونَعْرِف أَنَّها سَريعَةُ التَّحوُّلِ والتَّقَلُّبِ وأَنَّ المُتَمَسِّكَ فيها أَشْبَهُ بِمَنْ يُمْسِكُ بِحِبَالِ الرِّيح. ونَرَى في السُّلْطَةِ مَجْدًا ونَعْرِفُ أَنَّها سَتَزُولُ كَمَا أَتَتْ، ونَرَى في بَخورِ النَّاسِ سَكْرَةً ونَعْرِفُ أَنَّه سَيَتَحَوَّلُ دُخَانًا مَا إنْ يَزولُ وَهْجُ جَمْرِها.
هذا الصِّرَاعُ بَيْنَ مَشيئَتِنَا ومَشيئَةِ الله لا يُبْعِدُ مَحَبَّةَ الله لَنَا، ولَكِنَّه يُجَفِّفُ مَحَبَّتَنا نحن لله ولِأِخْوَتِنَا البَشَر، ونَكونُ عائِقًا مُبْتَذَلًا في طريقِ مَشيئَةِ الله الَّتي نَطْلُبُ ونَسْأَلُ أَنْ تكونَ على الأَرْضِ كمَا في السَّماء. فَهَلَّا اعْتَبَرْنا؟