“مسيحيو الشرق تاريخ يمتد أكثر من ألفي عام” في معهد العالم العربي-باريس

مخطوطات وأيقونات وقطع أثرية نادرة… صفحات مشرقة في مسيرة حيوية

لأن الغرب يجهل الكثير عن المسيحية في الشرق، ينظم معهد العالم العربي في باريس معرضاً  في عنوان “مسيحيو الشرق تاريخ يمتد أكثر من ألفي عام” (25 ايلول 2017- 14 كانون الثاني 2018)،  يتمحور  حول الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية للمسيحيين في الشرق، وتعددية  الكنائس والقديسين والممارسات الطقسية والتقاليد والأماكن. كذلك يبرز حيوية المجتمعات المسيحية العربية  رغم الاضطرابات التي  تواجهها بفعل  الأوضاع السياسية التي تعيشها المنطقة.

يُنظم المعرض بتعاون وثيق مع ممثلي الطوائف المسيحية، ويضمّ قطعاً أثرية أساسية من التراث المسيحي الشرقي،  ما يجعله الأول من نوعه على مستوى الغرب.

تاريخ حافل وغني

يتتبع المعرض تاريخ المسيحيين في العالم العربي منذ ولادة المسيحية لغاية اليوم، من خلال مسار  الكنائس: القبطية  الأرثوذكسية، الآشورية الكلدانية، المارونية، اليونانية الأرثوذكسية، كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، ويتوقف عند أحداث تاريخية بارزة  من بينها: اعتبار المسيحية دينَ الدولة في القرن الرابع،  تأسيس الكنائس، الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، وصول المبشرين الكاثوليك والبروتستانت في القرن السادس عشر، انشقاق الكنائس الشرقية، النهضة العربية في القرن التاسع عشر والمشاركة البارزة للمسيحيين  فيها، التجديد الثقافي والديني  ضمن الأوضاع السياسية في القرنين العشرين والحادي والعشرين.

بغية إقامة حوار بين الماضي والحاضر،  يضمّ المعرض قطعاً أثرية تبرز ثراء الكنائس في العالم العربي، من بينها:  فسيفساء  تعود إلى الكنائس الأولى في فلسطين والأردن وسوريا، رسوم وجوه رهبان قبط من دير مصري في باويط،  كتابات  على الرق  للراهب القبطي الشهير شنودة، مسلات وتذكارات من  الحج مع صور القديسين: مينا  وسمعان وتقلا، كؤوس وأطباق فضية من كنوز الكنائس السورية…  فضلا عن قطع أثرية  تضيء على المحيط الثقافي والسياسي الذي  نشأت فيه المسيحية، والأسس التاريخية والممارسات المعاصرة.

كذلك يتوقف المعرض عند الخصوصية في ممارسة  الكنائس  طقوسها الدينية  بعد الفتح العربي، ويبرز الغنى في ترجمة النصوص  المسيحية، من خلال   عرض مخطوطات تعود إلى الفترة   الممتدّة بين القرنين الخامس  والرابع عشر في سوريا أو العراق أو مصر، باللغات اليونانية والسريانية والقبطية والعربية، أو ثنائية اللغة  أحياناً،  فضلا عن روائع من الفن الإسلامي بأسلوب مسيحي يبيّن خبرة الحرفيين المسيحيين والعلاقات الفنية الوثيقة بين المسيحيين والمسلمين.

لوحة نادرة تعود إلى القرون الوسطى

 صلة وصل

منذ بداية القرن الخامس عشر،  توجهت أوروبا تدريجاً نحو المسيحيين في العالم العربي  لتعليم اللغة العربية، في الكليات الرئيسة التابعة للقصور الملكية، ويتبيّن، من خلال  التدريس والترجمة، ثم  التجارة بين بلاد الشام وأوروبا،  دور المسيحيين الشرقيين  كوسطاء  ثقافيين بين الشرق والغرب.

في هذا السياق، يحتوي المعرض أناجيل مطبوعة في قزحيا وروما وباريس، أردية  مصنوعة في ورش  نسيج حلب،  أيقونات من مدرسة القدس، صحف تعود إلى عصر النهضة مطبوعة في مصر ولبنان،  تشهد كلها على الزخم   الثقافي  والحِرَفي الذي  عاشه مسيحيو العالم العربي بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر.

يلقي المعرض، في المرحلة الأخيرة منه ، أضواء على حيوية الكنائس اليوم، رغم التغيرات السياسية التي عاشها العالم العربي في القرنين العشرين والحادي والعشرين: من الموشحات الدينية التي تتوجه إلى مريم العذراء في المدن اللبنانية إلى إحياء حياة الرهبنة المصرية وتقاسم الأماكن المقدسة بين المسيحيين والمسلمين…  وصولا إلى دعوة واضحة من المعرض  بضرورة حماية  التراث المسيحي الشرقي الغني.

تبادلات ثقافية

خلال الفتح العربي، في القرن السابع ميلادي،  شكل المسيحيون النسبة الإجمالية لشعوب الشرق الأوسط،  وحافظوا على لغاتهم القديمة (القبطية في مصر، واللهجات الآرامية المتنوعة في سوريا وبلاد ما بين النهرين)، وابتداءً من القرن العاشر، اعتمدوا اللغة العربية ما ساهم في ولادة أدب عربي مسيحي خاص، إلا أن التعريب  أدى إلى اضمحلال اللغات القديمة أو اندثارها.

بين القرنين التاسع والثالث عشر عرفت التبادلات الثقافية بين المسلمين والمسيحيين عصراً ذهبياً، في مصر وسوريا وبلاد ما بين النهرين. في ما بعد أدى  المسيحيون دوراً رائداً في النضال العربي على الصعد كافة: النهضة في مجال الهوية الثقافية العربية ضمن الإمبراطورية العثمانية، النضال ضد الاستعمار الغربي، العروبة السياسية، معارضة الدولة الصهيونية والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني…

قطعة من التراث المشرقي

مدّ وجزر

ابتداءً من القرن الرابع عشر، شهد الوجود المسيحي في الشرق تراجعاً،  وكان للإكراه على الأسلمة دور، من دون أن يشكل سبباً وحيداً.  لكن في ظل الإمبراطورية العثمانية، أي ابتداءً من القرن السادس عشر حتى بداية القرن العشرين، عرفت الطوائف المسيحية في المشرق نمواً ديمغرافياً.

شهد القرن العشرون تراجعاً في نسبة المسيحيين في المشرق. فبعدما كانوا في عام 1900  يشكلون نسبة تتراوح  بين 10% و15% من العدد الإجمالي لسكان الشرق الأدنى العربي، تراجع عددهم بشكل ملحوظ ليصل إلى نسبة تتراوح بين 6% و8%.

منذ سبعينيات القرن الماضي،   فاقم المشروع الإسلامي الشعور بعدم الأمان لدى المسيحيين إزاء مشروع اجتماعي-سياسي أُبعدوا عنه، بالتالي اختار كثر طريق الهجرة،  فضلا عن الأزمات المتفاقمة التي يشهدها العالم العربي منذ بداية الألفية الثالثة، والخلل في النسيج الاجتماعي الذي ظهر بعيد “الربيع العربي” وأدى إلى تفسّخ العراق وسوريا  وإضعاف مصر…  هذه الظروف وغيرها تجعل التوقعات المستقبلية لهذه الطوائف مظلمة.

من حيث النسبة، يشكل لبنان التجمع المسيحي الأعلى في الشرق الأوسط، أما من حيث العدد، فإن الأقباط هم أكبر مجموعة مسيحية في الشرق الأوسط ناطقة بالعربية، وتؤكد مصادر قبطية ان عددهم يتراوح بين 12 و16 مليون شخص، بعد ذلك  تأتي الكنيسة المارونية في لبنان،  إذ يبلغ الموارنة في الشرق الأوسط بين مليون ومليون ونصف. أما الآشوريون والسريان والكلدان فيقاربون المليونين. في السنوات الأخيرة هاجر عدد كبير منهم من العراق، فيما تحتضن سوريا  أكبر جالية مسيحية سريانية في الشرق الأوسط إذ  يبلغ عددهم حوالى مليون ونصف، بينما انخفض العدد  في العراق إلى 400 ألف  بعدما كان حوالى مليون ونصف عشية الغزو الأميركي للعراق.

في ما يتعلق بطائفة الروم الأرثوذكس  فيتخطون النصف مليون، والروم الملكيين الكاثوليك المليون.  أما الأرمن، فيبلغ عددهم  نحو نصف مليون نسمة، ويحتضن  لبنان أكبر تجمّع لهم، إذ يبلغ حوالي 254 ألف شخص. تعتبر كنيسة الأرمن الأرثوذكس  من ضمن عائلة الكنائس الأرثوذكسية المشرقية،  وتشكل أكبر تجمع مسيحي في إيران وتركيا.  ايضاً يتوزع الأرمن في سوريا وفلسطين لا سيما القدس. أيضاً  استقطبت دول الخليج العربي مثل الكويت والبحرين المسيحيين الذين  يفدون إليها للعمل.

أخيراً، كان اليونانيون من أكبر التجمعات المسيحية في الشرق الأوسط، لكن منذ الفتوحات الإسلامية، انخفض عددهم في تركيا حيث يتمركزون في مدينة إسطنبول، و نتيجة مجازر اليونان البنطيين التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وبوغروم إسطنبول سنة 1955. اليوم، تحتضن قبرص أكبر مجتمع يوناني في منطقة الشرق الأوسط حيث يبلغ عددهم حوالي 793 ألفاً بحسب إحصاءات 2008.

من التراث المشرقي

 

اترك رد