سألني الاستاذ الكبير حسن ملاط عن سر غيابي عن ساحة الكتابة فأجبته بأن النفسية ليست في وضع جيد كي اكتب فذكرني بالعظماء الذين كتبوا من سجنهم وطلب مني ان اكتب من السجن الكبير.. وها اني احاول ان افعل.. لن اصف لكم هذا السجن فأنتم مثلي ابصرتم النور فيه.. ولن اصف لكم معاناتي فيه فانتم تعانون مثلي.. لكن لي معاناة زائدة عنكم.. فأنا اعاني منكم انتم ايضا.. واعاني من نفسي فأنا لست الا واحدا منكم.. وصوتي هو صوتكم وصوت من لا صوت لهم.. في هذا السجن نتنافس لارضاء جلاد نعرف يقينا انه سيسوقنا يوما الى حبل المشنقة ..
وليس هذا اليوم ببعيد.. نتبارى بسد كل نافذة او كوة تركها لنا السجان كي نتنفس منها او نقتبس منها نورا.. بأسنا بيننا شديد وكيدنا لبعضنا البعض اعظم.. لا يؤلمني طيف حبل المشنقة الذي سيلتف يوما على عنقي ولكن يؤلمني صمت القبور ازاء هذا المشهد يومها.. تحرقني الابتسامات الخفية خلف ظهري من مساجين يتناسون ان الدور آت عليهم.. من مساجين سلبوا لذة الامل بالحرية واستبدلوها بلذة الشماتة والصمت اللامبالي.. يؤلمني كيف نصفق لمن يقول كلمة الحق ثم نشي به للسجان في ظهره كي ننال منه لقمة مغمسة بالذل.. ونحن ما زلنا ها هنا… نتسلى بقصص واساطير تتحدث عن فرسان يحاربون التنين.. ابطال يعيشون في خيالات بدأت تذوي كأزهار قطعت سيقانها من الجذور وفي ذكريات تتساقط كأوراق الخريف.. وحده التنين نجا من محارق التاريخ ليحرق بنيران ينفثها كل برعم امل يقع عليه بصره.. ونحن ما زلنا ها هنا.. نراهن على سمكة تسبح عكس التيار في سجن ذابت فيه كل التيارات في مستنقع فساد لا تعيش فيه الا تماسيح تلتهم كل ما يلقى لها دون ان تتكلف حتى بذرف الدموع الزائفة التي اشتهرت بها… ونحن ما زلنا ها هنا.. نبحث في زوايا الذاكرة عن طيور تغرد خارج السرب في سجن لم يعد فيه هناك من سرب ولا طير..
لا سماء ولا فضاء بل كل شيء فيه استحال هاوية لا قاع لها ولا قرار.. ونحن ما زلنا ها هنا.. كتب علينا ان نشرب الكاس المر مرة بعد مرة.. والا ناكل ما هو مقسوم ولا نقسم ما هو صحيح.. تلك هي خياراتك المستحيلة وعشقك الممنوع.. لك ان تتذمر ما شئت وان تشتم من تشاء وان تفرغ كل طاقاتك السلبية ضد الاخرين كي تتناسى ان الملام واحد.. انت..انت من دخلت السجن بقدميك.. انت من وضعت الثقة بأناس لا يستحقونها وبنيت احلاما من ورق على سقف قصور من رمل على ضفاف شاطىء بحر يتأرجح مزاجه بين مد وجزر. هنيئا لنا بالبؤس والشقاء والاحلام المجهضة فهذا ما نستحقه ومرحبا بكل الثيران البيض وكل السكاكين التي ستشحذ.. مرحبا بكل خيبات الامل والخذلان وبكل الاقنعة التي ستسقط لتكشف عن افاع بالف رأس كل ما قطعت منها رأسا نبت مكانه اثنان.. تجرع كأسك بصمت وتنح لتفسح المجال لمن يليك.. واشكرنا ان حجزنا لرفاتك مساحة في مقبرة جماعية غصت بساكنيها وبح صوتها وهي تصرخ ‘هل من مزيد؟’