أحلام ماكلوهان لحسن الوزاني وحلم كتابة جديدة

في أحلام ماكلوهان لحسن الوزاني إشارة إلى تحول حضاري في تاريخ الإنسانية. وقد انتاب الشاعر حُلُم العودة إلى فكر الكبار في الأدب والفكر والإعلام. ففي أحلام ماكلوهان تمسّكٌ بالحلُم الإنساني لبناء عالم جديد. وهذا الاحتفاء بالحُلم هو الذي يعكس ما يشغل حياتنا وتطلّعاتنا، خاصّة وأن الشعر في حدّ ذاته ينطلق من لحظة الحلُم. كما أن القصيدة بناء حلُمي ركيزته الخيال لتكوين عوالم من الدهشة والإثارة والخَلْق الشعري. وقد يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره في استشراف المستقبل.

وحسن الوزاني يكتب بمنظور إيحائي مغاير في إثارة الخيال والمشاعر والرّؤى، على غرار الشعراء الحقيقيين الذين يتّجهون إلى القضايا الكبرى. فمارشال ماكلوهان، رائد علوم الاتصال والإعلام، كان مدركاً للدور الحضاري والتاريخي لوسائل الإعلام في العصر الحديث. وكان يرى أن الفنّان العبقري هو الذي يتمكّن من استيعاب ومعايشة هذا الواقع التاريخي بعد أن أصبح العالم قرية كونية جعلت الإنسان يمتدّ في الزمان والمكان.

وبذلك يرتقي الشاعر بقصيدته إلى آفاق جديدة في دينامية الدلالة وخاصّية التفاعل، فيخرج عن النّمطية السائدة على مستوى الإبداع ليقدّم نظرة عن الإنسان المعاصر في صراعه مع مقتضيات عصر العولمة وسلطة الصورة، وفي صراعه مع الحياة والوجود، ليجد فردوسه في وطن الكتابة. ويتأمّل ما يجري في العالم المعاصر من أحداث على مختلف المستويات. فيطرح أسئلة عديدة في أصناف المعرفة الإنسانية في عوالم الفكر والإعلام والإبداع في عالم مشحون بإيقاعات العصر، ليبحث عن عالم يستوعب رؤى الذات في صراعها مع الحياة وتصوّرات الإنسان وأحلامه.

وحلُم حسن الوزاني من حلُم المفكّر الكَندي مارشال ماكلوهان بعد أن أدرك أن الإعلام يهدّد المصير الإنساني، وأدرك أن من له سلطة التحكّم في وسائل الإعلام له القدرة على التحكّم في العالم. كان ماكلوهان مفتوناً بالإعلام وعاشقاً للأدب. وهو من أشهر المثقفين في القرن العشرين. ودراساته الأدبية والإعلامية كانت محطّ اهتمام مثقّفي عصره. وحسن الوزاني يجمع بين الأدب والإعلام والإبداع. ويدرك مدى تأثير الاختراعات التكنولوجية على المجتمعات الإنسانية. وهو في هذا العمل الشعري يفصح عن رؤية جديدة للعالم. رؤية منبثقة من ثقافته الشّمولية ومن التغيرات التي يعرفها عصر سلطة الصورة. وما يشهده من تحوّلات يعجز الذّهن البشري عن استيعابها، فيولّد لدى الإنسان إحساساً بالاستيلاب وشعوراً بالعجز وصعوبة التّأقلم. فيرصد ما يحدث من متغيّرات على صعيد المعرفة العلمية والإعلامية ومدى تأثيرها في الحياة والكون، وحقيقة كل ذلك بالحقيقة الإنسانية. فالإقامة في المستقبل الشعري بصورة تليق بالأحلام رهين بالعلم والمعرفة وبالفكر والإبداع.

إن تجربة حسن الوزاني خصبة يمكن قراءتها من أوجه مختلفة، فهي تجمع بين الوجدان الذّاتي والتّأمّل في الحياة والوجود. يقول: أقيمُ كَكَائن أليفٍ بقرية الكَوْن / حيثُ الأشياءُ صديقةٌ لأضْدادها. (ص. 38). فيجوب عوالم وأمكنة عديدة، ويلمس التغيّرات الكبرى في العلاقات الإنسانية بين الأمس واليوم وبين الماضي والحاضر. فاليد التي حاولت أن تشدّ إليها الشمس تحمل حلُماً أكبر من الزمن، ما يعني شساعة أحلام الشاعر. وهو في كل ذلك يحتكم إلى الطفل الذي في داخله. الطفل الذي يكتب القصيدة المحمّلَة بأسرار الرؤى ودهشة الكتابة من خلال حضور ابنته “ريم”. يضمّ هذا العمل الشعري تسع قصائد بعدد سنوات عُمْر ابنته ريم. فيُلبِس القصيدة حُلُمه لتعبّر عن أحلام الطفولة الكامنة في الإنسان ولتعبّر عن طفولة أحلامه. يقول: أنا أقْصَرُ قليلا من شلالات نياغارا / ولذلك لا تبلغُ يدي الشمسَ / (…) /اليدُ / التي شدّت إليها الشمسَ / لم تكنْ يدي. / أحلامي أصغرُ من ذلك. (…) ولذلك لم ألمح العمرَ وهو يمضي إلى شيخوختهِ / ولا الصبيَّ الذي فاته أن يمرحَ في بهو طفولته. (ص. 1115)

وهكذا تحضر الطفولة كما تحضر الشيخوخة، وتوزّعت بين القصائد كل مراحل عمر الإنسان، بداية من الطفولة، وسنّ العاشرة والعشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات إلى ما بعد المائة. وهناك عمرٌ شاعري بدأ منذ ألف عام. يقول: أنا هنا / منذُ ألف عام/ أراقبُ الزلزال. / قد يضربُ هنا / أو هناك. (ص. 57). ويقول: ما الذي/ يباعدُ بيننا. / الصبيُّ الذي كنتُ. / الشيخُ الذي سأكون./ الأفقُ الذي ليسَ لي. صمتي الذي أتعبَك. / الكلام. الكلام (ص. 66). يقول: أطلُّ على رزنامة اليوم/ لم أبرح العاشرةَ من عمري. (ص. 101). (…) لَمْ / أكترثْ بالثلاثينيات/ تنسلُّ مسرعة بين أصابعي (…) لم أكترثْ بالأربعينيات / تقتات من جموح صباي. (ص. 84).

والطفولة عند الشاعر ليست براءة مُفتقَدة. إنها هي انسجام وتوازن شعري يعلو عن الواقع. أما الشيخوخة فهي تقدّم في النّضج وليس تقدّماً في السّن. نضجٌ مكّنه من الانفتاح على التاريخ والحضارات الإنسانية. وبين الطفولة والشيخوخة قرابة وتشابه كبير في تقدير الحياة. وما يقرّب بين براءة الطفولة ونضج الشيخوخة هو دائماً هذا الاحتفاء بالعمر الشاعري في رؤية الأشياء وطهارتها. والحلُم بعالم مليء بالحب والأمل، مكّنه من طرح أسئلة وجودية في حوار جميل بين الماضي والحاضر والمستقبل. يقول: عزيزي / تقدمْ قليلا / كي أرى ما تبقّى من شَجَنِ صباي./ أيُّنا الطفلُ. أيُّنا الشيخُ الذي سأكُون. (ص. 19)

وهكذا تستدعي تجاعيد الشيخوخة ظلال الطفولة لتشهد هذه اللحظة التاريخية بين زمنين مختلفين معلناً عن دعوة شعرية متمرّدة على الزمان والواقع. يقول: ماذا / لو هدَدْتُ الشيخوخةَ / كان سيَطفو من بين تجاعيدها / أطفالٌ يلهون بالنجومِ. / (…) / ماذا / لو هدَدْتُ الأربعينيات / كانت ستُطلُّ من مشارفِها / صغيرتي ريم / وهي تكبرُ / كي تعلو سماواتٍ لم ألمسْها / وجبالا لم تسعْها / يداي.

إن جدلية الزمان والمكان أهم مكوّنات شعر حسن الوزاني. ففي شعره إصغاءٌ إلى إيقاع الزمن في سيروراته وتمفصلاته. والرؤية الشعرية مرتبطة بالمكان كفضاء تنعكس عليه الأحداث الزمنية. إذ لا يمكن عزل الزمان عن المكان في الوجود والكون. وذاكرة الزمان والمكان مرتبطة بأسماءَ لأماكن ودوّل وقارّات.

وتنكشف العديد من الحقائق على تهديدات سلّم ريشتر. فعلى مقياس سلّم ريشتر كسلّم مفتوح لقياس الزّلازل، يقيس حسن الوزاني العديد من الثوابت  والمتغيّرات. وهو مقياس يرتبط بوعيه الثقافي وإدراكه لعمق الأشياء وفْق رؤية تكاملية. فتكرار أسلوب حرف الاستفهام (ماذا) الذي يفيد التصوّر والتّصديق، ولا يكون الاستفهام لطلب التصوّر إلا بعد أن يحصل التصديق بأصل النّسبة. وقد أجمع العلماء على أن أساس التصوّر والتّصديق هو العلم والدّراية. فالشاعر يدرك المخاطر التي تجتاح عالم اليوم. فلو سقطت العديد من الأقنعة عن الوطن والحقيقة والجريمة والحروب والتاريخ والحب والسياسة والصداقة والشيخوخة وغيرها لأذهلتنا الحقائق. يقول: ماذا / لو هدَدْتُ الحقيقةَ / كانت ستسقطُ من ثناياها / أكاذيبُ كثيرةٌ. / (…) / ماذا / لو هدَدْتُ الصفحةَ / كان سَينفلِتُ من ثَنَاياها / مُجرمو حربٍ منشغلون / بوضْع قُبَلٍ على رؤوس الضَّحايا / كي يفتحوا صفحاتٍ / أخرى أكثرَ حُلْكَةً. / (…) / ماذا / لو هدَدْتُ الصداقةَ / كانت ستسقطُ من ضِفافِها / عداواتٌ كثيرةٌ. (ص.47-53)

وفي “حارس الزلزال” تظهر ذات الشاعر المشحونة بالجمال الروحي الذي تحدّده الرؤية الذاتية من خلال تكرار ضمير “أنا” كعلامة سيميائية ساهمت في صنع المعنى وشساعة تأويله في تداخل مع الوظيفة الإيحائية التي تحتضن الغير لتكشف عن أسئلة قلقها الوجودي. يقول: أنا هنا / منذُ ألفِ عام / أراقبُ الزلزال. (…) أنا حارسُ الألم (…) أنا مُدَجِّنُ الفرح. (…) أنا ناسجُ الخسارات. (…) أنا سيدُ الريح (…) أنا نجيُّ الصحراء. (…) أنا صديقُ الفوضى. (…) أنا غريمُ الصفاء.(…) أنا صديقُ الموتى. (ص. 57-62).

ونلاحظ تمظهرات الأنا عند الشاعر. وظاهرة الأنا الشعرية والآخر من المواضيع التي استأثرت بالاهتمام في العصر الرّاهن. فتكرار ضمير “أنا” تسع مرّات أي دائماً بعدد سنوات ابنته ريم يزيد من فاعليته التأثيرية وانسجامه الموسيقي المرتبط بالحالة الانفعالية للشاعر. وللتّكرار أهمّيته البنائية والفنّية المرتبطة بنسيج النص. والتكرار هنا يوحي بنوع من إثبات الذّات في ظلّ ما يجري من أحداث في عالم مليء بالخسارات محاولاً في كل ذلك أن يبني أبياته على حبّ الحياة والحُلُم بمستقبل أفضل. يقول: أنا / صديقُ الموتى. / أعرفُ كيف أؤاخيهم. / أُعدُّ لهم مائدةَ السهرة. ما يلزم من الشراب / قليلا من توابل الحياة، كثيرا من الكلام. / في آخر السهرةِ / سأفاتحُهم بالأمر / لستُ ذاهبا معهم. / لي موعدٌ / مع / الحياة. (ص. 61-62).

 

اترك رد