نستظلّ بفيء الجريمة حين نمضي إلى الخطيئة في صومعة التّأمّلّ الباكي، ونسترشد بالوحي التّائه كلّما هربنا إلى الكهف المختبىء في أسرار الأسئلة الصّعبة، ربّما، من هذا القلق، ،نأتي الى الخطيئة في العمل الرّوائي للكاتبة نسرين بلّوط، لنسترشد بالمعنى المستتر، وبالبعد الدّيني المقروء في الآيات، والأنجيل، وإن كانت الدّلالات مفتوحة في بنية الرّواية على مساحات من الأفكار، والأديان، ومغلقة في الأبعاد الطّائفيّة، والحروب المذهبيّة، نأتي إلى الخطيئة من محاورة النّفس الإنسانيّة، حين يتنازعها الحروب، والدّين، والهويّة الطّائفيّة، والصّراع الطّبقي.
فهكذا، يبدو عنوان الرّواية مفتاح الأسئلة، ومفتاح الخطايا، لكنّ، اللّعبة الفنيّة في مجريات الأحداث، تجعل من الخطيئة بحر أفكار، وسبيل خلاص، وإلًا، مانفع التّوبة مالم يسبقها فعل الشّيطان؟ وهل للخطيئة من دروب سوى اللّجوء إلى العتم؟ لكن، لماذا ، استحضرت بطلة الرّواية ميرا قصّة الكهوف، وماترمز إليه هذه الكهوف في الدّين المسيحي، والدّين الإسلامي؟ ولماذا، حوّلته إلى غرام قضى على سرّها في لغة الأنوثة، مع رجل عرفنا من المجريات للرّواية غير قادر على نزع الهويّة المذهبيّة، وعلى الارتباط بالعشق الرّوحي، فأخذ عابد منها كلّ شيء، وأوقعا نفسيهما بالخطيئة في كهف الأحزان، والملذّات في آن.
فالكهف مكان يفيد الهروب، والحماية، والانغلاق، ولكن ، في لغة الحياة، منه تولد الحريّة.
مع ميرا، كان الكهف مخزن أحزانها:” أمّا هي فقد كان كهفها الّذي التجأت إليه وكر الأحزان ومبعثها”ص7.
رواية” الخطيئة” تدور أحداثها في بيئة لبنانيّة، وحقبة زمنيّة شهدت أفظع الحروب المذهبيّة، وهي تؤرّخ لفتنة 1840، و1860، في قالب روائي جميل، ومتشّعب، وفي هذا المضمار، تجعلنا الكاتبة نسرين بلّوط أمام تجربة لافتة، كان لها وقع الأثر في الرّوايات العربيّة القديمة، وتحديدًا مع الكاتب جرجي زيدان، الّذي أرّخ بالرّواية والقصص لأهم المحطّات التّاريخيّة في الحياة السّياسيّة، والعسكريّة، ضمن قوالب الحب، والعشق، والانتقام، وإن ، جاءت رواية ” الخطيئة” بأسلوب يقصّر السّرد على حساب الاستطراد، والإسراف في التّفاصيل، والانتباه لخطورة أن يتحوّل العمل الرّوائي إلى توثيق تاريخي، وبهذا، يذوب البعد الفنّي، الغاية الحقيقية من العمل الرّوائي، وهذا، ما أتقنته الكاتبة بإتقان، فهي ، أي الكاتبة عبر البطلة ميرا، صوّرت الواقع الاجتماعي في الحقبات المذكورة بأسلوب فنّي رشيق، وعرضت لتلك المرحلة التّاريخيّة بقصص الحب، والصّراعات الطّبقيّة، ممّا جعلنا كقرّاء نستقرأ التّاريخ بالحس الدّرامي، والخيال الفكري، والحلم الأدبي.
فزمن الرّواية هو زمن قديم، زمن أبصر فيه الوعي اللّبناني الوحش المذهبي، والصّراع الطّبقي بين الفلاحين والإقطاع والبورجوازيّة، ويصحّ القول: زمن الفتنة اللّبنانيّة.
” لاوقت للحبّ عند هاتين الطّبقتين… الغنيّ طبع على الغنى، والفقير يتوجّس من الجوع الأعمى وما من أحد راض والكل يخشى مغبّة الآتي” ص28.
الجميل في رواية الخطيئة هي نزعة العمل التّجديدي في البنية الرّوائيّة، تجسّد هذا من خلال المعالم الواضحة لشخصيّات الرّواية، قد تكون ميرا هي المركز في السّرد، الرّاوية، لكن هذه الشّخصيات تشكّل اعتبارات تتفاوت بين إطارين: الإيجاب والسّلب، وفي رسم معالم الرّواية، نرى أنّ معظم شخصيّات الرّواية في حالة تنامي، وإن كانت ميرا المحور الأساس في الشّخصيّة النّامية، الغير ثابتة، المتحرّكة في وحول الحياة والحيرة، الفاسقة، الماجنة، تلد طفل الحرام في الكهف، ترميه مع عابد في صيدا، مع عائلة مسلمة ليكتمل عقد الطّوائف، المؤمنة الباحثة عن إيمان حقيقي في الدّير، والحيرة تفتك بالرّاهبة زلفا، ميرا الّتي تروي، وتتحرّك، وتخبر، وتعاند، وتصارع، وتخبّىء وكر العشق في بكاء اللّيل، تبقى الشّخصيّات الثّابتة في مدار التّحجّر، فجدّة ميرا لم تستسغ حياة الفقراء، بقي القصر وحي حضورها في الحياة، رغم ثورة شاهين، وقيادة الفلاحين.
ميرا واسطة العقد في سلسلة الأحداث، وهي كما يعبّر فوستر عن حديثه عن الشّخصيّات ، فهي: إمّا مدوّرة، وإمّا مسطّحة، هكذا، شكّلت شخصيّة ميرا مفتاح الأسئلة، والتّحوّلات، فكانت هي الرّواية في موقع المهيمن والمسيطر على كلّ الأصوات في الرّواية، لكنّها رفضت أن تكون الصّوت الوحيد، هي أنطقتهم، وإن كانت الأصوات متناقضة انسجامًا مع طبيعة الصّراع، والواقع، والفتتنة، مسيحيّة في غرام درزي، وطفل في حماية مسلمة، وهل ينقص زحلة، والبيئة حربًا جديدة، يكون الشّرف مدخلها.
الأصوات المتناقضة كانت في حالة تطوّر، لم تستكن لمشهد، فمتّى لم يبق أسير الفقر، بل تحوّل إلى تاجر، وعابد، على الرّغم من كل جبنه، تحوّل إلى فريسة المذهب، ليكون السّل هو نهاية وجوده، ويلتئم شمل ميرا مع ابنها ومتّى، وتبان الحقيقة أمام زلفا ( الدّير)، والجميع، بمعنى، الرّاوي حمى الكاتب في مسار ضمني ، وفي إطار ضيّق لمسنا الحوار لبرهة قصيرة، لنعود إلى صوت واحد فيه تتعدّد الأصوات، لكن ما رسخ بشكل دامغ هو لغة المناجاة والتّوسّل عند ميرا، والمونولوج الدّاخلي الّذي عجّت به الرّواية.
فبدا الزّمن على الرّغم من المساحات ، والمسافات، في حالة استنهاض ينعش النّصّ الرّوائي، من خلال التّذكّر الّذي بدأت به ميرا حين وطأت أرض الدّير.
لكن هنا، أقول: إنّ الكاتبة هيمنت على موقع الرّاوي رغم تنوّع الأصوات، لأنّها حمّلتها مواقف بدت وكأنّها خارج السّياق، فما حوّل الحياة إلى حياة هو دخول عامل استثنائي ، وغير إنساني، تدخّل الملاك ، وكأنّ هذا هو قدر الإنسان، الخطيئة، ثمّ الخطيئة.
السّرد جاء مكثّفًا، سار بناء لمقتضيات الحداثة في البنية الرّوائيّة، اقتصر السّرد على متواليات سرديّة تفيد الحدث، وتحقّق المراد، وكان الاستطراد على سبيل دعم الفكرة، حيث جاء في الصّفحة 32:” ولايجوز للإنسان الزّواج إلًا بمن ينتمي لدينه وإلّا هلك ندمًا… وضربت لها مثلًا قصّة فلاحة مسيحيّة في أرض جدّها اسمها كاميليا …”
لم نكن أمام رواية تاريخيّة، وإن كانت تدور في قلب التّاريخ، إنّما أمام رواية تشويقيّة، فبقدر ما حاولت أن تشير إلى واقعيّة الحكايات، كانت الأحداث حبلى بالمفاجآت، والذّائقة الفنيّة، والقصص المبنيّة على تراث العادات والتّقاليد، والحرص على الشّرف، ناهيك عن الظّلم الّذي طاول المرأة ، على الرّغم من مظلوميّتها، وهذا ماحصل مع عمّة ميرا في الرّواية”سعاد” حيث طعنت بشرفها كذبًا.ص26.
انطوى العمل الرّوائي على عقد، وهذا من جماليّات الرّواية، فالحبكة تضيف شغف القراءة، وبقي المتخيّل هو المسيطر على مجريات قصّة ميرا، وما سينتهي إليه مصير الجميع.
في ما يتعلّق بالحوار، جاء في بعض المطارح محطّة استراحة للصّوت الواحد، لم يقطع السّرد بمعنى كسر الزّمن، بل، جاء لينقل الكلام في مرآة شخصيّات شكّلت مسار قصص في رحلة ميرا، فكان الحوار عامل غنى، وعامل تكوين الأفكار، والأهداف، وحتّى شكّل مسار الإيديولوجيّات في تعدّدها في زمن الرّواية.
المكان والزّمان:
تملأ الأمكنة فضاءات الرّواية، والزمان شريان المكان في توأمة الوجود، وفي لغة الرّوائيين “الزمكان”، أمكنة حمّالة لدلالات، وترسيمة لخارطة الأحداث في زمن الرّواية المقتطع من زمن اختصر في أحداث الفتنة .
زحلة: مسرح الجريمة والضّحيّة في لعبة الفتنة.
الدير: مركز العبادة والهروب من آثام الرّغبات
الكهف: دلالة تاريخيّة، ودينيّة، وحمال لأوجه الجنس، والرّغبة، والهروب.
الباروك، دير ما رأنطونيوس، الكنيسة، المسجد: دلالات العبادة، والانقسام المذهبي
بلدان عالمية: فرنسا وغيرها : للدلالة علة ارتباط الفتنة بالمد الخارجي، وتزكية البعد المذهبي من خلال الظلم العثماني.
الزّمن بدا بشكل لايحتمل التّأويل منتسبًا للذّاكرة التّاريخيّة، أخذ حالة العبور بتسلسل الأحداث، وهنا نستفيد من قول للكاتبة يمنى العيد لنوظّفه في رواية” الخطيئة” وتحديدًا في الزّمن:” من تقنيّات السّرد الحديث، إمكانيّة المزامنة” بمعنى: تبني التّزامنيّة مشروعيّتها في ما عبّرت عنه يمنى العيد:” في نطاق التّوالي الّذي له صفة التّاريخي”.
تجدر الإشارة إلى البعد الفكري في رواية الخطيئة، الفكر القائم على العصيان، والتّمرّد، وعلى العادات والتّقاليد، والمذاهب الّتي تهتك حريّة الإنسان، والاعتراف بالخطايا الّتي يعيشها النّاس في كلّ مسارات الحياة، فتصبح ميرا مرآة لكلّ العابرين إلى توبة نصوح في مرايا الحياة قبل العالم الآخر، وكما قال المسيح:” من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر”.
في الحديث عن لغة الرّواية، جاءت غنيّة بالصّور، والتّعابير البيانيّة، والتّشبيهيّة، وقد يكون لهذا الوصف مايبرّر ه في طبيعه جبليّة جميلة، ومدن تدعو للجمال في أناقتها، فجاء الكلام انسجامًا مع سحر الطّبيعة، وجاء بعضها متكلّفًا في الصّياغة، وإن كانت الأفكار هي الأساس في توظيف اللّغة لأهداف الرّواية.
رواية” الخطيئة” للكاتبة نسرين بلّوط،تستحقّ القراءة النّقديّة، لأنّها تعالج بالرواية حكايات وطن، ومآسي بشر، وتحمل في المضمون تناقضات النّفس في صراعها المرير بين الخير والشّر، بين الفقر والغنى، بين العادات والمعاصرة، بين الحب والخديعة، بين التّضحية والقناع، بين الثّبات والتّراجع في ماهيّة البشر، فالخطيئة عند نسرين بلّوط تكاد تكون مشروعًا يؤسّس للطّهارة في لغة الرّوح.