“80 كتاباً في كتاب / مراجعات في الحراك الفكري العربي المعاصر”… هي مراجعاتٌ “كشكوليةُ” الطابع – إذا جاز القول – بما ضمَّت من ألوانٍ معرفية شتّى، تُسلّطُ الضوء ساطعاً على جوانب من الحراك الفكري المعاصر الذي يتخذ من طرابلس(لبنان) وشمال لبنان مسرحاً له ومُنطلقاً. ولئن كان لهذه المراجعات أن تتناول مؤلفات لكُتّابٍ طرابلسيين وشماليين(لبنانيين)، فهي بمنزلة رافدٍ معرفي، يصبّ، نهاية المطاف، في إطار الحراك الفكري العربي العام.
لا غرو أن الذهاب إلى “محلِّية” أي نتاج فكري يغدو من مخلّفات الزمن الغابر، في عصرٍ أُلغيت المسافات، وقُزّمت الجغرافيا وسُرِّعت وتيرة الزمن!.. كل أولئك على إيقاع ثورة الاتصالات الكاسحة وتنامي سُلطان الشبكة العنكبوتية المُطبقة بجناحيها على أرجاء كوكبنا!
وإذْ راحت الحواجز تتهاوى بين البشر، كان للفكر، بمعزل عن مصدره وعن اللغة التي بها يُكتب، أن يتعولَم انتشاراً، وليغدو في قبضة من يستطيع الدخول إلى الفضاء “الانترنتي”، ويُحسن التعامل معه.
هكذا بات الكلام على “محليّة” الأفكار و”إقليميّتها” أو “جهويتها” ضرباً من العبث. كما أن الحديث عن جنسية المشتغلين في الفكر يُصبح حديث خرافة!
من هنا، فإننا لا نقرأ اليوم المفكّرين عبد الله العُروي ومحمد عابد الجابري كمفكّرين ينتميان إلى بلدهما المغرب، ولا نقرأ عميد الأدب العربي طه حسين باحثاً مصرياً، ولا نقرأ أمين معلوف كاتباً لبنانياً/فرنسياً، كما لا نقرأ محمد أركون كاتباً جزائرياً بربرياً… وإلى آخر السلسلة من الكتّاب والباحثين العرب.. فهؤلاء جميعاً – وسواهم كثر- نرى إليهم ونقرأهم مفكرين وباحثين وكُتّاباً تفلّتوا من أسار مساقطهم، وتحرروا من انتمائهم “المناطقي”، وليجوزوا إلى الفضاء العربي الواسع، وإلى ما يتعدّاه، في أربع جهات الأرض!.
تصديقاً لما نذهب إليه، في هذا المجال، فقد أخبرني أحد أصدقائي من الباحثين “الطرابلسيين”، هو المهندس غسان سميح الزين الذي يتردّد على الولايات المتحدة الأميركية بين الفينة والأخرى، في زيارات عائلية، أنه قصد مكتبة الكونغرس – من أكبر مكتبات العالم – ففوجئ بكتابين له، حول القضية الفلسطينية وحول الشخصية العربية، يتربّعان على أحد رفوفها! كما وقع بصره على بضعة مؤلفات لباحثين “طرابلسيين” و”شماليين”، ممن اجرينا مراجعات لبعض مؤلفاتهم في كتابنا هذا. فهل يُسوّغ لنا، بعد ذلك، أن نتكلّم، في عصر التواصل الآسر، على إنتاج فكري “طرابلسي” أو “شمالي”، يبقى حبيس جدران طرابلس والشمال؟
استكمالاً للمشهدية النابذة “محلّية” الفكر أو “جهويته”، فإن من قاربناهم في مراجعاتنا الثمانين لم يعودوا مُلكاً حصرياً للأمكنة التي يتحدّرون منها أو يعيشون في رحابها. بل باتوا مُلكاً مشاعاً للبنان وللعرب وللعالم، سيما أن مؤلفاتهم، بغالبيتها، تتناول موضوعات أكاديمية عامة، وتُكبّ على مسائل لها حضورٌ، لدى المشتغلين بالمعرفة، في مختلف أصقاع العالم.
في هذا المقام، يحضُرنا حديث نبوي شريف، حول مشاعية بعض الموارد الطبيعية الحيوية: “الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار”. ولنا أن نضيف عنصر الفكر، كموردٍ غير مادي، في ظل عصر غدت الأفكار، كما الهواء، مالئةً أرجاء الدنيا، لا تعوقها سدودٌ ولا تعترض انتشارها حدود!
.. وإذ نستقي من مراجعاتنا شواهد، على سبيل التمثيل وليس الحصر، لنا أن نتطارح الأسئلة الآتية: هل نرى إلى عبد الغني عماد، باحثاً طرابلسياً(لبنانياً) صِرفاً، وقد خصصناه بمراجعات ثلاث لثلاثة من مؤلفاته القيّمة، وهو اليوم أحد الباحثين العرب المرموقين في علم الاجتماع السياسي ومن الضالعين عميقاً في مقاربة الحركات الإسلامية، بكل أطيافها وألوانها، وصاحب ما ينوف على ثلاثين مؤلفاً في السوسيولوجيا بعامة وفي سوسيولوجيا الإسلام السياسي بخاصة، تعرفه المنتديات الفكرية العربية وغير العربية، عبر إطلالات ومشاركات بحثية، على قدر من الأهمية؟
وهل نرى إلى رشيد الضعيف وانطوان الدويهي كاتبين زغرتاويين(من بلدة زغرتا – شمال لبنان)، وقد طبّقت شهرتهما في الآفاق وبلغا “العالمية”، عبر نقل عدد من مؤلفاتهما إلى لغات حية متعددة؟ وهل يُحسب الباحث عاطف عطية على قريته مركبتا(من أعمال قضاء الضنية/المنية)، وهو أحد الباحثين المُجلّين في السوسيولوجيا وفي دراسة التراث الشعبي غير المادي، مُخلّفاً حوالي عشرين مؤلفاً قيّماً في المجالات المعرفية التي يغوص عليها؟
.. إنّ من استعرضنا، وقد استللناهم من مراجعاتنا الثمانين، ليس لهم من مساقطهم إلا ما خُطّ على بطاقة هويتهم الشخصية؛ فهم “متعرّبون” و”متعولمون” انتشار فكر، مع عدم تنكّرهم لأصلهم، ذلك أن “من يُنكر أصله لا أصل له”، وفق ما يذهب إليه قولٌ شعبي مأثور!
في استزادة حول المسألة، لجهة ما يتعلّق بعملية الإنتاج الفكري، ذي الخصوصية المحلية، بمعنى أن يُقارب كاتبٌ قضية منتزعة من بيئته أو على تماس معها – لدينا في مراجعاتنا الثمانين بعضٌ من هذا القبيل، يُعدّ على أصابع اليد – نذهب إلى أن “المحلية” لا تضير الكاتب، ولا تشكل عائقاً دون بلوغ الفضاء الإنساني الرحب، إذا ما جاءت مُترعةً برواء إنساني، وقد امتدت خارج إطارها الضيق. وفي توسعةٍ للمسألة، فإن ثمة قواسم مشتركة تجمع البشر إلى بعضهم بعضاً. فهم وإن تباعدوا في الجغرافيا، فهم متقاربون أفكاراً، ويتشابهون في أحاسيسهم وانتظاراتهم والتطلعات.
هكذا، على سبيل المثال، فإن استعراضاً سريعاً للفن الروائي الذي عرفه الأدب الروسي، منتصف القرن التاسع عشر(في عهد القياصرة) وحتى مطلع القرن الماضي، يجعلنا بإزاء روايات بلغت العالمية، وكُتب لها الخلود، على رغم أن موضوعاتها مُستقاة من البيئة الروسية. فرواية “الجريمة والعقاب” (1866) لدوستويفسكي، تتطرق إلى قضايا الخير والشر ومكنونات النفس البشرية والصراع النفسي إلخ…
أما رواية “الاخوة كارامازوف”، للكاتب عينه (1880)، وهي خاتمة إبداعاته الروائية، فقد عالجت قضايا تهمّ البشرية، كالروابط العائلية، وتربية الأطفال، والعلاقة بين الدولة والكنيسة… وعن “الحرب والسلام” لتولستوي، وهي ملحمته الروائية الرائعة (1865)، فهي تكبّ، عبر استعراض اجتياح نابليون بونابرت لروسيا العام 1812، على دروس في الحياة، وتنمية النفس البشرية وصقلها بأفضل الصفات.
أما “أنا كارنينا”، وهي رائعة تولستوي الثانية (1877)، فهي تستحضر، عبر الخيانة الزوجية، كموضوع رئيس لها، شبكة العلاقات الاجتماعية والصراع الذي يجري في أعماق الإنسان بين العقل والعاطفة والروح والغريزة.
..وقل الأمر نفسه عن الرواية العالمية “الأم” لمكسيم غوركي، نُشرت في العام 1906، فهي، بتصويرها الثورة العمالية في روسيا، طفقت تعكس الأقدار الشخصية وما بينها من ترابطات…إلخ.
– يتحصلّ مما استعرضنا استحالة تقوقع الفكر وتحيّزه ضمن جغرافية صاحبه الضيقة. كما يستحيل وسمُهُ بـ”المحلية” أو “المناطقية” أو بتوصيفات مشابهة. وليس لنا إلا الرجوع إلى المواقع الإلكترونية التي تختص بنشر الكتاب، بصيغة PDF أو سواها من صيغ، فنرى ان بعضها يضم مئات آلاف الكتب، بلغتها الأصلية أو مترجمة إلى لغات اخرى، وهي متاحة مجاناً لجميع البشر!
من هنا لم تعد ثمة ملكية حصرية للفكر، فما أن يخرج كتاب إلى النور، حتى تتلقفه تلك المواقع، بشكل شرعي، أو تسطو عليه وتقرصنه، وليغدو – كما ذكرنا آنفاً – ملكية مشاعة. وبذا راحت تسقط في هذا العصر، ثنائية الخاصة/العامة، أو الخاصة/العوام، ولم يعد الكتاب، استحواذاً وقراءة، مقتصراً على عليّة القوم!
.. وإذ نرتدّ إلى مؤلفنا، فقد كان للقسم الأعظم من مراجعاته الثمانين ان يتموقع بين عامي 2013 و 2017، في حين تتوزع سائر المراجعات على تسعينيات القرن الماضي ومطالع العقد الأول من هذا القرن.
أما عن موضوعات المؤلفات التي رُوجعت، فقد توزعت على اثني عشر باباً معرفياً. وبسبب ضخامة المادة المراجعة، قسمناها قسمين متساويين، فكان جزءان، ضم أولهما ستة أبواب، من طبيعة معرفية متقاربة، وليضم الثاني ستة أبواب أخرى، تتناغم، موضوعاتياً، مع بعضها بعضاً.
في الجزء الأول تُطالعنا الأبواب الآتية: في الفلسفة والادب الفلسفي(الباب الأول)، خواطر وتأملات في السياسة والمجتمع والحياة(الباب الثاني)، اديان وسوسيولوجيا الأديان(الباب الثالث)، مباحث في السوسيولوجيا والانتروبولوجيا(الباب الرابع)، دراسات سياسية(الباب الخامس)، تراث وسياحة(الباب السادس).
ولقد غلب على موضوعات هذا الجزء المنحى الفلسفي والسوسيولوجي، بل السِمة العلمية بعامة.
أما الجزء الثاني، فقد احتوى العناوين الآتية: في الشعر والخواطر الشعرية(الباب السابع)، في فن السيرة الذاتية(الباب الثامن)، في فن الرواية(الباب التاسع)، دراسات في الفن والموسيقى(الباب العاشر)، في الأدب والنقد الأدبي(الباب الحادي عشر)، في التربية والتاريخ وعلم النفس(الباب الثاني عشر).
وقد غلب الطابع الوجداني على بعض أبواب هذا القسم، بحيث تحتل “الأنا” مكاناً أثيراً، لا سيما في باب الشعر والخواطر الشعرية وفي باب السيرة الذاتية، سواءٌ أكانت تدور حول شخص أو مدينة.
عن التوزع الجندري، بل الأصح عن “الكوتا” النسائية، معرفياً، – نحن لا نحبّذ هذه التسمية من منطلق وحدة الإنسان ووحدة النفس البشرية و بمعزل عن جنسه – فقد شغلت الكاتبات/الباحثات حيزاً هاماً، إذ ثمة اثنتا عشرة من واحد وسبعين، استأثرن بخمس عشرة مراجعة، مما يشكل تسعة عشر بالمئة من المراجعات النقدية، في حين يستأثر تسعة وخمسون كاتباً(ذكراً) بواحد وثمانين بالمئة من مجمل هذه المراجعات.
من خارج السياق: شتّان بين “الكوتا” النسائية المعرفية في مراجعاتنا وبين “الكوتا” النيابية لدينا في البرلمان اللبناني، حيث يبلغ عدد “النائبات” ثلاثاً من أصل 128!
عن التفاوت بين عدد المراجعات(80)، وعدد “الكتّاب(71)، فإن ذلك يعود إلى استئثار ثمانية منهم بتسع عشرة مراجعة.
أما عن الانتماء الجغرافي للباحثين، فهم يتوزعون عدداً كالآتي: طرابلس(39)، قضاء الكورة(10)، قضاء المنية/الضنية(8)، قضاء زغرتا(5)، قضاء عكار(4)، إضافة إلى باحثين من خارج الشمال، يُعدون على أصابع اليد الواحدة، وقد أجريت مقاربات لمؤلفاتهم في طرابلس.
عن المراكز الثقافية التي استضافت المراجعات الستين التي كنتُ شريكاً في مقاربتها مع نقاد آخرين، فقد كان لمركز الصفدي الثقافي(طرابلس-لبنان) أن يستأثر بمعظمها. كما كانت ندوات في مركز العزم الثقافي-بيت الفن(ميناء طرابلس)، وفي قصر رشيد كرامي البلدي(طرابلس) او قصر نوفل، وفي جسر رشعين(قضاء زغرتا) وفي منيارة والشيخ طابا(قضاء عكار)، وفي معهد Actel (قضاء الكورة).
وعليه، فإن ستين من مراجعاتنا جاءت ثمرة ندوات عقدت في المنتديات الثقافية التي ذكرنا، ولم يجر تعميمها ونشرها، اللهم سوى مواجز إعلامية في الصحف وعلى صفحات التواصل الاجتماعي. وعن المراجعات الباقية، عددها إحدى وعشرون، فقد وضعناها بمبادرة ذاتية، وهي غير مرتبطة بفعالية ثقافية معينة.
.. في عملية مسح للمواقع والمناصب والوظائف التي يشغلها الكتّاب الذين تمت مراجعة مؤلفاتهم، فقد كان للأساتذة الجامعيين، من عاملين ومتقاعدين، حصة الأسد (ثلاثون مراجعة)، في حين توزعت المراجعات البواقي على: وزير سابق، امين عام للخارجية، ثلاثة سفراء متقاعدين، قنصل سابق، لواء متقاعد في الجيش اللبناني، أطباء، محامين، إعلاميين، مدرّسين، إلخ… هذا الطيف المتنوع بما يشغل أفراده من مواقع مؤثرة، إذ يؤشّر على نخبوية الكثرة الساحقة من الكتّاب الذين روجعت مؤلفاتهم، يدلّل، في الوقت عينه، على ثراء الموضوعات التي تمت مقاربتها، عبر هذه المؤلفات.
أما عن آلية عملنا، في تعاطينا مؤلفات كتّابنا والباحثين، فقد عمدنا إلى قراءة متأنية لكل واحد منها، اتبعناها بقراءة ثانية، ولربما ثالثة، أكثر دقة، وصولاً إلى استخلاص الفكرة الرئيسة واستجلاء الرسائل التي يبعث بها كل مؤلَّف. وكان وضعٌ له في الميزان، لنقف عند ما لهذا المؤلف وما عليه(Le pour et Le contre). وقد كان لنا أن نسير على هدي مناهج نقدية متعددة، ترجّحت بين المنهج الوصفي والمنهج التحليلي والمنهج التاريخي والمنهج المقارن، وفق ما تقتضيه طبيعة كل مؤلف.
إشارة إلى أن بعض مقارباتنا جاءت مشوبة بمواقف، من قِبَلنا، تفاعلية، لا سيما في الجزء الثاني الذي تغلب عليه السمة الوجدانية، كالشعر والخواطر الشعرية والسير الذاتية وفن الرواية.
قضية لا يمكن أن نضرب عنها صفحاً، تتمثل باتسام مقارباتنا بأبعاد “فلسفية”، حيث كان غوص، إذ لا يرضينا الوقوف عند شواطئ القضايا، فنلِج إلى عمق أعماقها، نتقصّى ما فيها من كنوز – إذا وجدت – ونتلمّس ما ترسّب في القاع من “ردميات” وأشياء لا تُسمن ولا تغني – إذا توفرت!.
وهكذا كنا نذهب إلى ما وراء المعاني الظاهرة وما وراء السطور، نتعمقها، ننهكها، نقلبها على جميع وجوهها: بطناً لظهر وظهراً لبطن، شأننا في ذلك شأن ابن الرومي الذي اشتهر بتوليد المعاني والنزوع إلى المنطق في نتاجه الشعري! وقد كان لدينا الكثير من “الاستطرادات” – على طريقة أبي عثمان الجاحظ – بما يخدم مقارباتنا ويزيد من المساحة النقدية المُجدية!
أما عن طريقتنا في الإفصاح عن أفكارنا والرؤى، فإننا لم نتقعّر أسلوباً ولم نتحذلق، ولم نتوسل اللغة الخشبية(Langue de bois)، بل توسلنا لغة حية، تستجيب لدعوة الجاحظ، وضوح لغةٍ وإيجاز تعبير: “خير الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه!”.
في تقويمنا لنتاج بعض “المبتدئين” في عالم الكتابة، فقد كنا رحماء معهم، في حدود معينة وغير “فاقعة”، وذلك من منطلق عدم إحباطهم من أول الطريق التي يسلكون! وقد التمسنا لهم الأعذار، وغضضنا من أبصارنا بإزاء بعض الهنات التي اعتورت مؤلفاتهم، والتي تبقى في نطاق “المخالفة” وليس “الجريمة”، وفق تعبير الحقوقيين!
وفي مطلق الأحوال، والحالات، فقد حرصنا في مراجعاتنا قاطبة، على أن نشهد للحقيقة، بكل عُريها، ولم نضلّ السبيل. وهكذا لم تكن محاباةٌ ولا ممالأة، على رغم أن كثيرين ممن قاربنا مؤلفاتهم إما أصدقاء لنا حميمون أو زملاء في الجامعة. وقد كنا ولم نزل نردد، في هذا المقام، قولة أرسطو المشتهرة، حين خالف أستاذه أفلاطون في كثير من أطاريحه الفلسفية: “أنا صديقٌ لأفلاطون، ولكنني صديقٌ للحقيقة أكثر!”.
من هنا، لم يكن للصداقة والزمالة وقعٌ على الأحكام التي نطقنا بها، “باسم الشعب المعرفي”. علماً أننا لا ندّعي إصابة كبد الحقيقة في كل ما خلصنا إليه من أحكام، فهي – بلغة الحقوقيين – قابلة للطعن والنقض، ذلك أن لا عصمة لناقد، مهما أوتي من العلم وعلا فيه كعباً!.
.. ثمة مسألة لا يمكن إغفالها، تتمثل في السمة التعليمية لمؤلفنا. فمن خلال مراجعاتنا الثمانين التي خضعت لمعايير نقدية وآليات بحث، رائدها الموضوعية وترسّم النهج العلمي الصرف، ندعو، بكل تواضع، النقاد الحديثين/المبتدئين إلى الإفادة من هذه المراجعات، عبر الاقتداء بما مارسنا من عمل نقدي، علهم بذلك يوسعون من مجال أفقهم النقدي، وتفعيلاً لقدراتهم في تعاطي الأعمال الفكرية المنتمية إلى مختلف الفنون المعرفية.
.. ختاماً، ولكل أمر ختام! هي رحلة سندبادية، أخذتنا إلى مطارح بعيدة، وأدخلتنا في منعرجات ومتاهات، يحلو فيها السفر، وأضنانا السفر! وبقدر ما هي رحلة مضنية حتى طلوع الروح، فهي ممتعة حتى الانبعاث من رميم!
لقد عكفنا، نهارات وليالي، ونحن نزرع آلاف الصفحات التي تعود إلى المؤلفات الثمانين، فعشي منا البصر، وانهدّت القوى، و”تختير” فينا أشياء كثيرة! ولم يكن لنا التزام نصيحة النبي محمد (ص) حيث يدعو الإنسان إلى الرأفة بجسمه “إن لبدنك عليك حقاً!”.
أجل! هو عمل “موسوعي” وتوثيقي، يرصُد، عبر عملية نقدية جادة، جوانب من مشهديات الحراك الفكري المعاصر في طرابلس (لبنان)، وينهد إلى عالمنا العربي، فيشكل جزءاً متواضعاً في سيرورة الفكر العربي.
وإذْ يأتي مؤلفنا في ظل إعلان طرابلس (لبنان) عاصمة للثقافة العربية في العام 2023، بموجب القرار الصادر عن مؤتمر وزراء الثقافة العرب، ومن قبل “المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم” (الكسو)، فإننا نرى إلى عملنا واحداً من إرهاصات هذه الفعالية الكبرى، بما يعيد إلى مدينتنا بعضاً من نبضها الفكري الذي كان لها في غابر القرون، فوُسمت بمدينة العلم والعلماء!
.. “من لا يشكر الناس لا يشكر الله!”، تأسيساً على ذلك، لا يسعنا ختاماً إلا أن نشكر الكتّاب والباحثين الذين أولونا ثقتهم الغالية وطلبوا إلينا مقاربة مؤلفاتهم، فجهدنا واجتهدنا ما وسعنا الجهد والاجتهاد.
والشكر موصول إلى الأخ الصديق روبير خوري، صاحب مؤسسة MAP للطباعة، فقد أعطى من روحه ومن مهارته وخبرته المديدة لإخراج هذا الكتاب بالحلة الرائعة التي ظهر فيها. كما أن الشكر موصول أيضاً للصديق ابراهيم معاليقي الذي تولى تنسيق الكتاب قبل دفعه إلى المطبعة.
.. في المأثور الديني الإسلامي للمجتهد أجرٌ إذا أخطأ، وأجران إذا أصاب!
عسى أن نكون قد أصبنا في ما رُمنا فعله، ونحظى بشرف الأجرين، فنكون بذلك من الفائزين الغانمين!
صبيحة 1- 11- 2017
****
(*) مقدمة كتاب “80 كتاباً في كتاب / مراجعات في الحراك الفكري العربي المعاصر”، للدكتور مصطفى الحلوة الصادر حديثاً.