نسَّقها مع الڤاتيكان ورئيس الجمهوريّة
– انتهت زيارة البطريرك الماروني الكردينال مار بشارة بطرس الراعي إلى السعوديّة لتبدأ مفاعيلها ومسيرة متابعتها فيما لا تزال موضوع تحليلات وتفسيرات وتعليقات. هنا قراءة موضوعيّة في الزيارة من موقع مواكبتها بمجمل تفاصيلها.
– لقد تمّت الزيارة بالتنسيق بين البطريرك الراعي، الذي تلقى الدعوة الرسميّة، والڤاتيكان ورئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون. لقد درج التقليد البطريركيّ على ذلك أي حين يتلقى البطريرك دعوة لزيارة بلد للمرّة الأولى يقوم بتنسيقها مع المرجعيتين المذكورتين. فعندما تلقى البطريرك صفير الدعوة لزيارة موسكو اعتمد الآلية المذكورة وقام بها من 20 إلى 27 تشرين الأوّل 1987، ملتزمًا باشارة الڤاتيكان بالا تتمّ الزيارة من خط بيروت – موسكو مباشرة بل عبر خط بيروت – روما – موسكو ذهابًا وإيابًا. وهكذا فعل البطريرك الراعي ولبّى الدعوة منطلقًا من مروحة مشاورات شملت أكثر من رئيس الجمهوريّة فرضتها تداعيات استقالة الرئيس سعد الحريري الطارئة. ويمكن القول في هذا الاطار أنّ البطريرك الراعي ذهب إلى السعوديّة حاملاً خلاصة اتصالاته مع كلّ المسؤولين اللبنانيّين والقوى السياسيّة وعائلة الرئيس الحريري.
– الزيارة زيارة دولة في شكلها إذ تمّت بعناية واهتمام ومواكبة الحرس الملكيّ والمراسم الملكيّة، واستضيف البطريرك والوفد المرافق في قصر الضيافة المعتمد لاستضافة ملوك ورؤساء الدول. كما أنّ الوفد الإعلامي الذي واكب الزيارة كان في اجازات سفر حكوميّة وبمسؤوليّة المراسم الملكيّة. وقد سجّل البطريرك الراعي وسائر الذين رافقوا زيارته إلى الرياض كبير التقدير للتنظيم الدقيق والحفاوة البالغة التي أحاط بها المسؤولون السعوديّون الزيارة. وقدّروا عاليًا هذه الحفاوة المؤثّرة.
– في المضمون: طرح البطريرك الراعي سلسلة مواضيع أعدت تحضيرات لها منذ فترة تجاوزت خمسة أشهر. أهمّها:
– تاريخ وعلاقات السعوديّة مع البطريركيّة. وقد أعد ملف تاريخيّ حولها أبرز بالوثائق الرسائل المتبادلة وزيارة الملك سعود إلى بكركي عهد البطريرك انطون عريضة سنة 1953، وايفاد البطريرك المطران عبداﷲ نجيم لاحقًا إلى السعوديّة للقاء الملك.
– الحوار المسيحيّ الإسلاميّ وتجربة العيش المشترك في لبنان: أعد لها ملف كامل شكّل المحور الأساسي في كلمتي البطريرك الراعي خلال لقائه الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان. وتناول الملف تاريخ هذا الحوار وتجسيده عمليًّا في لبنان من خلال صيغة العيش المشترك، وخيار المسيحيّين الثابت بشراكة كاملة مع المسلمين ليكمّلوا معًا عمارة التراث المشرقي المشترك الذي بنوه معًا. ولترسيخ معادلة تطمين المسيحيّين وقيامهم هم بابراز صورة الإسلام الحقيقي المسامح المعتدل البعيد عن كل تعصب أو تطرّف تجاه العالم الغربيّ، الذي تنامى فيه وصف الإسلام بالارهاب.
– لبنان مركز حوار الحضارات وتلاقي الأديان: تقدم البحث بهذه النقطة ووردت في مذكرة البطريرك الراعي للملك سلمان في سياق الترجمة العمليّة لمسيرة الحوار واشاعة ثقافة التلاقي وقبول الآخر المختلف. والمرجو من هذا المركز من خلال دوره البحثي المتخصّص الكفيل بتوسيع المشترك بين المسيحيّة والإسلام أن يبلور صيغة تجنيب لبنان صراع المحاور وتداعيات الحروب الاقليميّة والنزاعات الدوليّة.
وكان البطريرك الراعي صريحًا في هذا الطرح مشدّدًا على أنّ للمملكة اسهامًا اساسيًّا في تجنيب لبنان تداعيات صراعات المحاور من خلال تفهمها لخصوصيته ولدوره ولرسالته ومن خلال قرار ملكها الثابت وولي عهده بعصر انفتاح جديد عنوانه الحوار يدعم خصوصيّة لبنان مركزًا لحوار الأديان وتقارب الحضارات. كما أعد تصوّر متكامل لآليات متابعة هذه المواضيع وتثميرها على أرض الواقع.
أما بالنسبة إلى ما تردّد عن موضوع كنيسة أثريّة أو ما شابه مما هو متصل بالشعائر والرموز المسيحيّة في المملكة فالأمر لم يطرح على هذا الشكل لأنّ المعنيّين بالزيارة يعتبرون أن نهج الانفتاح الذي تنتهجه المملكة حاليًا، فتح باب الحوار مع المرجعيّة المسيحيّة الأولى في الشرق، وتوسيع الباب وجني الثمار المرجوة يأتيان لاحقًا نتيجة المتابعة العلميّة الموضوعية.
– وضع الجالية اللبنانيّة في المملكة: إلى جانب اللقاء المؤثّر الذي أقامه سفير لبنان في المملكة عبد الستار عيسى للبطريرك مع الجالية التي جاء أبناؤها بأعداد كثيفة ضاقت بهم قاعات السفارة وساحاتها، والارتياح الذي تركه هذا اللقاء في نفوسهم، فقد طرح البطريرك الراعي موضوع الجالية ومخاوفها في ظل الأزمة السياسيّة الناشئة، مشدّدًا على امانتها للمملكة ملكًا وحكومة وشعبًا. وعلى احترامها لقوانين المملكة ونسيجها الاجتماعي، وهذا ما كان شدّد عليه في كلمته لابناء الجالية. وقد لمس البطريرك تفهّمًا سعوديًّا لدور الجالية العمراني وحرصًا عليها ومحبّة لابنائها. وهذا ما أشاع الارتياح في نفوس أبناء الجالية الذين لمسوا هذه الأجواء ووصلتهم.
أما في الشأن الوطني القائم اثر استقالة الرئيس سعد الحريري فقد طرح البطريرك الراعي المسألة على قاعدة ضرورة عودة الرئيس الحريري إلى بيروت ومقاربة الأمور السياسيّة الخلافيّة بالحوار والتشاور والتفاهم مع رئيس الجمهوريّة والمجلس وسائر الأطراف اللبنانيّين. وهذا الطرح يحتّم عودة الرئيس الحريري، وهي بمجرد حصولها تفتح باب الانفراج وتحد من الاحتقان السائد، كما يعيد معالجة الازمة إلى ساحة الداخل اللبناني. وفيما عرض المسؤولون السعوديّون موقفهم من أسباب الأزمة بوضوح وصراحة أيّدوا آلية المعالجة هذه وشجّعوا عليها. كما سمع البطريرك الراعي منهم تأكيدات على ثبات موقفهم الداعم للبنان الدولة بمؤسّساتها كافة، وعلى أنّ المملكة لا تدعم طرفًا لبنانيًّا ضد طرف، وتحرص على هذا الموقف وتسعى جاهدة إلى عدم الاضطرار إلى تغييره.
تبقى كلمة أخيرة كي لا يقال أنّ تقصيرًا أصاب هذا التوصيف للزيارة حول النائب السابق د. فارس سعيد. وبعيدًا عن كل ما له علاقة بالسياسة وخيارات د. سعيد التي تعبّر عن قناعته وحريّته الطبيعيّة بالخيار، يجوز القول بالمعايير المذكورة للزيارة البطريركيّة بأنّ د. سعيد ساعد في انجاحها من خلال ما أظهره من تجاوب فيه «تضحية» مع مقتضيات انجاح الزيارة. فهو مدعو دعوة رسميّة إلى زيارة المملكة، ولم يرافق البطريرك الراعي في طائرته بالرغم من أنّ الملك سلمان كان أعدّ طائرة خاصّة لنقل البطريرك ووفده المرافق مع د. سعيد.
كما كانت دعوته تقضي بحضوره لقاء الملك سلمان والبطريرك الراعي، كذلك آثر عدم الحضور كي لا يسبّب حضوره إحراجًا وسببًا لاشكالات سياسيّة ترافق الزيارة البعيدة عن السياسة.
في الختام لا يمكن لمعلّق أن يصف الزيارة ويختصرها بأفضل مما قاله البطريرك الراعي في ختامها: «لقد سمعت اليوم نشيد المحبّة السعوديّة للبنان».
يشار أخيرًا إلى أنّ الهدايا التذكاريّة التي قدّمها البطريرك الراعي للمسؤولين السعوديّين جاءت متّصلة بطبيعة الزيارة بابعادها الثقافيّة والتاريخيّة على مستوى العلاقة بين المسيحيّة والإسلام، كما تشكّل مدخلاً لتعزيز التعارف الأساس لكل حوار، وهي كتب واصدارات «المسيحيّة والإسلام على طريق التعاون والحوار»، البطريركيّة المارونيّة، روحانيّة الكنيسة المارونيّة، المسيحيّون والنهضة الثقافيّة العربيّة، والنسك والتصوّف المشرقيّ.