الرفض العثماني الطويل لفنّ الطباعة… أسبابه ونتائجه

مع ظهور فن الطباعة على يد يوهان غوتنبرغ عام 1434 شُرّعت أبواب المعرفة امام الشعوب الأوروبية وما يجاورها من البلدان. وكان لهذا الحدث العظيم أبلغ الأثر في تطوير الفكر البشري، وفتح آفاق التبادل الثقافيّ والعلميّ والفنيّ بين الأمم والمجتمعات الإنسانيّة، ولم تعد المعرفة محتكرة من فئة المحترفين القلائل الذين نُصّبوا مرجعاً نهائياً في الحقول الرياضية والظواهر الطبيعيّة وغيرها من المعارف.

دفع الفنّ الطباعي مسيرة تقدّم العالم الأوروبي نحو التفاعل الثقافي والتعاون الاقتصادي، وغدا أحد أهم العوامل التي أدّت إلى قيام الثورة الصناعيّة في أوروبا. وفي خضمّ هذا التغيير الجذري، ظلت تركيا والبلدان الواقعة تحت سلطتها محرومة من نتاج المطابع باللغة التركيّة والعربية على مدى أربعة قرون لاعتبارها من المحرّمات! فما هي دوافع هذا الرفض العثماني الطويل لفنّ الطباعة؟ وما الأسباب التي كانت تكمن وراءه؟ وما هي النتائج الوخيمة التي نجمت عنه لاحقاً؟

غياب الطباعة الطويل

 أقلق اختراع المطبعة المسلمين الأتراك إلى حدّ امتناعهم عن استيرادها ورفضهم رؤية ثمارها. ويورد المؤرخ وحيد قدورة في إحدى دراساته عن “بداية الطباعة العربية في استنبول وبلاد الشام” أن تاجرين اوروبيين تعرّضا للاعتداء وإتلاف بضاعتهما وحجز كتبهما العربيّة والفارسيّة والتركيّة التي أحضراها من أوروبا تعبيراً عن غضب الأتراك لعثورهم عليها بحوزتهما.

وفي هذا الإطار، ألمح العديد من الرحالة والمبشّرين إلى خلوّ السلطنة من المطابع، وإلى أن الكتب جميعها كانت تُنسخ بخط اليد. وقد استنكر البعض رفض هذا الاختراع الرائع الذي يتيح طبع كميّة كبيرة من كتاب معيّن في وقت قصير، بينما يقتضي وقت طويل لنقل نسخة واحدة منه!

أمّا على الصعيد المحلّي فإن خير شهادة تدلّ على عدم توافر مطبعة تطبع بالحرف العربي لغاية العام 1726م، هي رسالة “ابراهيم متفرّقة” المعنونة “وسيلة الطباعة”، والتي يطلب فيها من الباب العالي السماح له بتأسيس مطبعة عربيّة في الديار العثمانية، مبيّناً لكبار رجال السياسة والعلم فوائد هذا الاختراع. وإلى جانب ذلك، تثبت التقاريظ التي كتبها بعض المشايخ والعلماء، إثر تأسيس أوّل مطبعة عربية، على عدم وجودها قبل العام 1726م.

يجدر التنويه أن السلطنة لم تكن غافلة عن هذا الاختراع منذ نشأته، وكانت على اطلاع تام لكلّ ما يصدر في أوروبا من الكتب، وبخاصة المطبوعة بالحرف العربي، لكنها لم ترغب في استعارة شيئين من مكتشفات جيرانها حسب ما يقول السفير البابوي “بوسبك” لدى السلطنة العثمانية عام 1560م، وهما: طبع الكتب والسّاعات.

غوتنبرغ

رأسان في السلطة

 واصلت السلطنة العثمانية استكمال الهيكلة التي بدأ بإنشائها من سبقها من السلاجقة والأيوبيين والمماليك وإدخالها في صلب العمليّة التشريعيّة السياسيّة، حيث كانت، كما يقول المؤرخ عزيز العظمة، “كل القوانين الصادرة عن سلاطين آل عثمان مزكاة من شيخ الإسلام وممهورة بخاتمه. وليس معلوماً إلى أي مدى كان أثر شيخ الإسلام في نقض اقتراحات السلاطين كبيراً، ولكن المعلوم أن الخلافات قامت، وأن الغلبة لم تكن دائماً لرغبة السلطان”.

إذاً، في الوقت الذي حكمت السلطنة العثمانية الولايات العربية طوال خمسة قرون رضخت فيها لجميع القرارات التي اتُخذت، بما فيها قرار منع المطبعة، كان يتولى الحكم في السلطة رأسان: السلطان وشيخ الإسلام، تؤازرهما هيئة دينيّة- قانونيّة تمسك بنظم العبادة والتربية والقانون، وأيّ فرمان أو فتوى يصدر عن إحدى هاتين السلطتين السياسيّة أو الدينيّة كان يتّسم بمفعول جدّي وشامل.

وانطلاقاً من هذه الفرضيّة نستنتج أن رجال الدّين المسلمين في الآستانة، والذين يتمثلون بـ “الهيئة العلميّة” هم الذين مانعوا دخول المطبعة واستخدام الحرف العربيّ للطباعة.

بايزيد الثاني

أسباب ممانعة دخول المطبعة

 لم تفت السلطنة معرفتها باختراع المطبعة وكيفيّة إنتاجها من خلال الكتب التي كان يتاجر بها الأوروبيون مع غيرها من السلع على أرض السلطنة. إضافة إلى أن السلطان بايزيد الثاني قد أصدر  فرماناً في العام 1492، يسمح فيه لليهود المطرودين من إسبانيا “بإنشاء مطابعهم تحت شرط عدم طبع أي كتاب بالتركيّة والعربيّة واقتصار الطباعة على اللغات الأوروبية والعبريّة”.

هذا يعني أن التصدّي للطباعة باللغة التركيّة والعربيّة كان مقصوداً وواعياً، على الرغم من أن الأتراك كانوا تواقين إلى الإفادة من مختلف الاختراعات التي ابتكرها الآخرون. فقلدوا صناعة القنابل والمدافع وتسليح السفن الحربيّة بحجة “أنه في حال الحرب المقدّسة، يُسمح التعلّم من الأعداء أساليب جديدة لقتالهم بها”. كما استفادوا أيضاً من خدمات المهندسين اليونانيين والمسيحيين في هندسة الجوامع وإقامتها، ولم يعترض “رجال الهيئة العلمية” على هذا الأمر!

فلماذا أبت السلطة العثمانية برأسيها السياسي والديني الإفادة من هذا العنصر الثقافي الجديد؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى هذه الممانعة الطويلة المدى؟ في ما يلي نجيب بفرضيات استقيناها من دراسات عدة لبعض المؤرخين:

  • يعزو الأب لويس شيخو في مقالته “تاريخ فن الطباعة في الشرق” إلى خوف السلطة من أن يشرع أصحاب الغايات إلى تحريف الكتب الدينية وتشويهها لمآربهم الخاصة.
  • خوف رجال الدين من الأثر السلبي الذي قد يحدثه دخول عنصر معرفيّ جديد في بنية الثقافة الفكرية والمجتمعية التي صاغوها حسب مصلحتهم فينتهي الأمر إلى اختلال متانة سلطتهم الدينية – القضائية.
  • مع انتشار الطباعة تنخفض أسعار الكتب فيتمكّن عامّة الناس من شرائها وترتفع نسبة المعرفة بين الناس فيحلّ العلم محلّ الجهل. وهذا يتنافى مع مقاصد السلطنة التي تتوخى دائماً السيطرة على جميع الميادين المعرفيّة وإذعان مواطنيها لمشيئتها من دون أي اعتراض، وتوجيههم دوماً نحو ما يرضي السلطة التي وحدها تملك حق القرار بشؤون البلاد والعباد.
  • اعتبار العلماء الأتراك أن طباعة الكتب الدينيّة تعتبر من الذنوب ويمكن الاكتفاء بالنسخ المخطوطة باليد.
  • اعتراض النسّاخين بشدّة لأن الطباعة تحدّ من نشاطهم وتقطع سبل معيشتهم.
  • لم ترق للفرس والترك والعرب فكرة الكتب المطبوعة فأعرضوا عنها وفضلوا الكتب المخطوطة على رداءتها.

ولكن إلى متى تستطيع هذه الأسباب الواهية الوقوف سداً منيعاً في وجه هذا الاختراع الذي عمّ أوروبا، والذي أفاد منه اليهود والمسيحيون داخل السلطنة بإذن شرعيّ منها؟

ابراهيم متفرقة

المحاولات الطباعية الأولى

 في أواخر القرن الخامس عشر قدم إلى الآستانة الربيّ إسحق جرسون، وهو أحد العلماء اليهود، وأحضر معه مطبعة وحروفاً عبريّة بهدف نشر المخطوطات الدينيّة اليهوديّة التي قلما استطاع اليهود الأتراك اقتناءها نظراً لندرتها وارتفاع أسعارها. وتمّ طبع أول كتاب عبريّ في العام 1490 ألّفه عن تاريخ اليهود إسرائيلي يُدعى يوسيفوس بن كريون.

تزامن تأسيس اليهود لمطابعهم مع بداية الطباعة في أوروبا، وأخذت تتطوّر وتتوسّع سنة بعد أخرى، وتعدّى نشاطها طبع الموضوعات الدينيّة إلى طباعة الكتب الأدبيّة والفقهيّة والجدليّة، ومن بينها بعض الكتب العربية التي نشرت بالعبريّة.

وخشي السلطان بايزيد الثاني من تأثير هذا الاختراع، كما ذكر سابقاً، فأصدر أمرًا بتحريمه على غير اليهود. ولما تولّى السلطان سليم الأول العرش بعد والده جدّد هذا التحريم في العام 1515.

ثابرت المطبعة العبرية على كفاحها ثلاثة قرون أصدرت خلالها أكثر من مئة كتاب. وفي أواخر القرن الثامن عشر توقفت عن العمل بعدما لمس الأتراك أنفسهم فوائد الطباعة وبدأوا يسعون للسماح بها.

ولم تنحصر الطباعة  باليهود فحسب، بل تعدّتها إلى غيرها من الأقليّات التي تمتّعت أغلب الأحيان بحماية السلطان لمطابعها، فأنشأ الأرمن أول مطبعة لهم في العام 1567، بعد أن تلقنوا هذا الفن في مطابع البندقية، وأسس اليونانيون مطبعتهم  التي اشتروا  لوازمها من لندن. وغدت السلطنة العثمانية المكان المناسب كي تؤسّس كل طائفة مطبعتها الخاصة.

ابراهيم باشا

المهمة الشاقة

أعاقت السلطة العثمانية قيام مطبعة عربيّة بمختلف الأشكال. فتارة يصدر فرمان بمنعها، وطورًا يفتي رجال الدين بأن لا فائدة لها، بل تضرّ بالنسيج المجتمعي للإسلام، ناهيك بعقوبة القتل لكل من يستعمل كتباً مطبوعة. لكن سريان هذه الممانعة لم يستمرّ بعد أن أخذ “ابراهيم متفرقة” على عاتقه إنجاز هذه المهمة الشاقة.

والغريب في الأمر أن “ابراهيم متفرقة” كان مجريّ الأصل قبضت عليه مفرزة عسكريّة عثمانيّة، وبيع أسيراً عام 1695 في استنبول. بعدئذ شهر إسلامه وتعلّم اللغة التركية حتى برع في كتابتها. ولما كان يتقن أيضاً المجريّة والفرنسية فقد عيّنه الباب العالي مترجماً لديه، وأوكل إليه أداء مهمّات أساسيّة بالغة الدقة نجح في إنجازها فاكتسب ثقته.

ومن المرجّح أن ابراهيم قد ألمّ بالفن الطباعي أيام دراسته في المجر، ثم تعلّمه عندما كان طالباً في كلية اللاهوت هناك. ولم يغب عن باله أن انتشار الطباعة في اوروبا جعلها تنمو وتتواصل ثقافياً وصناعياً، فشرع يعدّد محاسن الفن الطباعي أمام الصدر الأعظم ابراهيم باشا وسفيره إلى فرنسا جلبي محمد أفندي وضرورة إنشاء المطبعة. ثم “عرض مشروعه على بعض الوزراء الذين اقتنعوا بجدواه لكنهم رأوا أنه صعب التحقيق”.

كان من الصعب جداً الاقتناع بهذا الاختراع القادم من “بلاد الكفرة”، وكان التعاطي بأمر استخدامه مشوباً بالحذر الشديد على الرغم من المدح الذي طاله أحياناً. لكن ذلك لم يثنِ ابراهيم عن تكرار محاولته، فبعد أن رفع رسالته الأولى إلى الباب العالي وباءت بالفشل، عاود الكرّة مرات عدة محاولًا إقناعه، لكن “رجال الهيئة العلمية” وقفوا إزاءه بالمرصاد إذ رفعوا توصياتهم بعدم الموافقة، وذكروا “أن تداول الكتاب المطبوع بين الناس أكثر من الاحتياج الفعلي يؤثر على الأمن العام وأنه خطر على المعاملات الدينيّة”.

في تلك المرحلة كان سعيد أفندي، ابن سفير تركيا في باريس، والذي أصبح في ما بعد صدراً أعظم، يصحب أباه في مهمته، وقد شاهد عن قرب ما للمطبعة من تأثير ومنفعة على مسيرة تقدّم الدولة والشعب. وفور عودته إلى الآستانة عمد إلى الاجتماع بالطبقة المثقفة من معارفه وطرح عليهم إنشاء مطبعة، فلاقى الاقتراح صدى طيباً لديهم.

وكان من الطبيعي  في ذلك الوقت أن يلتقي سعيد أفندي بابراهيم متفرقة، الذي كان يسعى في الوقت عينه إلى تحقيق هذا الهدف. واتفق الاثنان على توجيه رسالة ثانية إلى الباب العالي، أضاف ابراهيم إليها “طلباً بإصدار الفرمان من السلطان وفتوى من شيخ الإسلام يطلب فيها السماح بطبع الكتب صراحة”. وتضمنت هذه الرسالة ذكر أهمية الطباعة في حفظ التراث الإسلامي، وفي تحديث الإدارة ومواكبة السلطنة للدول الغربيّة في نموّها وتطوّرها.

انتظر السلطان أحمد الثالث مرور سنتين على فتوى شيخ الإسلام عبدالله أفندي سنة 1716م ليوافق بعدها على إصدار الفرمان إلى سعيد أفندي وزميله ابراهيم متفرقة بالترخيص بإنشاء مطبعة مستثنياً طباعة كتب التفسير والحديث والفقه والكلام. وكان أوّل كتاب صدر عنها في العام 1728 هو ترجمة “قاموس وانقولى” إلى اللغة التركية.

السلطان أحمد الثالث

نتائج الرفض العثماني للمطبعة

يحار المرء كيف يمكن لأمة تريد الخير لأبنائها أن تحرمهم من فوائد اختراع كان الرائد لنهضة الفكر الإنساني وتواصله بين مختلف الشعوب، وأحد الأسباب الرئيسة التي أسهمت في قيام الثورة الصناعية. ولا غرو أن هذا الرفض الذي بدأ منذ اختراع غوتنبرغ للطباعة حتى صدور أول كتاب باللغة التركية في العام 1728 قد سبّب أضراراً فادحة للسلطنة التركية ولجميع البلدان الواقعة تحت سلطتها. ونذكر من هذه النتائج ما يلي:

  • عدم السماح بتجليد القرآن الكريم فتبعثرت أوراق الكثير من مخطوطاته القيّمة.
  • فقدان نفائس المخطوطات التي لم تُطبع ولم يكن متوفراً منها أكثر من نسخة واحدة، ومنها ما تملّكها الأجانب فأمست في الديار الأوروبية.
  • حصر المعرفة بطبقة صغيرة من العلماء ورجال الدين على مدى قرون وعدم جعلها في متناول الجميع.
  • ازدياد نسبة الأميّة بين أفراد الشعب لأن الكتاب المطبوع يسهم في عملية التعليم.
  • عدم الخروج عن إطار الفكر التقليدي بإغلاق أحد سبل التواصل مع فكر الآخرين والاطلاع على ثقافتهم، وبذلك تتضاءل وسائل الخلق والإبداع.
  • عزل الثقافة العربية وتحميلها عواقب الانغلاق على نفسها طوال قرون.
  • عدم الإفادة التامّة من التطوّر الصناعي الذي ارتبط في أحد جوانبه بالحقل الطباعي.

هذا ما جنته السلطنة العثمانية على نفسها وعلى الولايات العربيّة التي حكمتها من خلال تصدّيها للطباعة بالعربيّة والتركيّة على مدى قرون من الزمن. لكن هذا الرفض لم يكن ليستمرّ لو أن المجتمع في حينه قاومه ولم يزكّيه!

تواريخ هامة

 1442: اخترع يوهان غوتنبرغ المطبعة في ماينس- ألمانيا.

1485: أصدر السلطان بايزيد الثاني أمراً يحرّم على غير اليهود استخدام

         المطبعة.

 1492: أنشأ اليهود الأتراك مطبعتهم.

1501: صدور “التوراة” العربية بالأحرف العبريّة.

1514: “السواعي” أول كتاب عربي مطبوع في مدينة فانو- إيطاليا.

1567: السماح للمسيحيين الأتراك بإنشاء مطبعتهم.

1706: حلب المدينة السورية الأولى التي استخدمت المطبعة، ويعود فضل إنشائها إلى البطريرك أثناسيوس دباس، وأول كتاب طبع  فيها هو “كتاب المزامير”.

1725: شيخ الإسلام عبد الله أفندي يصدر فتواه بتحليل الطباعة في حدود  معينة.

1726: رسالة “ابراهيم متفرقة” الثانية التي حصلت على رضا الباب العالي  لتأسيس المطبعة العربية.

1727: تأسيس المطبعة التركيّة على يد “ابراهيم متفرّقة”.

1828- 1830: دخول الطباعة إلى مصر وفلسطين وصدور “الوقائع المصريّة” أول جريدة عربية بالقاهرة.

1829: صدور قاموس “صحاح الجوهري” أول كتاب عربي طبع في  المطبعة التركيّة.           

1877: إنشاء مطبعة في صنعاء – اليمن بأمر من السلطان عبد الحميد   الثاني.

 

رسالة وسيلة الطباعة لابراهيم متفرقة

One comment

  1. يقول Marleine Saade:

    دراسة قيّمة وغنيّة بالمعلومات التاريخيّة. شكرا للدكتور الأديب ميشال مراد ولـ Thaqafiat على هذه الإضاءة.

اترك رد