مقدمة:
يعاني اللبنانيون من مشاكل عديدة لاتخفى في كل مفاصل الحياة اليومية : التردي الإقتصادي وازدياد الفقر والتهميش الإجتماعي، التردي البيئي وازدياد الأمراض ومخاطر التصحر، الفساد الذي وصل الى حد سقوط القيم الأخلاقية والعهر، الشرذمة والإنقسام، والفلتان الأمني مع كل ما يحمله من مخاطر حرب اهلية جديدة. لكن مشكلة اللبنانيين الأكبر رغم ذلك، تبقى في أن غدهم في وطن واحد موحد غير ثابت وغير أكيد. والسؤال الأول الذي يجب أن نطرحه أمام الراي العام هو هل سيبقى لبنان دولة واحدة موحدة؟
باعتقادي أن الحديث عن إصلاحات سياسية واقتصادية ودستورية حقيقية في البلاد سيبقى مؤجلا الى مرحلة ما بعد تقرير مصير لبنان. كل ما يتم تحقيقه اليوم هو تقديم جرعات من حبوب الأسبيرين لتخفيف الأوجاع. فلبنان جزء من هذا المحيط. قد لا تكون النار مشتعلة الآن فيه كالدول المجاورة، لكن هذا لا يعني أن حرارة اللهيب لا تصيبه. الحلول الجذرية للبنان قادمة لكن بعد معرفة أية دولة وأي نظام ستكون عليه سوريا عند نهاية الحرب الجارية فيها. مصير لبنان ومستقبله مرتبط جذريا بهذا البلد.
ومن هذا المنطلق اقول أن واجبنا الأساسي كحركة تغيير منشودة في لبنان أن نرفع هذا الغطاء عن هذه الحقائق وإشراك الناس بشعور القلق على مصيرها ومستقبلها وتقرير اي لبنان تريد. وفي هذا الإطار علينا أن نؤكد أن لا مجال لأي تغيير حقيقي دائم ومستمر ومستقر في لبنان إذا لم نحقق حيادا مقبولا من الجميع بتوافق اللاعبين الدوليين والإقليميين والمحليين يسمح بتغيير الوضع الداخلي.
مدخل:
لنكن واضحين ونسأل أنفسنا عمن يدير لبنان واقعيا؟ الرد على هذا السؤال يساهم في رسم استراتيجية العمل الميداني. وقد كان من المفروض على من يرغب قيادة التغيير في البلاد أن يطرح هذا السؤال منذ سنين وسنين لكن إستمرارنا بتجاهل هذا السؤال والرد عليه والتفاعل معه ووضع الإستراتيجية المناسبة للتعامل معه كان يبقي لبنان في الدوامة ويرميه من أزمة الى أخرى وفقا لما تفرضه مصالح الذين يديرون لبنان فعلا.
صحيح أن الحاكم المباشر للبنان هم أؤلئك الزعماء الملتحفون أحزابا. لكن ألا نلاحظ اللازمة العفوية على لسان كل لبناني الذي يصف فيها هؤلاء بأنهم “مرتهنون للخارج”؟ نعم كل لبناني يصفهم بهذا الوصف. ولكن هل تجرأ أي لبناني يقول بأنه يريد لبنان وطنا نهائيا له ولأبنائه بأن يخرج لمواجهه هذا التدخل من الخارج؟ على العكس المشكلة تضاعفت عندما صار اللبناني يستحسن ويستسيغ هذا التدخل الخارجي. فإنقسم اللبنانيون في التعامل مع التدخل الخارجي لأسباب مختلفة أهمها ولا شك، العامل الديني والمذهبي. الكل يتعاطى مع هذا التدخل وفقا لمشاغله. هذا يرى التدخل الإيراني مثلا تدخلا عدائيا سافرا فيما يصفق له آخر ويرى فيه تدخلا محمودا ومطلوبا. وذاك يرى التدخل السعودي عدائيا وسافرا والثاني يراه تدخلا محمودا ومطلوبا. وآخر يرى التدخل الفرنسي بمثابة تدخل الأم الحنون ورابع يرحب بالتدخل الأميركي بحجة الدفاع عن قيم الديموقراطية والحريات وخامس يرحب بالتدخل الروسي بحجج مختلفة الخ… لكن لاحظوا من يؤيد ومن يعارض هذا التدخل أو غيره. السنة يرحبون بالتدخل السعودي ويكرهون التدخل الإيراني. والشيعة يرحبون بالتدخل الإيراني ويكرهون التدخل السعودي الخ.. وعليه صار اللبنانيون سلاحا لمحاربة بعضهم البعض بما يرضي ويحقق أجندة هذا الخارج ودائما من خلال هذا الزعيم المحلي أو الحزب المحلي الذي نعرف كلنا كم يستلم من أموال من ذلك الخارج لاستمرار دوره.
اذا فأن الذي يحكم لبنان فعلا هي تلك القوى التي تحرك هؤلاء الزعماء (الأحزاب). اللاعب الأساسي في لبنان اليوم هو الصراع الدولي الإقليمي على مصير المنطقة. نحن في لبنان مرتهنون لهذا الصراع والواقع السياسي في لبنان محكوم بهذه اللعبة ومحكوم بقرار الجهات الدولية والإقليمية المتورطة فيها.
مراجعة لتطور الواقع الدولي منذ سقوط الإتحاد السوفياتي.
من غير الممكن لأي ناشط سياسي أو إجتماعي أن يقدم برنامجا بديلا مناسبا للحالة في لبنان ما لم يقرأ أولا عمق التغيرات التي حدثت بعد سقوط الإتحاد السوفياتي. أنا أصف نهاية الحرب الباردة بنهاية للحرب العالمية الثالثة. وكل مؤرخ وقاريء سياسي يدرك كم يتبع نهاية الحروب العالمية، من تغييرات دولية لخدمة ومصلحة الرابح فيها. فبعد نهاية الحرب العالمية الأولى كشف الستار عن اتفاق سايكس بيكو وتم تقسيم الهلال الخصيب الى دول متعددة. وبعد الحرب العالمية الثانية تم إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين. أما بعد نهاية الحرب العالمية الباردة الثالثة فنحن رأينا نشوء دول جديدة على قواعد طائفية أو إثنية أو عرقية ونرى الآن تقسيما جديدا لإقامة شرق أوسط جديد.
هذا الشكل الطائفي المذهبي العرقي الأثني للصراعات في منطقتنا والعالم تبع سقوط الإتحاد السوفياتي منذ العام 1990. فمنذ لك الحين خرجت الصهيونية العالمية وقوى الإستعمار الغربي ولا سيما مجموعة الأنكلوسكسون باستراتيجيات معلنة لجعل الإسلام العدو الجديد للبشرية فيما بعد الشيوعية. وهي استبقت الحرب على الإسلام في منطقتنا بحروب عليه في أوروبا (البلقان) وفي دول آىسيوية وفي أوقيانيا (وست أيريان في إندونيسيا) وفي الشيشان وغيرها. وترافق كل ذلك مع إطلاق هيكلية قانونية دولية تحت مسمى الإرهاب لضرب مفهوم حق الشعوب بتقرير المصير وجعل كل جماعة تتحرك خارج الأهداف المرسومة من تلك القوى الدولية جماعة إرهابية يمكن احتواؤها والقضاء عليها.
وأني كنت شاهدا على صناعة الإتفاقيات الدولية لمواجهة الإرهاب وأذكر رفض أنظمة الغرب الحازم لتعريف الإرهاب كي يحتفظ بقدرة التحكم بقرار تسمية هذه المجموعة أو تلك بأنها إرهابية وفقا لمشيئته ومصالحه. كما شهدت وشاركت في صناعة المحكمة الجنائية الدولية التي كان يفترض لها أن تلعب دورا رادعا لمنع مثل تلك المجازر الطائفية وملاحقة المجرمين الذين يتورطون بسفك دماء أهاليهم وسكان أوطانهم تحت مثل هذه الشعارات ومنعهم من الإفلات من العقوبة. فرأيت كيف أن الولايات المتحدة وروسيا وبعض الدول الفاعلة الأخرى رفضت الإنخراط فيها بغية منع محاكمة جنودها لارتكابات مماثلة أو بغية فرض تحويل مجرمين بهذا الإطار الى المحكمة من خلالهم وتحديدا من خلال مجلس الأمن الذي يسيطرون عليه.
لقد عاصرت ما تبع نهاية الحرب الباردة من تحول في مواقف الدول. وشهدت في جنيف كيف كانت الدول الإشتراكية ودول عدم الإنحياز تتبارى في تغيير مواقفها من القرارات الدولة لمصلحة إسرايل كإثبات على تحولها والتحاقها بالركب الغربي. وروسيا الإتحادية ذاتها قامت كأول بادرة لتأكيد التغيير في مفاهيمها الدولية، بفتح باب الهجرة لليهود الى فلسطين المحتلة حتى صار اليهود الروس أكبر قوة سياسية هناك بل وتحولت روسيا الى الرافعة الأساسية التي نهضت باقتصاد إسرائيل وجعلتها إحدى أقوى الدول العسكرية والإقتصادية في العالم. وأنا لن افاجأ إذا تخلت إسرائيل يوما غير بعيد عن الولايات المتحدة وذهبت نحو روسيا. وقد شهدنا صمت إسرائيل المدوي في الصراع الأوروبي الأميركي القائم مع روسيا. الغرب انتقد اسرائيل على هذا الأمر لكن بصوت منخفض. ولذلك فإني اسال فيما ذلك المهلل لدور الروسي في المنطقة إذا كان يتوقع فعلا أن يكون التدخل الروسي في منطقتنا لخدمة صراعنا مع العدو الصهيوني؟ وإذا لا فما هو رايه بهذا التدخل غير خدمة مصالح روسيا الخاصة؟
ومن الضروري أن لا نتجاهل أبدا العامل الإقتصادي الذي يبقى برأيي العامل الأساس في مواقف كل اللاعبين ومنهم روسيا والصين بشأن واقع المنطقة. فبعد سقوط الإتحاد السوفياتي صار الجميع في مركب واحد هو المركب الليبرالي ومن هنا نشأت مقولة القرية الكونية والعولمة. وقد وقع تنافس في هذا المركب الواحد حول كيفية قيادة المركب وهوية قائده. بعض الدول تريد تغييرا في النظام المالي الدولي القائم منذ اتفاقيات بريتون وودز لعام 1929 وذلك كي تتحرر من هيمنة الدولار. وهذه الدول التي برزت تحت مسمى بريكس ( البرازيل، الإتحاد الروسي، الهند، الصين وجنوب إفريقيا) تريد اعترافا بعملاتها كعملات صعبة مما يمكنها من إقامة اسواق نقدية في مناطق جغرافية مختلفة على غرار منطقة اليورو الأمر الذي يعطيها دورا سياسيا واقتصاديا فاعلا يتيح لها المشاركة في صنع القرارات السياسية والإقتصادية العالمية ويحولها الى شريك في قيادة ذلك المركب.
الولايات المتحدة كانت تدرك أن قيام هذه الأسواق النقدية ينهي دورها السياسي الدولي وهي بالطبع لا ترغب بذلك. هي سمحت لأوروبا بإقامة اتفاقية ماستريخت ومنطقة اليورو لكن كعامل مالي إقتصادي مساعد لدورها السياسي وليس كمنافس له. أي منطقة نقدية جديدة لا تقوم على غرار منطقة اليوريو هي إضعاف لدور أميركا السياسي الدولي ولن تقبل به طوعا. وقد استمرت الولايات المتحدة تعارض هذا التوجه وتقدم مشاريع مختلفة لاحتوائه مثل مشروع الليبرالية الجديدة التي سقطت بالضربة القاضية في الأرجنتين عام 2001. ثم اضطرت الولايات المتحدة الى القبول بتغيير محفل القيادة الإقتصادية “التشاوري” لكن بعد الأزمة المالية عام 2008 التي عصفت بها فأطلقت المجموعة 20 لقيادة الإقتصاد الدولي وضمت عدة دول الى دول المجموعة السبع بينها دول بريكس والأرجنتين والمكسيك وتركيا واستراليا واندونيسيا وكوريا الجنوبية وايضا…. السعودية. ومنذ ذلك الحين تحولت المواجهة الأميركية مع دول بريكس الى مواجهة ميدانية. الولايات المتحدة أسقطت البرازيل بعودتها القوية الى أميركا اللاتينية وباسقاط رئيسة البرازيل ثم نظام الدكتورة دي كيرتشنر في الأرجنتين وما سيتبعه من تغيير الأنظمة الراديكالية ولاسيما في فينزويلا.
كما تحولت أميركا الى إفريقيا مستخدمة سياسة العصا والجزرة ومهددة بالتدخل العسكري تحت عنوان المشاركة في عمليات حفظ السلام. هي لم تعارض التمدد الإقتصادي الصيني في تلك القارة لكنها اسقطت دور جنوب إفريقيا كلاعب إقليمي مستقل.
وشهدنا ما شهدناه من الصراع مع الإتحاد الروسي حيث سعت الولايات المتحدة للوصول بالناتو الى حدود تلك الدولة. ورأينا ما تبع من تدخل روسي في شبه جزيرة القرم وفي أوكرانيا. ولذلك فإن تدخلها في سوريا هو ايضا من هذا القبيل. أي انه جزء من صراعها مع أميركا في إطار مطالبها الإعتراف لها بالروبل كعملة صعبة تحررها من ضغوط الدولار على اقتصادها وسياساتها العالمية.
أما الهند فهي تتراجع تلقائيا عن مواقفها الإستقلالية سياسيا واقتصاديا وصارت تسعى لأن تثبت ولاءها للنظام الغربي وآخر هذه التعابير في الولاء تلك الزيارة المشؤومة لرئيس وزراء الهند الى إسرائيل. وأنا أعتقد أن الولايات المتحدة لن تعارض منح العملة الهندية الروبية صفة العملة الصعبة لكن في الوقت المناسب بعد أن تكون الهند أنهت الإصلاحات الهيكلية في اقتصادها وربطته بشكل كامل مع اقتصاديات الغرب.
تبقى الصين فالصين أخذت مواقف معارضة للولايات المتحدة في بدايات الحرب في سوريا. وهي لم تتردد في توجيه التهديدات الى الولايات المتحدة من خلال صنيعتها كوريا الشمالية بتوجيه ضربات نووية إذا عادت أميركا الى آسيا لخلق القلاقل لها. وكل متابع للشأن الدولي يعلم أن الولايات المتحدة إنما أطلقت ما سمي بالربيع العربي بغية حسم واقع هذه المنطقة لمصلحتها والتفرغ لمواجهة التنين الصيني في عقر داره. وفي هذه الظرف بالذات برزت التهديدات الكورية الشمالية المعروفة. كوريا الشمالية لا يمكن أن تمارس هذه التهديدات ولا أن تقاوم هذا الضغط الدولي عليها دون الدعم الصيني اللامتناهي. وقد فهمت الولايات المتحدة الرسالة وأقرت أخيرا للصين بأن عملتها اليوان هي عملة صعبة. الولايات المتحدة واثقة أن الصين لا تحركها أهداف سياسية في توسعها الإقتصادي وقد أثبتت الصين فعلا عن هذا المبدأ الاستراتيجي في علاقاتها الدولية عبر أكثر من أربعين سنة من نشاطها الإقتصادي المتنامي في العالم. الصين لا تريد أن تحول هذا النجاح الإقتصادي الى عامل قوة سياسي لها تتدخل من خلاله بتوجهات الدول ومواقفها . وضع الصين الداخلي لا يسمح لها بالمخاطرة بمثل هذه اللعبة. والولايات المتحدة تتجه الى خلق بديل عن أسواق الصين لشركاتها هي المكسيك. حاولت كثيرا أن اقنع وزير خارجية لبنان بهذه المعطيات لكنه لم يسمع.
الربيع العربي:
باعتقادي أن الولايات المتحدة رغبت فعلا بالانتقال الى آسيا لمواجهة الصين هناك. وهي رغبت أن تنهي الثغرات في ملف الشرق الأوسط بما يضمن حل للقضية الفلسطينية مع واقع مقبول ومتفق عليه بين دول المنطقة يسمح لها بالإمساك بها قبل الخروج من المنطقة نحو آسيا. فالمعركة مع الصين تحتاج الى ضمان بقاء الشرق الأوسط بكل مخزونه المالي والنفطي وموقعه الجغرافي ودوره السياسي في فلك الولايات المتحدة وأوروبا. القرار المتعلق بالشرق الأوسط لم ينبثق من خريطة المواجهة الإقتصادية المستجدة مع الصين ودول بريكس بل من خريطة صهيونية قديمة قامت الولايات المتحدة على تغذيتها لعقود قبل سقوط الإتحاد السوفياتي. هذه الخريطة التقسيمية مبنية على تقسيم جديد للمنطقة بابعاد طائفية ومذهبية مشؤومة. النظام الأميركي أراد أن يبني شرق أوسط جديد يمنح المشروعية لإسرائيل اليهودية. دول إسلامية مقابل دولة يهودية. واضح بأن الولايات المتحدة اختارت المصلحة الإسرائيلية لتسوية وضع الشرق الأوسط وليس مصلحتها الحقيقية.
كلنا يتذكر ما حصل في تونس ومن ثم في مصر. كان الشعار الدائم هو التخلص من الديكتاتوريات والفساد والعودة الى ممارسة الديموقراطية وحق الشعوب في التعبير الحر عن خياراتها. ولطالما سألت نفسي عمن أطلق عبارة “الربيع العربي” على هذه التحركات؟ وكم كنت أضحك وأنا اسمع الإعلام العربي يردد كالببغاء هذا التعبير حتى التصق بذاكرة شعوبنا وصدقنا مفهومه اللغوي. لقد شبهت عملية إطلاق هذا الإسم على التحركات الجماهيرية في الشوارع العربية بما يتم عندما يقرر الغرب وإسرائيل إطلاق حرب في مكان ما في عالمنا العربي فيطلقوا عليها إسما يساهم في أرشفتها في تاريخها السياسي. الربيع العربي إسم مثل إسم عاصفة الصحراء أو السلام من أجل الجليل وغيرها.
الربيع العربي كان الإسم الملطف للشعار الذي أطلقته السيدة كونداليسا رايس منذ العام 2005 الا وهو “الفوضى الخلاّقة”. فسرعان ما تبين أن الأهداف الحقيقية لتلك الحركة الشعبية كان إقامة حركة شعبية تحرك الشارع للوصول الى الهدف المنشود من الغرب. تحرك الشارع يمكن أن يتحول من تحرك مسالم الى تحرك يحمل العنف فالى حرب أهلية كل ذلك كي تتحقق الأهداف المنشودة. الغرب هو الذي أطلق تلك الحركة. وهي لم تكن عفوية. الغرب هو الذي حشد عبر سنين طويلة جيشا من المتدربين في التحرك الميداني وأعطى الضوء الأخضر لهم فخرج هؤلاء الشباب الذين في معظمهم صدقوا أنهم يخدمون أوطانهم، ليحركوا الشارع من خلال التواصل الإجتماعي. أنا اسميتها الحرب الإلكترونية لكثرة استخدام الإلكترونيات في تحريك الشارع. وقد قام الغرب بدعمهم بواسطة إعلامه ومخابراته. ولمن لا يصدق أسأله أن يراجع كيف خرج الرئيس حسني مبارك من السلطة. الرئيس مبارك الذي كان يملك كل تلك السلطة من المخابرات والجيش وأدوات الأمن خرج صاغرا عندما قالت له أميركا أن يخرج. هكذا حصل مع شاه إيران عام 1979 فهو ايضا أسقط دور السافاك المخيف وخرج صاغرا عندما طلبت اليه الولايات المتحدة ذلك لمصلحة خليفته الإمام الخميني.الغرب الذي رسم خريطته الطائفية للشرق الأوسط دفع بأزلامه لإخلاء الساحة كي يتبلور الفعل المرجو لتحريك التغيير المنشود وإقامة الكيانات الطائفية والمذهبية.
الحرب على العرب والإسلام في منطقتنا إنطلقت منذ عام 1979. فمع قيام النظام الطائفي الشيعي في إيران بدأت عملية زرع الكراهية والحقد الطائفي والمذهبي في المنطقة. تمكن الغرب أن يزرع بذور كراهية قاتلة بين نظام إيران الشيعي والأنظمة العربية السنية بدءا من حرب صدام حسين عليه. وتمكن أن يعمق جذور هذا التباعد بمسرحية التفريق بين الإلتزام السني العربي والإلتزام الشيعي الفارسي مع القضية الفلسطينية. صارت القضية الفلسطينية قضية إسلامية يقودها الفرس والأتراك ولم تعد قضية قومية عربية يقودها العالم العربي. وأنا لا استطيع أن أفسر كيف سمح الغرب الذي لا يكف عن إعلان العداء لإيران، بوصول الإمام الخميني الى الحكم بتلك السهولة إلا بأن له مصلحة في ذلك.؟ كما لا أستطيع أن أفسر كيف سمح الغرب بوصول الإخوان الى الحكم في تركيا الحليف الإستراتيجي له والشريك في منظمة حلف الأطلسي وبعدما كان يعتبر أي تحرك إسلامي في تركيا خيانة لمبادئ الدولة العلمانية التي أقامها أتاتورك منذ نهاية الحرب العالمية الأولى في ذلك البلد، إلا أن له مصلحة في ذلك. وقد رأينا كيف نهضت إيران الخمينية بالحملة ضد إسرائيل لمصلحة الفلسطينيين ثم رأينا كيف نهض أخوان تركيا بالحملة ضد إسرائيل لمصلحة الفلسطيننين فأرسلت تركيا باخرة لفك الحصار عن غزة ومات أربعة من ركابها ورأينا إكيف اقيمت المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله في لبنان لخوض حروب ضد إسرائيل. وكل هذه المشاهد أثمرت إنقساما حتى داخل الصف السني العربي حيث وقف كثير من الحركات الجماهيرية ولاسيما التي توالي الأخوان لدعم تركيا وحتى إيران في وجه الدول العربية السنية في الخليج.
الظروف كانت قد نضجت وحان القطاف فبدأ التحرك في العام 2010 لقطف الثمار. بدأت بلورة الشرق الأوسط الجديد لكن هذه المرّة دون تدخل عسكري غربي أو إسرائيلي بل بأدوات إقليمية إسلامية سنية وشيعية. إنتهى زمن القومية العربية والوحدة العربية والكيانات العربية وجاء زمن الكيانات السيادية الفردية المذهبية والطائفية. جاء وقت الترويج لكراهية الإسلام والقضاء على دوره المقاوم لليهود في العالم. الربيع العربي كان هدفه الظاهري المعلن هو إعادة رسم العالم العربي على أساس دول قائمة على خيارات شعبها وباطنها هو رسم دول تقيمها هذه الخيارات الطائفية فتحولها الى دول قائمة على نظم طائفية ومذهبية تدور في فلك قوى إقليمية هي التي ستدير الشرق الأوسط بعد إنهاء حكاية القومية العربية. الغرب كان واضحا فالشرق الأوسط بالنسبة اليه كان يقوم على ثلاثة أعمدة: إسرائيل وإيران وتركيا. المسمى العربي الوحيد كان يفترض أن يبقى في طابعه التاريخي: الخليج العربي. هذه الحرب كان غرضها وما زال، إنهاء مفهوم القومية العربية المدنية وإطلاق مجموعة جديدة (عربية أو شرق أوسطية) على أساس تكوينها الجديد كدول قائمة على قواعد طائفية أو مذهبية طائفية يصنعها الحجم الإقليمي لإسرائيل ولإيران وتركيا وللإرادة الدولية المحركة لهذه القوى الإقليمية.
الفوضى الخلآقة وخدمة الإرهاب؟
تونس التي بدأت فيها حركة الشارع في ما سمي الربيع العربي، استعادت الهدوء سريعا لأنها لم تكن مستهدفة أصلا في هذه الحركة بل كانت الجزرة التي تم من خلالها حشد الجموع العربية في الدول إلإفريقية العربية ولاسيما مصر وليبيا والمغرب والجزائر. وفيما عدا مصر وليبيا لم يتم دعم أي من التحركات الشعبية الإسلامية التي قامت في المغرب والجزائر. فهذه الدول كانت مضمونة الولاء. الجزائر منهوكة القوى بعد حروبها الطويلة مع الإسلاميين منذ العام 1989 فوافقت ودعمت كل الاتفاقيات التي أرادها الغرب لضمان ولائها. أما ليبيا فكان من المطلوب إقامة نظام أسلامي يتوافق مع النظام المنشود في مصر بحيث يقع حالة من الإستقرار السياسي هناك تحت عنوان التآخي الإسلامي.
وعلى الراغب بوضع حلول جذرية للحالة في بلدنا أن يقرأ ما كتبته السيدة هيلاري كلينتون في مذكراتها عن الشرق الأوسط. هي قالت أن الغرب كان ينتظر أن يعلن السيد محمد مرسي الدولة الإسلامية في مصر بغية تاييد تلك الدولة. السيد مرسي كان يبني هيكلية سياسية وإدارية جديدة في البلاد تسمح له بالإطباق على الدولة وإعلان الدولة الإسلامية. هو أخطأ بأنه كان يعزل كل من هو ليس إخواني ويقيم مكانه إخواني مما أثار الغضب فانتفض الجيش المصري عليه. ويلاحظ أن الغرب سارع الى اعتبار تحرك الجيش بأنه إنقلاب على الشرعية في حين أن قسما كبيرا من الشعب المصري ودول أخرى مثل المملكة العربية السعودية اعتبرت تحركه ثورة مضادة.
تركيا الموعودة بزعامة إقليمية خسرت موطئ قدمها المتفق عليه داخل العالم العربي. وقد كان من المفروض أن تقود تركيا حوارا مصريا عربيا مع إسرائيل يتم خلاله الإعتراف لإسرائيل بيهوديتها فلم يعد من سبب لرفض يهودية إسرائيل طالما أن الدول المجاورة صارت كلها دولا طائفية.كما كان متفقا على جعل القدس مدينة دولية مفتوحة إرضاء للمسيحيين وللشارع الإسلامي في العالم ولكن يتم بالمقابل التخلي عن الضفة الغربية لإسرائيل ويتم تخصيص قسم من صحراء سيناء بدلا عنها لمصلحة إقامة الدولة الفلسطينية وتضم غزة اليها فيكون لها معبر الى البحر. ويتم تمويل تطوير هذه الدولة الجديدة من خلال برامج مالية دولية. وهكذا يتم إنهاء القضية الفلسطينية. تركيا التي كان مقدرا لها ان تعود الى العالم العربي من الموقع الطائفي الإسلامي اعادت حالا العلاقات مع إسرائيل بعد فشل ذلك المشروع.
كلنا يعرف أن تركيا هي التي قدمت الغطاء السياسي للأخوان وكلنا يعرف أن قطر هي التي قدمت الدعم المالي لهم لكن ما لا تعرفه هو أن السعودية لم تقبل ذلك الدور القطري . البعض يعتقد أن السعودية ثارت على الغرب لأنه اختار قطر لتمويل الحركة الإسلامية الإخوانية بدلا منها وهذا خطأ كبير فالسعودية هي التي لم تقبل بالمشاركة في اللعبة. السعودية ظلت وتظل الدولة الأكثر رعاية عند الغرب في المنطقة.هي عضو في المجموعة 20 ولهذه العضوية معنى كبير جدا في الاستراتيجية الاقتصادية الدولية للولايات المتحدة.
بل ثمة قناعات متداولة بأن السعودية ساهمت وتساهم في تقسيم المنطقة. أنا لا أريد أن أدخل في هذا الجدل بل أريد أن اذكر فقط بالمواقف المعلنة والصريحة للمملكة وهذا ليس دفاعا عن المملكة بل دفاعا عما بقي من هوية قومية عربية تكاد تزول بغبائنا الطائفي والمذهبي. أنا لا أستطيع أن أنسى كيف أن المملكة رمت بعضويتها في مجلس الأمن بوجه الولايات المتحدة التي يتهمها أعداؤها أنها خاتم في خنصرها. وكل من يعلم كم تعاني الدول للحصول على عضوية هذا المجلس يفهم مدى التضحية وقوة الموقف الذي اعلنت عنه السعودية في حينه. المملكة كانت تريد أن يتبنى مجلس الأمن موقفا من الحالة في سوريا قيتوقف حمام الدم ويتم وضح حل سياسي للحالة في سوريا. هي كانت وما زالت تعارض نظام الرئيس بشار الأسد لكنها كانت تعلم أن تدخل المجلس لا يعني بالضرورة تبني موقفها السياسي الخاص بل هو مدخل لإنهاء النظام القائم لمصلحة نظام جديد يمكن أن يكون نظاما فدراليا تقسم فيه سوريا الى فدراليات وفقا لمواقع الطوائف القائمة, بل يقال أنها عرضت مالا على الدروز في جبل الدروز لقبول هذا الحل. لكن المهم أن ما سعت اليه السعودية في حينه هو ما يتم العمل عليه الآن على قدم وساق.. وأني اسال كل المعنيين العارفين بخبايا الأمور أليس هذا ما يتم العمل من أجله الآن؟ اذا لو تم دعم موقف المملكة في مجلس الأمن في حينه أما كنا وفرنا الكثير الكثير من سفك الدماء والحروب بيننا؟
وقامت المملكة بعد أن فشلت بتحقيق قرار في مجلس الأمن لإنهاء الوضع الدموي في سوريا بالدفع باتجاه الاستفادة من القرار 370 للجمعية العامة للأمم المتحدة وعنوانه “الإتحاد من أجل السلام”، فدعت مع الدول العربية الى جلسة للجمعية العامة لتبني قرار تحت هذا العنوان كان من الممكن أن يساهم في وقف تلك الحرب المدمرة. لكن الجمعية العامة واعضاءها أضاعوا الفرصة مرّة أخرى وكل ذلك قبل صعود نجم داعش والداعشيين. فلماذا رفضت الأمم المتحدة هذه البادرة العربية ولماذا لم تقم الأمم المتحدة بدورها لحفظ الأمن والسلم الدوليين في سوريا والعراق وليبيا؟ لماذا سمحت باستمرار سفك الدماء والتهجير والتطهير العرقي. التاريخ سيشهد على أن هذه المنظمة والقائمين عليها من دول كبرى ساهموا بالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة التي جرت في الدول العربية ولاسيما سوريا والعراق. البعض يتهم السعودية بتمويل الإرهاب، عال لماذا لا نحيل الجرائم المرتكبة في سوريا الى المحكمة الجنائية الدولية وليتم التحقيق حول كل الذين ساهموا بهذه الفظائع. لماذا يسمحون للمجرمين بالهرب من المساءلة؟
إن فشل عملية تحويل مصر وليبيا الى دولتين إسلاميتين نقل الحالة الى مرحلة أخرىز فقد انتقل الصراع كله الى العراق وسوريا. وجعل واضحا أكثر الأهداف المنشودة من الغرب في هذه البقعة من الهلال الخصيب. فبعد أن مزق الغرب الهلال الخصيب بعد الحرب العالمية الأولى وزرع في قلبه إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية ها هو الغرب يسعى الآن لزرع دولة جديدة فيه هي الدولة الكردية. وأني مقتنع أن داعش أقيمت لكي تجري التطهير العرقي بدءا من العراق وصولا الى الحدود التركية في سوريا أي في المكان الذي يفترض أن تقام فيه الدولة الكردية. الولايات المتحدة تساعد الأكراد اليوم لاستعادة مناطق داعش بعد تطهيرها من العرب الستة والمسيحيين والأزيديين وغيرهم بحيث تعلن دولة كردية صافية العرق. وفيما عدا ذلك لا يهم الغرب أن تقوم دولة علوية وغيرها برعاية روسية. المطلوب فقط صمت تركيا على هذا الحل. تركيا لم تقبل فجرت محاولة الإنقلاب على الحكم الإسلامي فيها. تركيا هي التي تعيق إعلان تلك الدولة وتحقيق تقسيم عملي للعراق وسوريا. وأنا أعتقد أنه سيكون هناك حل مرحلي يقيم دولتين فدراليتين في العراق وسوريا وذلك الى حين يصبح الوضع مناسبا لإعلان الإنفصال وإقامة الدول المستقلة الكردية والعلوية وربما غيرها التي تحظى بالإعتراف والعضوية الكاملة في الأمم المتحدة وتسلخ من سوريا ومن العراق كما سلخت من يوغسلافيا العديد من الفدراليات التي كانت تتألف منها..
أين لبنان من كل ذلك؟
نحن في لبنان شهدنا تبدلا في حركة التدخل الخارجي بشؤوننا وتبدلا في التفاعل المحلي معه.فبعد أن كان الإنقسام الطائفي المذهبي المحلي في التعامل مع هذا التدخل من الخارج خلال الحرب الباردة قد أخذ بعدا أيديولوجيا تحول بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط الإتحاد السوفياتي ليأخذ صورة أكثر وضوحا فبرز البعد الطائفي والمذهبي بشكل سافر كامل. ويؤسفني أن جماعات كبيرة من الذين كانوا في مركب الصراع الإيدولوجي تحولوا الى المركب الطائفي وتحول تفاعلهم مع التدخل الخارجي وفقا لهذا التحول الجديد. كما يؤسفني أن البعد الإيديولوجي ما زال يحكم رؤية بعض اللبنانيين مثل تأييد بعض اليساريين لتدخل الإتحاد الروسي في منطقتنا لا لشيء إلا لأنه وريث الإتحاد السوفياتي الشيوعي علما أن الإتحاد الروسي صار لاعبا أساسيا من النظام الإقتصادي الحر وحركة ما كان يسمى الأنظمة الإمبريالية. فالاتحاد الروسي ومثله الصين تنظران الى المذابح الطائفية الجارية في منطقتنا من منظار مصالحها الإقتصادية والداخلية. الإتحاد الروسي وقف الى جانب الصرب في البلقان لأنهم مسيحيون أرثوذوكس وتجاهل واجبه كقوة عظمى ودولة دائمة العضوية في مجلس الأمن للمطالبة بتدخل دولي يفرض وقف تلك الحرب الفظيعة. وتدخل الغرب بعد سنوات من تلك المجازر وبعد أن استكمل اللعبة التقسيمية لفرز المسلمين في دول صغيرة ضعيفة أمكن له تدجينها وتحويلها الى تابع يعمل العنصر الثقافي في تغيير معطاها الديني رويدا رويدا.
ويتم هذا الأمر في منطقتنا لكن هذه المرّة لا يمكن تحميل الأجنبي كامل وزر الخطة التي تتم للشرق الأوسط. فهذه المرّة لم يقم الأجنبي بتقسيم المنطقة وفقا لخريطة رسمها مسبقا كما حصل بعد الحرب العالمية الأولى عندما رسم خريطة سايكس بيكو المشؤومة وقام بتنفيذها.هذه المرّة ترك لنا الاستعمار الغربي “شرف” خلق الكيانات التي نريدها عبر إطلاق ما يسمى الفوضى الخلاّقة. فقمنا بذبح ناسنا وشردناهم واقتلعناهم من بيوتهم وأجرينا الإتفاقيات للتبادل السكاني على أرضنا. نحن قمنا بطعن تاريخنا وتدمير أحلامنا القومية وتقسيم أوطاننا. لا عذر لأحد. كل الذين شاركوا بسفك دماء الناس ساهموا بتحقيق خطة العدو جعلوه يفرح ويمرح ويتفرج. المال المهدور مالنا. والدماء المسفوكة دماؤنا والعار الملتحف عباءة الإرهاب هو عارنا. ونحن في لبنان لا حجة لدينا. ذهبنا الى حروب الآخرين بإرادتنا ووضعنا وطننا في حالة الخطر الداهم وقبلنا أن يصبح ضحية مثل الدول المجاورة من خلاله ربطه بالنتائج المريعة لما يجري حولنا. الذين يتغنون بالمقاومة والصمود او الذين يتغنون بمحاربة الديكتاتورية والسعي الى الديمقراطية وحقوق الإنسان كلهم شاركوا ويشاركون في تحقيق مآرب العدو وأصدقاء العدو. الحرب في سوريا أو في العراق او اي دولة عربية أخرى أخذت المنحى الطائقي والمذهبي البشع. فسقطت كل الشعارات وبرزت الوحشية المرسومة بقراءات مذهبية. فماذا نتوقع في لبنان؟
لبنان سيتأثر ولا شك بهذا الصراع الفوضوي القائم حوله ونحن نعلم ذلك لكن رغم وذلك نسمح أن نظل في حالة الجمود فلماذا؟
لا أحد يجهل أننا نترك انفسنا في حالة الخطر فما سيتأتى من الحروب المجاورة لن يكون لمصلحة اي طرف في لبنان. لا حسم هناك بل تسوية . ومن الواضح أن النتائج الأكيدة من تلك المجريات أن تلك الدول لن تعود كما كانت بل هي ستنتهي في حد أدنى دولا فدرالية أو كونفدرالية أقله في المرحلة الحالية وحتى تنضج ظروف موضوعية أخرى تؤدي بالفدراليات الى الاستقلال وإقامة دول ذات سيادة. وأني اسال نفسي ماذا ينتظر زعماء لبنان؟ لماذا نستمر في هذا الحال من الإنتظار ولماذا لا نتفق على حل يخرج لبنان من مخاطر النار حولنا؟ هل يريد البعض العودة الى تقسيم البلاد أو الى الكونفدرالية؟ لماذا لا نعمل من أجل إقامة شبكة أمان لوطننا تمنحنا حصانة من مجريات الواقع وكذلك من اية نتائج مرتقبة او أية تطورات ستأتي في العقود القادمة؟ لماذا لا نمنع التدخل الأجنبي في بلدنا؟ لماذا لا نذهب الى الحياد؟
هل الحياد حاجة للبنان؟
لقد انزلق لبنان ايضا في حرب دموية مدمرة حصدت مئات الألوف من الضحايا بين قتلى ومشوهين ومعاقين وجرحى. هذا فضلا عن الدمار الكبير الذي لحق ببنيته العمرانية والتحتية. وقد حولت الحرب لبنان إلى بيدق هام على طاولة الشطرنج في الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي. بل انها مهدت لتسليم الإرادة الوطنية إلى أطراف خارجية بحجة المساعدة على وقف الحرب. أطراف لها مصالحها ولها أغراضها في إطار الحرب الباردة ساهمت أيضا بزيادة عوامل التفرقة والإنقسام التي حملت بدون أي لبس، ترددات طائفية مخيفة.
وهذه الحرب لم تكن الحرب الاولى التي يعيشها اللبنانيون ولبنان. فمنذ ولادة الإستقلال كان على لبنان أن يكون جزءا من وقود الحروب الإقليمية والدولية. خاض لبنان حرب عام 1948 في فلسطين وخسر أراض مهمة في جنوبه. ثم دخل حربا أهلية طائفية عام 1958 كانت خلفيتها عربية دولية متصلة بإنضمام لبنان إلى حلف بغداد. ثم تحمل لبنان تبعات المقاومة الفلسطينية منذ نشأتها فتعرض لهجوم إسرائيلي على مطاره دمر أسطول طيرانه المدني، واضطر للسكوت عن التسلح الفلسطيني على أراضيه حتى تحولت المقاومة الفلسطينية إلى دولة ضمن الدولة فرضت أحكامها ومفاهيمها على الحياة العامة، وخلقت إنقساما عاموديا بين اللبنانيين عنوانها أخلاقي وباعثها طائفي بإمتياز. المسلمون إلى جانب المقاومة والمسيحيون إلى جانب لبنان الدولة. فهل نريد العودة الى الحرب مجددا؟
لم تنته هذه الحرب المدمرة التي عشناها بين العامين 1975 و1990 إلا بعد سقوط الحرب الباردة. سقط الوهم الإيديولوجي دوليا وتغيرت المعادلات، فسقط معه الوهم الإيديولوجي في بلدنا وتغيرت المعادلات. أمكن الإعتراف بفشل كلا الجانبين (الحركة الوطنية والجبهة اللبنانية) في تحقيق نموذجه. أسقط المسلمون إلتزامهم بالمقاومة الفلسطينية المسلحة على أرضه وبالسماح لها باستخدام لبنان في حروبها ضد إسرائيل. وأسقط المسيحيون فكرة التقسيم والفدرالية. وقد أدى إنسحاب منظمة التحرير من لبنان إلى سحب الجدل الإيديولوجي القومي المتعلق بفلسطين. توافق الجميع على دعم الحقوق المشروعة للفلسطينيين وفقا للآليات الشرعية الدولية.
وتحوّل الجدل القومي إلى جدل حول الإيديولوجيات المتعلقة بلبنان. لكننا تمكنا بسرعة قياسية عندما تم إلتقاط الجميع للفرصة التاريخية التي سمحت بها لحظة إنهيار الإتحاد السوفياتي وسقوط الحرب الباردة،إلى التوصل إلى إتفاق في الطائف في المملكة العربية السعودية قائم على أساس إنشاء نظام وطني يتفق مع الأنظمة الحديثة لجهة الفصل بين الدين والدولة. وكان من أبرز معالم هذا الاتفاق أنه يقيم مجلس شيوخ يضمن ديموقراطية توافقية بين كل طوائف البلاد من دون إعتبار لمفهوم الأكثرية، وذلك بغية منح الطوائف الضمانات الكافية لمصيرها من خلال مشاركتها في اي قرار يتعلق بمصير البلاد. وأقام من جهة أخرى مجلس تمثيلي نيابي خارج القيد الطائفي، يمنح لبنان سمة ديموقراطية كاملة ويضمن اللعبة الديموقراطية العادية القائمة على أكثرية وأقلية لإدارة النظام السياسي والعام في البلاد.
إلا أن تحقيق هذا الإتفاق لم يكن ممكنا، وكذلك إقامة أي تغيير حقيقي. فقد حوّل التدخل الخارجي جميع الأطراف اللبنانية إلى جنود لخدمة مشاريع وطموحات دول إقليمية وغير إقليمية. عاد استخدام لبنان لإرسال الرسائل الموجهة داخل المنطقة وخارجها. خرج الإنقسام المسلح ودخل الإنقسام السياسي وإستمر العامل الطائفي أداة لتغذية هذا الإنقسام السياسي.
إن عدم تنفيذ إتفاق الطائف كاملا، وإقتصار تنفيذه على إصلاحات دون الأخرى خلق قلقا كبيرا لدى شرائح كبيرة من اللبنانيين.لم يتم إنشاء مجلس للشيوخ، ولم يتم إقامة مجلس نيابي خارج القيد الطائفي،وتم تركيز السلطة التنفيذية بايدي مجلس وزراء قائم على أساس طائفي يرأسه ويديره رئيس مسلم من الطائفة السنية ولا يحكمه نظام توافق الزامي لإصدار قراراته. وفي المقابل تم تقييد دور رئيس الجمهورية وهو من الطائفة المارونية، وتضاعف دور رئيس السلطة التشريعية الذي هو من الطائفة الشيعية. كل ذلك جعل المسيحيين (وكذلك الدروز)في لبنان، يشعرون بالغبن والخوف. وقد أضاف طرح إلغاء الطائفية السياسية من دون إقامة نظام علماني خوفا أكبر لدى هؤلاء. فإلغاء الطائفية السياسية من دون إفساح المجال أمام إقامة نظام مدني علماني ولو خياري، أمر يعزز دور الطوائف ذات الأرقام العددية الأكبر ويبقي المشاعر الطائفية متوقدة.
لم تظهر خطورة هذه الثغرات التي أشرت اليها،في السنوات الأولى بعد الطائف بالنظر لوجود حالة من التوافق السياسي بين غالبية الأطراف السياسية المحلية والإقليمية والدولية المؤثرة في لبنان تحت مظلة الوصاية السورية. لكن هذا التوافق سقط بعد العام 2000 إثر الإنسحاب الإسرائيلي من الأراضي التي إحتلتها إسرائيل منذ العام 1978 وبرزت الخلافات مجددا. وقد كشف سقوط هذا التوافق عمق تأثير التدخل الخارجي في البلاد.
كل هذه الوقائع أوقفت مسيرة التحول في النظام اللبناني واسقطت سريعا المظهرالتوافقي الديموقراطي في مجلس الوزراء وفرضت واقعا إنقساميا جديدا ومهدت للحالة المأساوية التي نعيشها اليوم والتي تضعنا مرة أخرى على شفير حرب أهلية لن يكون هناك من مفر منها الا بتقسيم البلاد.وإني إذ اشير إلى التقسيم فلأنه المظهر الطاغي اليوم على الساحة الإقليمية. وقد يصبح أمرا واقعا فعلا إذا تحقق تقسيم سوريا.إن مجريات الأمور وتوجهاتها تفرض علينا أن نعمد بسرعة إلى إقامة توافق داخلي يعتمد الحياد كسياسة خارجية للبنان، وعلى إعتماد ديموقراطية التوافق في مجلس الوزراء،إلى حين إستكمال الإصلاحات التي تقررت في الطائف كمرحلة اولى، وصولا فيما بعد إلى نظام مدني يبعد الدين كليا عن الدولة ويسمح بممارسة تمثيلية ديموقراطية يعتمد فيها العدد القائم على برامج الاحزاب وليس على أساس الانتماء للطوائف.
نعم يمر لبنان بمحطة تاريخية مفصلية ومصيرية. ففي هذه المرحلة يتم إنجاز خريطة الشرق الأوسط الجديد. نراها تحصل أمام أعيننا ونقبل ان نظل متفرجين بل نحن ننغمس حتى الثمالة بالمراهنة والمقامرة بمصير وطننا.
نحن في لبنان عانينا طويلا من مثل هذه الحرب. رفعت شعارات ايديلوجية في حينه ورفعت شعارات مضادة ايديولوجية ايضا ولكن العامل الأبرز الذي طغى على تلك الحرب كان العامل الطائفي والمذهبي المقيت. نفهم طبعا أن هذا العامل استغل لأغراض سياسية لكنه العامل الذي طغى على سير الحرب فيه فماذا ننتظر اذا ما وصلت الشرارة الى بلدنا؟ لن يكون هناك اي مهرب من حرب مذهبية طائفية أخرى.
ما يدهشني أن يخرج الزعماء ليقولوا أنه لا يمكن لأحد أن يحسم أي نزاع في لبنان لمصلحته. ويقبلون مسبقا بالتفاوض لإيجاد التسويات المقبولة ورغم ذلك يستمرون في لغة الحرب والمقامرة بالبلاد. كلنا ندرك أن الجمر ما زال تحت الرماد ويمكن لأية لفحة دولية أن تشعله من جديد ورغم ذلك نستمر بالاستهتار والمبالاة. أي روح وطنية هذه؟ أنا لا أرى في هذا الموقف إلا موافقة مسبقة على تقسيم لبنان أو فدرلته. هل هذا ما نريد؟
نحن في لبنان عانينا الحرب الأهلية ودفعنا ثمنا باهضا جدا لها. ولم تتوقف تلك الحرب إلا عند لحظة تاريخية تبعت سقوط الإتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة فسقطت نلك الحرب التي أمسك الآخرون من خلالها، بأعناقنا وجعلونا كبش فداء لصراعاتهم. فأي ذكاء هذا وأي حس وطني يسود زعمائنا فيسمحون بفقدان تلك اللحظة التاريخية ونعود بإرادتنا الى لعبة الدول التي لا نعرف كم ستستمر وكم ستاخذ من ضحايا في طريقها؟
الحياد في القانون الدولي:
لم تتبلور فكرة الحياد بمضمون قانوني واضح إلا في أوائل القرن العشرين مع توقيع إتفاقية لاهاي لعام 1907. أما قبل ذلك فقد إختلف تعاطي الدول مع موضوع الحياد وفقا لإتفاقيات فيما بينها. وكانت الدول غير المتحاربة في القرون الوسطى، تمد إحدى الدول المتحاربة بالمساعدة من خلال تزويدها بقوات مسلحة أو مراكب أو أموال أو ذخائر. ولم تتوقف هذه الممارسة إلا بموجب إتفاقيات بين هذه الدول تنص على إمتناع الدول المتعاقدة عن مساعدة خصم عسكري لطرف في الإتفاقية. وأدى تكرار هذا الحكم في الإتفاقيات ما بين الدول إلى بروز عرف أوجب على الدول المحايدة الإمتناع عن مساعدة الدول المتحاربة خلال حالة الحرب.
وقد عالج فقهاء القرن السابع عشر مبادئ الحياد لكن بطريقة مقتضبة. وبرز لديهم نقاش حول مبدأين هما مبدأ الإمتناع الذي أشرنا اليه ومبدأ عدم الإنحياز. فإعتبر بعضهم أن على الدولة غير المشتركة في الحرب واجب الإمتناع فقط عن مساعدة الفريق الذي تعتبر حربه غير عادلة وأن لا تعرقل عمل الفريق الذي تعتبر حربه عادلة. وإذا كان من غير الواضح لها أي من الفريقين حربه عادلة فعندها يجب عليها عدم الإنحياز لأي منهما. ورأى آخرون انه ليس من حق الدول غير المتحاربة أن تبحث في مبدأ عدالة أو عدم عدالة حرب هذا او ذاك من الأطراف بل أن تكون صديقة للطرفين لا حكما بينهما. وأقر الفقه في القرن الثامن عشر موجب الدول المحايدة عدم التحيز لأي من أطراف الحرب مقابل موجب إحترام الأطراف المتحاربه لأقاليم الدول المحايدة.
ويستشهد فقهاء تثبيت مبادى الحياد بمواقف الولايات المتحدة خلال الحرب البريطانية الفرنسية عام 1793،حيث أمرت بمنع أي تصرف يمكن أن يؤدي إلى تجييش مواطنيها في الحرب الدائرة او إستخدام إقليمها للقرصنة على بواخر أحد الأطراف. وهي إعتبرت أن من واجب الدولة المحايدة أن تمنع أي عمل ضار بإحدى الدول المتحاربة يتم من إقليمها.
وهنا برز مبدأ موجب منع الدول المتحاربة من القيام بأعمال على إقليم الدولة المحايدة يضر بالطرف الآخر في الحرب.وسنت الولايات المتحدة تشريعا خاصا بالحياد عام 1818، وحذت انكلترا حذوها بقانون صادر عام 1819. لكن هذه التوجهات الفردية للدول تحولت إلى إتفاقيات دولية بدءا من الإتفاق الخاص بتجارة المحايدين في البحار لعام 1856،ثم بتدوين عام 1907 لقواعد الحياد في الإتفاقيات المعتمدة في مؤتمر لاهاي لذلك العام. ولقد تضمنت تلك الإتفاقيات إتفاقيتين لهذا الغرض هما: الإتفاقية الخامسة التي تنظم حقوق وموجبات المحايدين في الحرب البرية، والإتفاقية الثالثة عشر التي تنظم الحقوق والواجبات للدول المحايدة في الحرب البحرية.
والحياد حالة قانونية لدولة لا تشارك في حرب. وفي هذا الإطار علينا أن نفهم أن الدول المتحاربة التي تسعى لربح الحرب ستنظر بكثير من الإنتباه إلى كيفية تعامل الدول المحايدة مع مصالح الطرف المعادي. وعليه تؤكد آراء الفقهاء أن على الدول المحايدة أن تمنع إستخدام أراضيها خلال الحرب،فإذا دخلت قوة محاربة أراضيها وجب عليها إحتجازها ونزع سلاحها حتى تنتهي الحرب، كما يجب عليها إحتجاز السفن التي تدخل إلى مرافئها إذا بقيت فيها اكثر من 24 ساعة.وفي المقابل يحق للدول المتحاربة تفتيش سفن الدول المحايدة للتأكد من أنها لا تحمل مواد حربية للعدو.
والحياد إجراء سيادي طوعي لا يمكن أن يفرض على الدول إلزاما. إذ يجب أن يقوم الحياد إستنادا إلى قناعة وطنية ذاتية وطوعية. أنه الخيار الأفضل لحماية أمن البلاد واستقلالها ووحدتها وسيادتها وطموحاتها المشروعة للتقدم والإزدهار.
أما الدول التي إعتمدت الحياد فهي سويسرا التي أصبحت في سلام مع العالم منذ العام 1815 بعد الإعتراف الدولي بحيادها الذي كانت إعتمدته طوعيا منذ عام 1515 ورفضت على ضوئه الدخول في أية تحالفات سياسية تضر بهذا الحياد. وهناك أيضا السويد التي أصبحت محايدة منذ القرن التاسع عشر، والنمسا التي أصبحت دولة محايدة بعد إتفاق الحلفاء الأربعة (الولايات المتحدة، الإتحاد السوفياتي بريطانيا وفرنسا) على حيادها عام 1955، وإيرلندا التي اكدت حيادها مع تحولها دولة حرة عام 1948، وفنلندا التي وقعت على إتفاق بهذا الصدد مع الإتحاد السوفياتي عام 1948.
هل الحياد حاجة للبنان؟
قال لي أحد سفراء سويسرا أن سويسرا عانت قبل إعلان حيادها ما يعانيه لبنان اليوم. فقد إنزلق السويسريون إلى حروب في خدمة الآخرين. ودفعوا ثمنا غاليا من دماء أبنائهم ومن إقتصاد وطنهم لهذا السبب. هاجر الكثيرون من السويسريين إلى الخارج وإحتل الغرباء الأراضي السويسرية. لكن بعد إتفاق السكان على تحييد بلادهم وإعتماد الحياد مبدأ ملزما لهم في علاقاتهم الدولية (اي منذ 1516) إنعكس المسار ولم تشهد سويسرا أي حرب جديدة. وعاد المهاجرون وإزدهرت البلاد وأضحت مركزا للأنشطة الدولية والإتفاقيات الإنسانية الهادفة لخدمة الإنسان أينما كان وخاصة خلال الحروب. من يذهب إلى سويسرا اليوم يمكنه أن يلحظ فورا هذا المستوى غير المسبوق من التقدم العلمي والإجتماعي والإقتصادي والرفاه والإستقرار القائم فيها.
ألا يمكن للبنان أن يتبع هذا النموذج؟ بالطبع يمكن لنا أن نتبع هذا النموذج. بل أنه عرض علينا فعليا أن نقيم هذا النموذج وذلك عندما إتفق الرئيسان جورج بوش الإبن ونيقولا ساركوزي في إجتماعهما في واشنطن عام 2007 على تحييد لبنان. لقد رأت الدول الكبرى أن لبنان يمكن أن يكون أكثر إفادة للديموقراطية ونظام التعايش بين الحضارات والثقافات المختلفة في عالم العولمة السائد في عصرنا اليوم أكثر منه بلدا ممزقا ومنهكا تتصارعه الدول وتغذي من خلاله روح الكراهية والحقد والتوجه العنفي الأمر الذي يقيم بيئة حاضنة للإرهاب. لقد كان واضحا للغرب أي خسارة حصلت للثقافة الغربية وللنظم الديموقراطية بعد الحرب التي سمح بها في لبنان. فقد كان لبنان جسرا للثقافة الغربية التي يربطها بالثقافة الشرقية الإسلامية. كان وطنا أقيمت على أرضه جامعات غربية إستقطبت مئات القيادات الإسلامية. وعادت هذه القيادات لقيادة أوطانها بروح من الإنفتاح نحو الغرب. وكان بلدا منفتحا إحتضن أرقى مظاهر الرفاه في الغرب فعاشها المصطاف العربي وتمتع بها فصارت شبه حاجة له. كل ذلك في أجواء من المحبة والإحترام وكرم الضيافة. وعندما سقط لبنان في فخ الحرب التقسيمية والتدميرية التي أرادتها له إسرائيل وأصدقائها، خسر الغرب هذه الخدمة الإنسانية الفريدة لوطن الأرز. ذهب المسلمون إلى الدول الغربية لكنهم واجهوا هناك الكراهية والتمييز والإحتقار فعاد العديد منهم بما في ذلك خريجو الجامعات، ليكونوا رسل كراهية للغرب وجنودا لصناعة الإرهاب والحقد الموجه بشكل خاص نحو الثقافة الغربية.
كان من المفترض أن ياتينا رئيس سويسرا للإصطياف في بلدنا عام 2008. كما جاءنا العديد من الخبراء في موضوع الحياد وذهب 35 دبلوماسيا لبنانيا إلى سويسرا لهذا الغرض. بل وأننا توصلنا في ما يسمى بطاولة الحوار الوطني برئاسة الرئيس العماد ميشال سليمان،إلى إعلان بعبدا التاريخي الذي يعتمد تحييد لبنان فعلا عن الصراعات الإقليمية والمحاور الدولية. لكننا أسقطنا هذا العرض، ودائما بالطبع لخدمة توجهات لها صلة بقضايا خارجية. فسمح سقوط هذا التوجه الى إندفاعة كان يمكن أن تنتهي إلى تقسيم لبنان لو أمكن تحقيق التقسيم في الدول المجاورة. بل يمكنني أن أضيف أن هذا الخطر ما زال قائما حتى ينتفي التقسيم كليا من مستقبل تلك الدول.
من المؤسف أننا لم نتعلم بعد من أحداث الربع الأخير من القرن الماضي. فالمقاومة الفلسطينية إعتقدت أن بسلاحها وجنودها يمكن لها أن تغلب إسرائيل والغرب ونسيت أن قوتها الحقيقية هي تلاحم الإنسان اللبناني معها وأنه عندما تخسر هذا الإنسان تخسر قوتها الحقيقية، فإنتهى بها المطاف مطرودة ومشردة في ديار العالم. ولم تستعد المبادرة إلا عندما عادت إلى الشرعية الدولية. كل ذلك بعد تدمير لبنان واحتلال بيروت. لماذا نعيد التجربة مجددا؟ إختلاف القوى المعنية والشعارات لا يغير في القاعدة شيئا. لا يمكن لأي طرف في لبنان أن يفرض شروطه والإصرار على ذلك يعني أمرا واحدا من إثنين: الحرب الأهلية أو التقسيم. هل هذا ما نريده لوطننا؟
لقد أعلن سماحة السيد حسن نصرالله إسقاط فكرة الدولة الإسلامية مشددا على هوية لبنان التعددية. وهو قال أنه إذا امتلك الثلث الضامن وأراد الإنحياز بلبنان لمصلحة الوصاية السورية-الإيرانية حالت اكثرية الطرف الآخر دون ذلك. واذا اراد الطرف الآخر الجنوح نحو لبنان الوصاية الاميركية- الفرنسية وقف مع حلفائه عائقا دون ذلك. عدنا بكل بساطة إلى منطق التسوية التي وضعها رجال الإستقلال عام 1943: لا شرق ولا غرب، لبنان ليس ممرا ولا مقرا لأي جهة ضد جهة أخرى.
نحن الآن وبعد كل ما جرى ويجري في منطقتنا، أمام خيارين لا ثالث لهما: الحرب مع كل ما يمكن ان تؤدي إليه سواء لعدد القتلى ومستوى الدمار والتهجير الذي سيقع وما قد تفرضه من تغييرات ديموغرافية، أوالعودة إلى منطق المصلحة الوطنية العليا من خلال تحييد بلدنا وإقامة إصلاحات تتفق مع هذا التوجه.
ويصبح الحياد حاجة ضرورية وطنيا بل وأخلاقيا إذا فهمنا أن الحياد لا يعني التخلي عن سلاحنا وحقنا بالمقاومة أو التصدي المسلح عند الحاجة للدفاع عن بلدنا ومنع إستخدامه ممرا لأحد في حروبه. كما أن الحياد لا يعني إسقاط إلتزامنا بميثاق جامعة الدول العربية أو ميثاق الأمم المتحدة.
هل يؤدي الحياد الى خروج لبنان من التزاماته العربية والدولية؟
من المفهوم أن الحياد هو أحد المفاهيم المعقدة في القانون الدولي العام.وقد حددت إتفاقيات لاهاي لعام 1907 نصوصا تحدد الحقوق والإلتزامات للدول المحايدة. وينص أحد بنود تلك الإتفاقية على أنه لا يحق لدولة محايدة المشاركة المباشرة في نزاع مسلح أو مساعدة أحد الأطراف في النزاع من خلال تزويده بالرجال والسلاح. كما يعتبر مبدأ عدم التعدي على أراضي الدول المحايدة حقا من حقوقها. ولكن من حق الدول المحايدة بالطبع، بل من واجبها، حماية سلامة أراضيها والإستعداد للدفاع عنها. ومن هذا المنطلق لا يعتبر الدستور الفدرالي السويسري الحياد غاية في حد ذاته بل أحد الوسائل الهادفة إلى حماية إستقلال البلاد. ومن هذا المنطلق، يدعو الدستور الحكومة والبرلمان الفدرالي بغرفتيه إلى حماية مبدأ الحياد وإحترامه مثلما يدعوهما أيضا إلى حماية الأمن الخارجي للبلاد وإستقلالها وخياراتها. ومع بداية الحرب العالمية الثانية أرسلت سويسرا فرقا من جنودها لحراسة حدودها تأكيدا على حيادها.
وفي الواقع يشرح زميلنا السفير الراحل سمير حبيقة سفير لبنان الأسبق في سويسرا في كتابه “الديموقراطية التوافقية وحياد لبنان”كيف أن سويسرا تحتل في سلم التسلح النسبي المرتبة الثانية في العالم بعد إسرائيل.فليس لسويسرا جيش بل هي الجيش والعسكر وجميع مواطنيها جنود. ولقد بلغ عدد المواطنين الأنفار فيها اكثر من ستمئة الف جندي. وهي البلد الوحيد الذي يوزع السلاح على مواطنيه ويعتمد نظام الميليشيا المسلحة في منظومته الدفاعية الشاملة.
وقد إرتبط مفهوم الحياد بعد الحرب العالمية الثانية بمفهوم التضامن الدولي. وقدمت سويسرا للعالم أنظمة نموذجية مثل الصليب الأحمر الدولي، ومبادئ جنيف لحماية المدنيين خلال الحروب وفي حالات الإحتلال العسكري من دولة أجنبية، وغيرها من أنظمة القانون الدولي الإنساني. كما أن سويسرا ساهمت بإرسال قوات لمراقبة وقف النار بين الكوريتين إبتداء من العام 1953. وقامت سويسرا بعد نهاية الحرب الباردة بالتأكيد على التعاون مع حلف الاطلسي لكن في إطار الشراكة من أجل السلام وشرط عدم الإنضمام بأي حال إلى عمليات عسكرية أو المشاركة عسكريا في حال وقوع نزاع. ولم تعد ترى سويسرا مشكلة في الإنضمام إلى الإتحاد الأروربي ما دام لا يلزم أعضاءه بالتعاون العسكري المتبادل. واختارت سويسرا مجاراة الأمم المتحدة في مواقفها إزاء بعض النزاعات الدولية الخطيرة كالنزاع الذي وقع في يوغسلافيا السابقة والعراق. وعليه لم تسمح لأية طائرة عسكرية بإختراق مجالها الجوي للقيام بضربات عسكرية ضد يوغسلافيا غير مقررة أصوليا في الأمم المتحدة. وإكتفت بتقديم الخدمات الانسانية. أما في حالة العراق فقد إلتزمت العقوبات الاقتصادية عليه سنة 1991.
ولعبت سويسرا دورا فاعلا لدفع أنشطة السلام في العالم، فساعدت الأطراف على التفاوض المباشر للتوصل إلى حلول سلمية. وإني أذكر كيف إستضافت سويسرا عام 1991 لقاء وزيري خارجية الولايات المتحدة جايمس بايكر والعراق طارق عزيز قبل إعلان الحرب على العراق بغية السماح بمحاولة الفرصة الاخيرة لمنع قيام هذه الحرب. ومنذ 1999 أصبح معهد هنري دونان (إسم السويسري الذي أطلق الصليب الاحمر الدولي) مركزا للحوار المتخصص في المجال الإنساني والمساعي الحميدة. ونجح خبراء هذا المركز في تحقيق وقف لإطلاق النار بين أندونيسيا ومتمردي وست إيريان عام 2002، وفي التوصل إلى إتفاق دارفور سنة 2004. كما تستضيف جنيف ايضا تحالفا دوليا من أجل بناء السلام الهادف لمساعدة الدول التي مزقتها الحروب على إعادة بناء مجتمعاتها، وينفذ هذا التحالف برامج للمصالحة بين الأطراف المتنازعة في مناطق الصراعات السابقة مثل راوندا والصومال والموزمبيق وبعض دول أميركا اللاتينية.
ولبنان هو أحد مؤسسي الأمم المتحدة لكنه لا يساهم بأي عمل عسكري تقوم به هذه الهيئة الدولية رغم أنه يلتزم قراراتها. وقد إلتزم لبنان عقوبات الأمم المتحدة ضد العراق مثل كل دول المجتمع الدولي، لكنه لم يشارك في أية أعمال حربية ولم يسمح بإستخدام أراضيه منطلقا لأية حرب ضد دول أخرى. كما أن الأمم المتحدة لم تسع ليكون لبنان جزءا من الأعمال القتالية التي تقوم بها وإنما سعت للإستفادة من مميزاته كجسر بين الحضارات والثقافات كي يكون مركز حوار ومركز خدمات انسانية.
إن حياد لبنان اليوم يمكن أن يحوله إلى مقر دائم للأمم المتحدة لحوار الحضارات. وسيتيح إقامة المركز الدولي الدائم لحوار الحضارات على أراضيه في المساعدة في تسوية المشاكل الدولية والنزاعات ذات الطابع الحضاري. ويمكن للبنان، الذي وصفه قداسة البابا الراحل القديس يوحنا بولس الثاني بأنه أكثر من دولة وأنه رسالة بين الشعوب، أن يتحول إلى مركز للحوار الدائم بين كافة الحضارات الإنسانية.
كما يمكن للبنان أن يظل عضوا في جامعة الدول العربية لكن من دون أن يشارك بأعمال عسكرية. وقد رأينا أن معاهدة الدفاع المشترك الموقعة في إطار جامعة الدول العربية، وتلك الموقعة مع سوريا، ظلتا حبرا على ورق ومن دون اي تنفيذ لهما.وثمة إلتزام للبنان لا يمكنه الخروج منه ألا وهو إتفاق الهدنة لعام 1949، وهو الإتفاق الوحيد الذي مازال ساري المفعول بإرادة لبنانية وأممية، وذلك رغم معاندة إسرائيل التي حاولت مرارا إستغلال بعض الظروف والأحداث لإعتباره ملغى. لقد أكدت الأمم المتحدة على سريان هذه المعاهدة، وشددت على ضرورة إلتزام لبنان وإسرائيل بها. كما جاء القرار 1701 لعام 2006 ليضيف موجبا آخر على لبنان وكل دول المنطقة. وتلعب قوات الطوارئ الدولية، التي احتفلت في شهر آذار المنصرم بمرور تسع وثلاثين سنة على إنشائها،بدور الضامن والمراقب لهذا الواقع.
هذا بالإضافة إلى أن ميثاق الجامعة،الذي ينص على أن لبنان عضو كامل العضوية، يقر له بخصوصيات معينة يجب إحترامها. ولعل هذا الإقرار يتصل حتما بالنظام الحضاري التعددي في لبنان وموجب إحترام هذه التعددية. لقد ثبت دائما أن عدم إحترام هذه التعددية أدى إلى حروب داخلية تركت ندوبا في العلاقات العربية العربية وكلفت الدول العربية مئات ملايين الدولارات في برامج إعادة الإعمار والإصلاح.وعليه فإنه يمكن لنا أن نستمر أعضاء في الجامعة من دون المساس بمبادئ الحياد.
وإني أتفق مع الخلاصة التي توصل اليها الزميل الراحل السفير حبيقة من أن الحياد السويسري لم يتبلور في يوم من الأيام بإنعزال سويسرا عن محيطها الطبيعي، ولا بإنسلاخها عن حقيقتها الجغرافية، ولا بتنكرها لتاريخها الأوروبي. بل على العكس من ذلك، بقيت طوال الحرب الباردة متجذرة في أوروبا الغربية وجزءا لا يتجزأ من العالم الحر، ووقفت سدا منيعا في وجه الشيوعية الداهمة، وجيشت من أجل ذلك واحدا من اقوى الجيوش عددا وعتادا في العالم. وكذلك فإن حياد لبنان لا يعني بأي شكل من الأشكال انعزالا عن العالم العربي، ولا تنكرا للقضايا القومية، ولا حيادا تجاه اسرائيل، بل بالعكس من ذلك سيظل لبنان بفضل جيشه القوي ودولته القادرة والعادلة والمتوازنة السد المنيع في وجه الخطر الإسرائيلي على إرضه، حاميا ذاته وبالطبع جيرانه الذي سيكونون متضررين من مثل هذه المخاطر الإسرائيلية.
وحياد لبنان إذا تحقق سيكون خيارا إراديا لا يمليه أحد علينا. وسيكون مظهرا من مظاهر السيادة تماما كما يقول كرايسكي عن الحياد النمساوي.هو حياد نابع من الداخل وفقا للقواعد الديموقراطية التي تنبثق عن إرادة شعبية جامعة. الحياد هنا غايته ضمان السلام للشعب اللبناني وإبعاد ويلات الحرب عنه وتأمين إزدهاره وبحبوحته وعيشه الآمن الرغيد.
ولم يكن ممكنا للنمسا أن تحظى بحيادها إلا نتيجة توافق الحلفاء الأربع الذين كانوا يحتلون أراضيها بعد الحرب العالمية الثانية. لذلك فإن علينا أن نسعى أن تقوم الدول الاسلامية الأساسية وخاصة المملكة العربية السعودية وإيران وتركيا بتأكيد دعمها حياد لبنان وتحويله ساحة للحوار والتلاقي بين الشعوب والحضارات، والمنبر الإعلامي لرسالة الاسلام السمحاء. إن مثل هذا الإعتراف سيشجع سوريا على إعتراف مماثل يمنع أن يكون لبنان مقرا او ممرا لأي عمل عدائي ضدها. لقد كتبت مقالة في اوائل الثمانينات من القرن الماضي أدعو فيها الى حياد لبنان الايجابي نشرتها مجلة المجلة السعودية مع إفتتاحية لها تدعو الزعماء العرب لمناقشة الفكرة. وجاءت مقالتي في حينه تعقيبا على موقف لوزير الدولة المصري للشؤون الخارجية الدكتور بطرس غالي الذي أعلن فيه تأييد بلاده لحياد لبنان. كما أن الأمير طلال بن عبد العزيز صرح مناديا العرب بان أعلنوا حياد لبنان الإيجابي واتركوه صورة حضارية امام المجتمع الدولي.
شرحت في مقالتي الصادرة في مجلة المجلة عام 1982 كيف أن على الدولة المحايدة موجب منع إنتهاك أراضيها، فإذا حاولت وحدات عسكرية لأي طرف محارب أن تتسلل عبر أراضيها فإن من واجبها أن تمنعها وأن تمنع تحليق طيران أحد الأطراف فوق أراضيها بهدف القيام بمهمات عسكرية ضد اراضي الطرف الآخر.
يقول السفير حبيقة، وأنا أوافقه الرأي،أن المسيرة التاريخية للدول المحايدة ولاسيما سويسرا والنمسا وفنلندا والسويد أكدت ما يمكن أن تؤدي إليه سياسة الحياد من سلام وبحبوحة ونفع عميم. وتعلمنا المسيرة التاريخية لهذه الدول أن الدولة المحايدة لا تشهد صاغرة ما يمكن أن يلحق بمحيطها من ظلم وأذى. لا بل أن حيادها انما هو حياد أخلاقي ينصر الحق على الظلم ويقيم للقيم الانسانية وزنها. فكما أن الحياد لم يمنع سويسرا من فتح أبوابها للجوء المضطهدين ما وراء الستارين النازي والحديدي اليها، وكما أن الحياد لم يحل دون استقبال النمسا للهاربين من ربيع براغ أو أن تمد السويد يد المساعدة اللوجستية لفنلندا عندما هددها الاتحاد السوفياتي بالاجتياح عام 1939، كذلك فإن الحياد لا يحول دون أن يتضامن لبنان مع أشقائه العرب محاميا عن القضية الفلسطينية العادلة ومناصرا للشعوب العربية في قضاياها المحقة.
ما هي الفوائد الاقتصادية للحياد؟
يتمتع لبنان بقيم إقتصادية مضافة مهمة وفريدة. فلبنان بلد إعتمد نظاما اقتصاديا ليبراليا ونظاما سياسيا ديموقراطيا منذ إعلان إستقلاله. وهو بالتالي دولة تتمتع بالعناصر الرئيسة الضرورية للإنخراط الناجح في العولمة القائمة على النظام الليبرالي. وقد كوّن لبنان تجربة غنية جدا في علاقاته التجارية الدولية لاسيما وأنه كان مقر الشركات المتعددة الجنسية لسنوات طويلة ويملك دورا هاما في تحريك العلاقات التجارية في الدول العربية. ويملك لبنان نظاما مصرفيا مستقرا له مصداقية دولية كبيرة وعلاقات راسخة مع النظام المالي الدولي. وبإختصار فإن القطاع الخاص اللبناني الذي هو شريك رئيسي بل هو المحرك الفعلي للإقتصاد الوطني،يمكن أن يلعب دورا ناشطا يعيد لبنان سريعا إلى مركزه التاريخي كركيزة إقتصادية ومالية للمنطقة، ويمنحه المرونة الكافية التي تسمح له بالتفاعل السريع مع التحولات في النظام الإقتصادي الدولي.
ويتمتع لبنان بميزة طبيعية إستثنائية فهو الدولة الوحيدة في المنطقة الذي لا يوجد فيه صحراء وتكثر فيه الجبال والمياه العذبة. وهو بلد فريد من نوعه حيث يمكنك التزلج في أعالي الجبال والإستحمام في البحر خلال اليوم ذاته. ويجمع لبنان بين الطبيعة الغنية السخية والتاريخ الفريد الذي يمتد لأكثر من خمسة الآف سنة.واية حالة من الإستقرار السياسي والأمني فيه سيجعله من أكثر الدول إستقطابا للسياحة العالمية.
كما أن لبنان بلد غني جدا بالموارد الإنسانية إذ لديه نسبة عالية جدا من اليد الخبيرة والكفاءات المهنية العالية. ولديه ثروة لا تخفى أعتبرها أكثر أهمية من ثروة البترول والغاز هي الإغتراب اللبناني. وإني أتوقع أن يطلق حياد لبنان وإستقراره حركة هجرة معاكسة للمغتربين أو إقامة إستثمارات كبيرة فيه تجعله فعليا سويسرا الشرق.
ولا شك أن لبنان سيتحول إلى ركيزة هامة جدا في أنشطة الملكية الفكرية لا سيما في ما يتعلق بصناعة السينما والموسيقى وكافة الفنون. وسيتحول إلى قاعدة عمل لشركات التكنولوجيا، علما أن الحياد لا يلزم الدولة المحايدة التعامل الإقتصادي مع جميع دول العالم وله أن يختار من يشاء في تعامله الإقتصادي.
الخلاصة العامة:
لم يعد خافيا على أحد أن مشاكل لبنان نجمت بشكل رئيسي عن التدخل الخارجي في شؤونه الداخلية ومحاولة إستغلال مكامن الضعف في بنيته الإجتماعية وهيكله السياسي. وقد سعى خصوم لبنان إلى إستغلال النزاعات الطائفية فيه للإنقضاض على أهداف كثيرة من المقومات التي جعلت منه إحدى دول المنطقة الأكثر إستقطابا للنشاط الإقتصادي والسياحي والإنساني والأكاديمي والرياضي وغيرها قبل العام 1975. لكن إرادة الحياة لدى سكانه وقوة إيمانهم بلبنان أفشلت وستفشل مثل هذه المحاولات وسيعود لبنان قبلة الشرق.
يقول السفير حبيقة أن معركة مارينيان لعام 1515 التي خاض غمارها السويسريون في إيطاليا لحساب الجيش البابوي ضد فرنسا وخسروا فيها أربعة عشر ألف قتيل في مواجهة ضارية مع عسكر فرنسوا الأول، هي التي شكلت لهم عبرة ولقنتهم درسا ودفعتهم إلى إعتزال القتال كمرتزقة لحساب هذه الدولة او تلك، وإلتزام صيغة الحياد ما بين المتحاربين سبيلا وحيدا إلى النجاة بأنفسهم وصيانة إستقلالهم والمحافظة على سلامة أراضيهم ووحدة وطنهم. ترى ألا تشكل لنا هذه الحروب المتعددة التي قاتلنا خلالها لمصلحة هذا الطرف أوذاك ودفعنا فيها مئات ألوف الضحايا درسا كافيا لإعتماد مثل هذه السياسة وإنتهاج مثل هذه الصيغة؟
لبنان بلد متعدد الطوائف والمذاهب. وقد طغى على ثقافتنا الوطنية منذ بداية تبلور لبنان ككيان سياسي مستقل، مبدأ العيش المشترك. ثمة عقد بيننا مبني على مفهوم العيش المشترك. وتم بلورة هذا العقد وهذه الثقافة من خلال نظام سياسي وإداري يضمن استمرارية العقد. وعليه فإن اي خروج عن العقد سيؤدي الى مشكلة ولن يمكن تغيير مضمون العقد إلا اذا غيرنا في ثقافتنا الوطنية أي من ثقافة المشاركة الى ثقافة المواطنة. وتغيير مثل هذه الثقافة من أجل بناء ثقافة مواطنة جديدة لا يقوم فورا بل هو بحاجة الى وقت.
معلوم أننا بحاجة لمرحلة قد تكون قصيرة أو قد تكون طويلة لإقامة ثقافة جديدة يمارس فيها المواطن الفصل بين الدين والدولة بقناعة مستندة الى ثقة بأن النظام السياسي يضمن حرية العبادة ويمنح في آن معا حقوق المواطنة الكاملة. والحياد هنا يضمن لكل الأقليات التطور بحرية ضمن نظام المواطنة. فالحياد سيمنح اللبنانيين الوقت الكافي لإقامة ثقافة المواطنة. ونحن ندعو في مرحلة أولى الى تطبيق المادة 95 من الدستور بشأن التوزيع الطائفي في الإدارات فهذه المادة تلغي أي توزيع طائفي في الإدارات دون الفئة الأولى. كما يمكن تشكيل اللجنة الوطنية المعنية بالغاء الطائفية السياسية ليس بهدف تعديل أحكام الدستور التي أقرها اتفاق الطائف بل لإيجاد الوسائل التي تكفل مشاركة كاملة للمواطن في عملية صنع القرار في البلاد تبدأ من السلطات المحلية. ومن هنا فإننا نرى حاجة لتطبيق اللامركزية الإدارية وتعزيز دور السلطات المحلية مما يشكل ضمانا لكل الأقليات بتنمية متوازنة وباستفادة متوازنة من المواطنة. ولا نجد ضيرا في أن يفسر البعض التوسع باللامركزية الإدارية كشكل من أشكال الفدرالية فالفدراليات ليست حالات تقسيمية بل حالات تنظيمية لا تبعث على القلق اذا جاءت في نظام سياسي مدني يزيل خوف الأقلية من الذوبان تحت عنوان الديموقراطية العددية ويمنح المجتمع ما يكفي من الوقت لصياغة تجربة تكرس ثقافة المشاركة الوطنية في وضع القرارات وتحول العمل السياسي من تحرك ضمن المجموعات الطائفية الى تحرك ضمن المجموعات الحزبية ذات البرامج الوطنية الجامعة. تجربة 14 آذار و 8 آذار كان يمكن أن يحققا هذا الإنتقال بالبلاد الى النظام الحزبي القائم على برامج وطنية لولا إصرار البعض على البقاء ضمن اللعبة الإقليمية الدولية.
سيعيد الحياد لبنان الى دوره الطبيعي إقليميا ودوليا. وإني على ثقة أن هذا العامل سيحقق الإعتراف سريعا للبنان يالحياد. سيعود لبنان الجسر بين الثقافة المسيحية الغربية والثقافة الإسلامية الشرقية. وهذا الوطن سيتحول الى ملتقى لعشرات المنظمات الحكومية الدولية والمنظمات الدولية غير الحكومية الهادفة الى تعزيز قواعد القانون الدولي والمشاركة في صناعة القرارات الدولية المعنية برفاه الإنسان في كل مكان في العالم. حياد لبنان سيعيده نموذج الرسالة وفقا لما وصفه به قداسة البابا يوحنا بولس الثاني.
حياد لبنان سيجعل طرقات لبنان من الإسمنت وليس الإسفلت فحسب. وسيجعل أرصفته من الرخام وليس البلاط. لكن وقبل كل شيء سيعيد الحياد مغتربي لبنان اليه وسيجعل المغترب تواقا لكي يكون له مرقد عنزة في بلد الأرز. الحياد سيعيد اغترابنا بكل قواه الاقتصادية والعلمية والثقافية والفنية
هل يمكن لكم أن تتصوروا ماذا يمكن أن يحقق لنا الحياد؟ سويسرا ليست النموذج الكافي لهذا الأمر بل في لبنان معطيات أخرى ستجعل العالم يقول عن سويسر أنها لبنان الغرب بدلا أن يقول عن لبنان سويسرا الشرق.
لتسقط عبارة “اللبننة” بمعناها المجازي المرتبط بالحرب والموت المجاني والعنف والدمار ولنقم عبارة “اللبننة” بمعناها الحقيقي وهي نموذج التسامح والتلاقي والتعايش بين حضارات العالم ونموذج الوطن الذي نهض كطائر الفينيق من بين الرماد ونموذج المواطن الذي قدم الحروف الأبجدية ورسم قواعد العلاقات الدولية من خلال صنع مفاهيم التجارة الدولية وساهم في بناء الإزدهار الإقتصادي والتقدم العلمي لكل شعوب العالم.