ندى نعمه بجاني .. امرأة تحت شمس الحب والشعر 

 دراسة نقديّة في ديوان “إمرأةٌ تحتَ الشَّمس” للشاعرة ندى نعمه بجاني 

ندى نعمه بجاني صوت شعري لافت يصدح من ربوع لبنان أرض الأرز والندى كنقطة انطلاقةٍ إلى قلوب وأحاسيس عاشقي الكلمة الجميلة الشاعرة .فتحتْ ندى عينيها في بلدتها دير القمر حيث يعبق التاريخ بالمجد والفخر والأصالة والجمال الروحي، وسرعان ما اكتشفتِ القصيدة وهي تخطو  

خطواتها الأولى في دروب الحياة، وظلتْ مسكونة بالبوح والرؤية مخلصة لروحها الشاعرية، تنتج في جل فنون القول الأدبي من شعر فصيح وعامي وخواطر، في غزارة إنتاج، وحضور مستمر، وقلب دائم النبض بالحب السامي، حتى أصدرتْ ديوانها الأول ” نديات” سنة 1975 ثم أعقبته ب” امراة تحت الشمس” سنة 2011، ويبدو هذا العنوان متقاطعاً مع عنوان رواية شهيرة لغسان كنفاني، تتحدث عن الموت الفلسطيني باعتباره واحداً من الملامح التي يتشكل منها عالم اليوم ، أما شاعرتنا فإنها تعطي في ديوانها صورة جديدة للمرأة المعاصرة الباسقة تحت الشمس مفعمة بالحياة والحب والشعر، منطلقة في مجال التعبير بدون قيود ولا حواحز، مثبتة وجودها الفعلي والإنساني والإبداعي في عالم اليوم.

****

إن القراءة للشاعرة ندى نعمه بجاني تمنح المتلقي متعتين : متعة جمالية حين يستمع لكلماتها بأذن متذوق شغوف بالكلمة الشاعرة وأجوائها الفسيحة، ومتعة معرفية حين ينظر إليها بعين ناقد يستجلي مزاياها وخصوصياتها وفق المناهج النقدية المعروفة حيث يقف على تجربة شاعرة لها شخصيتها الأكاديمية التي تعضد إبداعها بأدوات جمالية وأنظمة فنية دقيقة، مما يرفع قيمة كتاباتها الشعرية ويعطيها مكانها المميز في المشهد الشعري العربي الحديث.

اخترنا عيّنة من قصائد ندى بجاني لدراستها في هذا المقال مما وجدناه يمثل تجربتها الشعرية أجلى تمثيل في البناء الفني والتركيب اللغوي و تنظيم الصياغة وإطلاق الأخيلة وغير ذلك من العناصر التي تختزل النضج الشعري في تجربة أي مبدع.

إن أول ما يلفت انتباهنا ونحن نحاول الولوج إلى عالم ندى بجاني الشعري هو تلك العناية الكبيرة التي توليها لعناوين قصائدها، ولا غرو، فالعنوان يفتح شهية المتلقي للقراءة بتعبير رولان بارت، ويشكل إحدى جماليات النص المقروء وعتبةً تعطي فكرة أولية عن مبنى القصيدة ومحتوياته وزخارفه ، كما يُعتبر بالنسبة للناقد مفتاحاً تأويلياً لسبر أغوار النص، ويساعد على فهم النص وتحديد أبعاده والمسك  بخيوطه.

عناوين ندى أو العتبات المفتوحة 

تختار الشاعرة ندى نعمه بجاني مفردات عناوين قصائدها من خارج نصوصها . إنها لمثابة لافتات معلقة على أبواب قصائدها تتكون من ألفاظ مقتضبة قصيرة ، تحيل مباشرة على مضامين قصائدها، مما يسهل التواصل بين الشاعرة وقرائها، ويقرب مسافات الحوار بينهما، فيتحقق مفهوم العنوان باعتباره علامة لسانية تكشف البنى الدلالية للنص، أي القيم والاغراض والموضوعات التي يعبر عنها، وهذه البنى الدلالية في نصوص ندى تنتمي إلى حقل إنساني وإبداعي قديم قِدم الإنسانية، ومتأصل في الثقافة العالمية، هو الحب بمختلف نوازعه وهواجسه وانفعالاته وتمظهراته.

تتميز جل عناوين قصائد ندى بجاني بمركبات لغوية ثنائية، فهي مكونة من مبتدإ وخبر ( البدر أنت )، ومن صفة وموصوف ( العمر الثاني، ليلة حمراء)، ومن أداة استفهام ومستفهم عنه ( ما للوليف ؟ )، ومن مضاف ومضاف إليه (زلّة قدم، وتاج الفؤاد ) ومن فعل ومنادى ( غنِّ حبيبي) …. هذا النوع من العنونة من سمات الشاعرة ندى يفيد لغوياً طغيان ثنائية الذات والآخر على قصائدها كما يفيد دلالياً الاختصار والإيجاز والوضوح مما يتيح لمن يقف في عتبات قصائدها ولوج عالمها بسهولة دون أن يتيه في مسالكه أو يكابد مشقة الوصول . ومما يسهل التواصل بين الشاعرة وقارئيها أن المعجم الذي تعتمد عليه في تشكيل عناوينها يكاد يدخل في حقلين اثنين لا ثالث لهما هما:
أ- الحبيب : الوليف/ حبيبي / البدر / زلة .
ب- الذات : العمر / غن/ حبيبي /الفؤاد / ليلة حمراء وهي ليلة الشاعرة .

ويدخل الحقلان في علاقة تكاملية ، يُكمّل فيها أحدهما الآخر، فالذات الشاعرة تسترجع الذكريات وتخاطب آخرَ وتتغنى ، واجدةً الحبَّ موضوعها الأساس الذي يسيطر عليها ويملأ سمعها وبصرها وكل جوارحها، أما الحبيب فيفرض سطوته على هذه الذات الشاعرة، ويحدد موضوعات قصائدها، وطرق اشتغالها في الكتابة

وممّا يكشف استراتيجية الشاعرة ندى في عمليتها الإبداعية استعمالها  

للضمائر في عناوينها، كما في ” سبقَتْني إليك َ” والكاف هنا ضمير خطاب لذات أخرى يشرح العنوان بعضا من ملامحها، وفي ” البدر أنت” حيث يتوجه الكلام عبر الضمير أنتَ إلى مخاطَبٍ آخر بكيفية بلاغية، وفي ” غنِّ حبيبي”، وهنا يحيل الضمير المستتر المقدر ب”انت” على آخَر/ حبيب، يتوجه إليه الخطاب مباشرة في مؤشر دلالي على وجود هذا الآخر في كل تَفاصيل النص وهيمنته على الذات الشاعرة.

وبذلك تكون الشاعرة قد وُفّقتْ إلى شدّ انتباه قرّائها انطلاقا من عتبات نصوصها، وذلك بتمثلها لشروط العناوين الناجحة التي تناسب المُتون، بما تحمل من اختصار للأفكار واختزال للمضامين، أو بما تطرحه أمام المتلقي من عناصر تشويق تدفعه لقراءة النص بشغف المستكشف للجزر النائية المتوغل في مسالكها ومنعطفاتها.

 الآخر / نعيم ندى الدائم

إذا كان الآخر / الصديق، العدو، الحبيب، الزميل، القريب، الجار وكل من يعايشه الفرد، موجوداً في الثقافة الإنسانية بصفته ذاتاً ثانية للفرد لا يمكن الاستغناء عنها أو تجاهلها، فإنه بالنسبة للشاعرة ندى حاضر بقوة لافتة للانتباه بدءاً من العناوين إلى المتون، وهذا الآخر الذي اعتبره الفيلسوف سارتر جحيماً لا يُطاق ولا يُرتاح له ولا يُؤْمن منه بل يُرفض وجوده وحواره وحتى كونه حياً على وجه الأرض، هو نعيم دائم في نصوص ندى يتجلى في صفة حبيب تُرفع له الأنخاب، وكؤوس العسل، وتُنشد له المواويل ، وتتجه نحوه المناجاة ، فكأن لا شيء في الدنيا غيره، ولا موضوع إلا عشقه والشوق له . هكذا يلوح أمام الشاعرة في لحظات حنين مبرح فتخاطبه وهو الغائب مخاطبة الحاضر الموجود:

يبدو مساؤك يا قَمَرُ 

يَهِمُّ للِّقاءِ يراعِيَ 

الزاخمُ بالقوافي
…………….
مازلتُ أبصر شموس خيولك
تَفُكُّ أرسنتَها ذاتَ هَيام
تداهم ناصية الأفق
…..
ما زلتُ أعاقرُ جموح صهيلك
موقعا بحبر الهوى في كأسي
يسكرني كلما صحوتُ
وبي من كؤوس الهوى خمار

( من قصيدة البدر أنت )

فهذا الآخر الاستثنائي الاوصاف ملأ عالم الشاعرة بمسائه وقمره وشموسه وصهيل خيوله، حتى إنه أسكرها بعشقه فامتلأتْ كؤوسها جوىً:

وتقول أيضًا:

جئتك مبحرةً على رحب اليمّ
تعانق عواصفي تيارك
شراعان يمخران العباب
………
جئتك أسرج قلبي على راحتك
أطرز بالحب شفتيك
بخيوط الشوق وأزار الهيام

( من قصيدة ليلة حمراء)

إنه انجراف لا متناه في بحر الحب، حيث تتلاشى عواصف الشاعرة أمام تيار المحبوب، وتنغمس فيها حتى الذوبان، وفي هذه الأثناء يصبح قلبها فرساً يركض بين يديه . حتى يصير هذا الآخر الاستثنائي معادلا موضوعيا لكل الكائنات والأشياء التي تراها الشاعرة وتعيشها . وتقول كذلك:

يا رجلا جاء خلاف الرجال
إنك لو سافرتَ عبر سطوري
لوجدتَ نفسك
في قصور وزخرفات
ورأيتَ وجهك صامتاً في المرآة
تَعُبُّ وتجرع
من مناهل الحياة 

( من قصيدة العمر الثاني)

إن الشاعرة لا تكتفي بمناجاة ذلك الآخر الاستثنائي المختلف عن كل الرجال، كما تقول، بل تأخذ ريشتها وترسمه في قصور مزخرفة وهو يحدق في المرآة كأنّه أمير الأمراء أو واحد من النبلاء مستمتعاً برغد الحياة. وهكذا تمارس الشاعرة طقوسها الرومانسية في هيكل القصيدة، وتحتفل ب”آخَرِها ” احتفالاً فخماً لا يعدله إلا احتفال الناسك بمعبوده في صومعة الحب:

حُبُّكَ الأسطوريُّ يراودني
يشعل ثورة حنيني
فأهمس لعينيك كلمات
حاضرٌ طيفك حبيبي
دعني أغِبْ فيك عمراً

(من قصيدة غنِّ حبيبي)

ولنا مثال آخر عن هذا الحضور اللافت للآخر – الحبيب في كتاباتها، وذلك في قصيدة لها عنوانها “كؤوس العسل…ملاك ليلك” ، وهنا يتضح بدءاً بالعنوان، أنَّ قمة الحب كانت تحياه الشاعرة ندى بكامل حواسها وصدق مشاعرها التي استنطقت منها تلك الحروف التي تحاكي الحبيب بهمس ولمس وأمنيات وتحليق واشعال مفاتن عالم لم يعشه إلا عاشق وبشغف لا يُضاهى:

أهمِسُ في أُذُنِ اللّيل النّائمَة وابِلَ أساريري
فَيَجنُّ اللَيلُ وَتَثورُ حَشرجاتي
وَيَستَبيحُ القَلبُ لَوعَتي
فَأَضُمُّ قارورَةَ العِطرِ الّتي
نَسيتَها في خِزانَتي
عِطرُ العودِ نادِرُكَ
أُنادِمُهُ يُزكي زَفَراتي
….
فَيَرسُمُ زَغرَداتي عَلى الجُدران
وَيَسهَرُ في تَقاطيع جَسَدي 
يَجولُ في تَطوافِه عَلى حَريرهِ الفَتّان
تَضُمُّ أصابعُهُ تَقاسيمَ المَلامِس
فَتَرتَفعُ حَدائقُ النَّفس
وَتَمتَلئُ كُؤوسُ العَسَل
تَحتَرقُ بِجَمركَ كُلُّ مُدُني
تَختَرقُ أشَجانَ ضَعفي
وَكَمائنَ إثارَتي

تنتمي هذه القصيدة التي اخترنا مقطعين منها إلى ديوانها ” امرأة تحت الشمس ” المكون من ثلاثة أجزاء، وهو يحكي بما يشبه السير الذاتية الواقعية مراحل هذا الحب والحلم الكبير اللذين عاشت من أجلهما الشاعرة ندى نعمه بجاني التي تلقب بالشاعرة المخملية لرونق حروفها وجمال نسجها ، وعلى مدار سنوات كانت تستقي من حبيبها الملهم حروفها التي تألقتْ فيها واستنطقتْ ما لم يخرجه غيرها من الشاعرات.
ولا يقتصر حضور الآخَر/ الحبيب في قصائد الشاعرة ندى على لحظات الوصال والصفاء وتساقي كؤوس الهوى، بل هو موجود أيضا بوجهه المختلف، هاجراً او غادراً او خائناً، ولا تستطيع الشاعرة أن تكتب لغيره حتى وهي في لحظات السخط واللوم والثورة، فعين الرضا عن كل عيب كليلة . تقول مخاطبة إياه مباشرة في ساعة يأس:

سيدي
غدا حبك مستحيلاً
أصبح عشقك أمراً عسيراً
وسهمًا يسيل
يهرق دمي
يزيد ألمي

( من قصيدة سبقتْني إليك) 

هنا تستسلم الشاعرة لبراثن الإحساس بخيانة الآخر، فتفيض كلماتها حزنا من جرّاء هذا الحب الذي انقلب سهماً يخترق الروح والجسد فيضرجهما ألماً ودماً . وسرعان ما تعلن الرحيل بكبرياء وشموخ:

عُدْ إليها سيدي
فأنا سيدة القرار
لن أكون لها بديلاً

(من قصيدة سبقَتْني إليك)

وتتغنى وهي في ذروة العشق والتعاسة معاً بتباريحها راوية بِرنَّة شجية، ونغم حزين، كبوةَ آخَرِها/ معشوقها الذي تاه في فضاء الليل وعالم الزيف والخداع، حتى زلّتْ به القدم على أحجار الحب وسقط من عليائه في هوّة الخيانة:

لي في فضاء الليل
حبيب تائه
عانق السحب
في ظلّ زخارف زائفة
فكان أن زلّت به القدم
واستلقفته بين أحضانها
بنات النار،
أشباه النساء

( من قصيدة زلّة قدم)

وتقول في شكوى عاشقةٍ افتقدتْ آخرَها بعد طول وصال:

ما للوليف يخاصمني
صقيع القطب يلف حنجرتي
إذ اعتزم الهجر ورحل
هجرتي الحبيب بغير ذنب
فأسال المدامع

( من قصيدة ما للوليف)

مما سبق التمثيل له من قصائد الشاعرة يتضح أنها تشتغل على وتيرة واحدة : هي التغني بالمحبوب في كل حالاته وتقلباته ، في حضوره وغيابه، وإقباله وإعراضه . هذا الحب الذي تعتنقه الشاعرة اختلط بروحها ودمها، وملك كل حواسّها، هو أشبه بالحب الخالد عند الصوفية حين

يفني العاشق في وجود المعشوق ويذوب في كيانه كل الذوبان.

إن هذا التوجه الموضوعاتي للشاعرة ندى يثير اهتمام دارسي شعرها ومتذوقي أدبها، ومبعث هذا الاهتمام اقتصارها على مخاطبة الآخر/ الحبيب في أغلب قصائدها واكتفاؤها بالكتابة له وحده دون سواه، وإنما كان بثّ الأشواق والتصريح بالحب ومناجاة الحبيب في تاريخ الادب القريب إلى حدود عصر النهضة حكراً على الشعراء دون الشواعر إلا في حالات نادرة كما هو الشأن بالنسبة للشاعرتين ليلى الأخيلية، وولادة بنت المستكفي، اللتين أبدتا بعض الجرأة في مخاطبة المحبوب بالتصريح لا التلميح، فقد كانت مساحة البوح لدى الشواعر محدودة ولا تتعدى بعض أغراض الشعر كالرثاء والحماسة ووصف الطبيعة، أما موضوع الحب فقد تفادينه باعتباره منطقة محرّمة في مجتمعات تسود فيها العقلية الذكورية التي تنظر للنساء على أنهن ظلال للرجال وخاضعات لوصايتهم الفكرية والإبداعية، ولم تتمرّد الشواعر العربيات على هذه الوضعية إلا مع هبوب رياح التحرر في العصر الحديث، فوجدنا نساء مبدعات يقفن أمام المبدع الرجل وقفة الند للند معبرات بكيفية شجاعة وحديثة وذات جمالية عالية مفصحن عن ذواتهن وما يدور فيها من مشاعر وعواطف نحو الآخر، وتمثل هذا الاتجاه الذي عُرّف إجرائيا بالشعر النسائي عدة أسماء عربية حديثة من قبيل : نازك الملائكة (العراق)، ولميعة عباس عمارة(العراق)، وجومانا حداد (لبنان)، وفدوى طوقان( فلسطين)، ومي زيادة (مصر)، ومالة العاصمي ( المغرب)، فضلا عن الشاعرة اللبنانية المخملية ندى نعمه بجاني موضوع هذه الدراسة.

غير أن شاعرتنا وهي تهدم الأسوار التي تفصل بين الأنثى المبدعة / الشاعرة وبين الحرية في البوح تمردتْ أيضا على كل القيود، وتحررتْ من سلطة الرقابة الذكورية، إلى حد استعارة بعض مفرداتها وصورها ومشاهدها من معجم إيروسي قديم اختص به إلى عهد قريب المبدع دون المبدعة، ولفتت انتباه الدارسين بجرأتها في استخدام لغة الجسد في بعض قصائدها، موظفةً الرموز تارةً والمباشَرة تارة أخرى، مكسّرةً المحرَّم الجنسي المفروض على بنات جنسها، حيث تزاوج بين التغزل الروحي والجسدي، محتفلةً بالمعنى العميق للجنس باعتباره أساس الوجود الإنساني وسُنّة الحياة التي منحها الله لأبناء آدم من أجل استمرارية الحياة، كما صرّحتْ في أحد الحوارات التي أجريتْ معها. نقرأ ذلك في بعض قصائدها التي بين أيدينا، كقولها في لحظة غناء للمحبوب وغياب كلي عن العالم الحسي وغرق في بحر السعادة الرومانسية:

تعانق عواصفي تيارك
شراعان يمخران العباب
نحتفي بعرس الجسد
بعرس الحياة وكأس الكؤوس
(من قصيدة ليلة حمراء)
وتقول أيضا بنفس العزف والحرارة:
كُلما آلَ الرمَقُ إلى كَأسِ عِشقٍ
إلى نَبيذٍ مُعتَّق
أجرعُهُ في خَمّارتكَ
حتى أغرَق
في نَعيم لَظاك
إلى جَرعةِ هُيام أعاقرُها
من نَحرِكَ .. من عُريِكَ

( من قصيدة غنِّ حبيبي) 

وهنا تسرجع الشاعرة لحظات الحب الحميمية المتوهجة في ذاكرتها فتجللها بظلال من الرموز والإيحاءات، باعثة في المتلقي شيئا غير يسير من الصدمة والدهشة، لكنها تؤسس شعريتها بأدوات جمالية تجعل نصوصها مزدانة بأدبية عالية، وهذا ما يجعل هذه الدراسة النقدية تخصص سطورها المقبلة لإضاءة مفهوم الأدبية في نصوص الشاعرة ندى نعمه بجاني.

 الأدبيّة في أدب ندى نعمه بجاني 

من المقولات الشهيرة في تاريخ النقد الأدبي مقولة رومان ياكبسون أحد رواد المدرسة الشكلية الروسية (1896-1982) : “موضوع علم الأدب ليس هو الأدب ولكنه الأدبية، أي ما يجعل من عمل معطى عملا أدبيا”. انها تستبعد كل العناصر الخارجية من القراءة النقدية مثل شخصية المؤلف وسيرته الذاتية والبيئة التي يعيش فيها، وتركّز الاهتمام على الشكل الداخلي للإبداع أو تلك العلافات الكامنة في بنيته العميقة بين الكلمات والتراكيب التي تحتوي على مجموعة من المبادئ الجمالية للكتابة الإبداعية ، وتميّزه كنص أدبي عن غيره من النصوص:

بتطبيق المقولة على قصائد الشاعرة ندى التي انطلقنا منها في مساءلة تجربتها الشعرية، نجد البنيتين العميقة والسطحية لكتاباتها طافحة بشعرية متميزة تستحق وقفة طويلة لعرض بعض مظاهرها، وإن كان من الصعب الفصل بين الشاعرة ونصوصها فصلاً تاماً بالنظر إلى نشأتها في بيئة أدبية بامتياز وحياتها التي تفسر جزءاً من كتاباتها.

تنتمي قصائد ندى نعمه بجاني التي قدمنا نماذج منها في فقرات سابقة من هذه الدراسة إلى جنس أدبي حديث يدعى ” قصيدة النثر” نشأ في خميسنيات القرن الماضي بفضل مجلة ” شعر” الصادرة في لبنان موطن الشاعرة، على يد شعراء من سوريا وفلسطين ولبنان، مثل يوسف الخال وأدونيس والماغوط وأنسي الحاج وغيرهم ممن قادوا حركة الحداثة

الشعرية العربية عبر هذا الجنس الأدبي الذي خلخل ثوابت القصيدة العربية التقليدية . وانتشرتْ هذه الثورة في صفوف المبدعين الشباب انتشار النار في الهشيم، حتى صارت ( أو كادت أن تصير ) القصيدة النثرية سيدة الموقف في ساحة الشعر العربي الحديث .ويبدو أن الشاعرة ندى نعمه بجاني ،ذات الرؤية العصرية والعقلية الحديثة، حسب الخلاصات التي خرجنا بها من قراءتنا لشعرها، قد شاركتْ في هذه الثورة الأدبية التي عايشتها عن قرب، مشاركة فعلية وفعالة، وقدّمتْ إبداعات تستجيب لكل شروط قصيدة النثر الحديثة في مختلف تجلياتها شكلاً ولعةً وتصويراً ورؤيةً.

تتميز الشاعرة ندى نعمه بجاني بالقدرة على التنويع في استعمالاتها للغة في قصائدها، فتصطاد عصفورين بحجر واحدٍ، فهي من جهة تفجّر بالكلمات ما يحتبس في كيانها من مشاعر وعواطف نحو الآخر / الحبيب ، وتحقق بها كينونتها في عالم ذكوري يغيّب صوت المرأة، ومن جهة أخرى وفي نفس الوقتِ توصل إلى القارئ/ المتلقى صوتَها بلغة تجمع بين التقريرية البسيطة السهلة والمباشَرة التي تجذب الجمهور من مختلف الأذواق وتشركه في العملية الإبداعية، وبين الإيحائية المجازية التي تستدعي بعضَ عناءٍ من المتلقي كي يصل الى دلالتها دون أن يسقط في الغموض والإبهام . بل يمكن القول إن القصيدة تفرض سطوتها على الشاعرة وتحدد طبيعة اللغة التي تستعملها تبعاً للدفق الانفعالي الذي تفجره لحظات معينة، ويتجلى ذلك غالبا حين تخاطب الآخر / الحبيب المغروس في كل خلاياها إذ تستخدم عادة لغة تقريرية مباشرة كما ظهر في الأمثلة التي قدمناها من قبل في هذه الدراسة، لتتحدث بتلقائية وانسيابية ووضوح وشفافية عن عواطفها دون تخفٍّ خلف أقنعة البلاغة، حتى إذا أرادتْ وصف اللحظات الحميمية لجأتْ، لأسباب جمالية وفنية، إلى الإيحاء وذلك لأن المجاز أبلغ من الحقيقة كما قال الجرجاني، واستعانت بالتكثيف والانزياح والتصوير .نقول الشاعرة مازجة بين اللغتين التقريرية والإيحائية:

يا سَيدَ الحُب غَنِّ لحبي
هاتِ .. عَلى جسدي
هَبني من نفسِكَ خَصبا
اشبقني من عُنفوانِكَ جُموحًا
امنَحني مِن صَهيلكَ هَمهَمةً
من دفق سَيلكَ وابلاً
لِجبروتِكَ تُعَظمُ روحي وَتَبتَهل
تَنحَني ثورةُ كَدرَتي
وَيَرتَقي الفؤادُ واحاتِ العشق

( من قصيدة غنِّ حبيببي ) 

تدخل الشاعرة بوابة مناجاة المحبوب في هذه القطعة مستخدمة أسلوب النداء الذي يحضر بكثرة في قصائدها مع ما يحمله من مشاعر متباينة تعكس نفسية الشاعرة وتعدد انفعالاتها بين الحاجة والرغبة والصدّ والنفور والسعادة والتعاسة، وغير ذلك من الانفعالات التي يسهم الأسلوب الإنشائي في إيصالها للقارئ . ثم تستخدم بعد ذلك تقنية الحذف الفني الذي يؤدي وظيفة التلميح دون التصريح بالاستغناء عن كلملة ما مثلا في مقطع غزلي حسي والسكوت عنها ويندرج في إطار الانزياح التركيبي، نرى ذلك في قولها ” هاتِ .. على جسدي ” ، لأن اسم الفعل هات بمعنى أعطني يقتضي مفعولا به لإتمام الجملة دلاليا ونحويا، غير أن الشاعرة تتفادى ذكره ملمحةً له بنقطتين كي تتجنب التقرير والمباشرة في هذا السياق العاطفي الحساس .

وبعد ذلك تقول : ” هَبني من نفسِكَ خَصبا” فتدخل بقصيدتها إلى أجواء الأساطير مستحضرة إله الخصب عند اليونان ” ديونيسوس ” الذي كانت تقام له الاحتفالات وتقدم له القرابين وتتضرع له الناس ،كما تفعل الشاعرة مع حبيبها ، لينبت زروعهم ويمنحهم الخصوبة . وكأن الشاعرة ألمتْ بتلك الطقوس الأسطورية فخاطبتْ بأسلوب الانزياح “آخَرَها “مخاَطبَة المعبود طالبةً منه ان يمنحها “الخصب “، وهو معنى من المعاني الإيحائية التي تتركها للقارئ ليبحث في دلالتها ويشترك في العملية الإبداعية. ثم تستمر الشاعرة على نفس الشاكلة في هذا المقطع مزاوجة بين التقرير والإيحاء في خطاب المحبوب بلغة مباشرة تارة ورمزية تارة أخرى، محلّقة بتجربتها في أجواء قصيدة النثر الحديثة.

تتميز قصائد الشاعرة ندى بغنائية عالية مبتكرة تصنعها الصور الشعرية والرؤيا الذاتية وترددات الخطاب العاشق، ممّا يُنتِج موسيقى خاصة وإيقاعا داخليا في طيات جملها وسطورها، وكما رأينا في المقطوعة السابقة ، تستخدم الشاعرة عدة تقنيات من اجل موسقة قصائدها، كتكرار بعض الكلمات والصيغ والخطابات واستعادة بعض العبارات والصور بأشكال متعددة / هات..على جسدي ، هبني من نفسك / اشبقني/ امنحني . إضافة إلى ترديد بعض الضمائر بشكل متواتر: من نفسك / من عنفوانك/ من صهيلك/ من دفق سبيلك/ لجبروتك . وتكاد تقترب من استخدام الإيقاع الخارجي في أحد أشكاله وهو التقنية، لحرصها على على خلق أنغام موازية لحالة الانفعال مع اللغة التي تنقل لحظات أو حالات معينة، كما تجلّى في قصيدتها ” سبقتني إليك ” التي تُعدّد فيها خيانات الآخر -الحبيب ، ومنها هذا المقطع:

وإن أتى المَساءُ تُدبرُ
لنَجواها تَستَرسلُ
إلى عِقرِها تَتَسَلّلُ
فَتَعقُدُ للهندِ جَوزًا وَتَستَعِرُ
في هَيكَلها تَجثو .. تَتَوسّلُ
فَتَفيضُ..
وَيدرأ السيلُ 

فنرى الشاعرة تقفّي جُملها فتُلـزم نفسها ما لا يلزم لأنها لا تكتب قصيدة عمودية أو تفعيلية، ومع ذلك تختم جملها بكلمات تتفق في الوزن والحرف الأخير،مبرزة عنايتها بنغمية الحروف والكلمات . وذلك أدى إلى خلق موسيقى تصويرية في نص الشاعرة شاركتْ في تقديم الفكرة وكشف الملابسات المحيطة بلحظة الانفجار الشعري الهادر الذي أسفر عن تلك المكابدات والتوترات، وبالتالي تتعانق في البنية العميقة لقصائدها الحركاتُ الفكرية و الحركات الصوتية وتشكلان إيقاعاً داخلياً يشد المتلقى ويجلب انتباهه وإصغاءه.

******

بعد هذه الجولة السريعة في العالم الشعري لندى نعمه بجاني نكون قد تعرّفنا على امرأة تحت شمس الحب والشعر، تتنفس الحب والشعر وبهما تُسقط الندى في فجر القصيدة العربية المعاصرة، وتخرق الظلام الذي خيّم في سماء النساء العربيات المبدعات لردح طويل وحرمهن من التعبير عن ذواتهن، وهي كذلك صوتٌ مفعم بالتحدي والعنفوان يشدو بكل عذاباته وصباباته في العلن، ويسمي الأشياء بأسمائها إذا اقتضى الأمر …هكذا بين غناء وجداني حزين جذِل، ولغة أنيقة شفافة رشيقة نابضة بالحياة، وتجربة شعرية ناضجة عميقة، ونفَس شعري حداثي عصري، توجد ندى نعمه بجاني شاعرة كؤوس العسل وملاك الهمس.

 

اترك رد