يؤرقنا كثيرًا أن يصفنا الناس بالجهل، فنحرص على الحصول على أعلى الشهادات والمراتب العلمية ونعكف على قراءة كل ما يقع تحت أيدينا من كتب و صحف ومجلات أو حتى متابعة البرامج التلفزيونية والصفحات التثقيفية على الفيس بوك، وقد يصل بنا الأمر إلى حضور الندوات والمحاضرات والاشتراك في الورش التعليمية، بهذا كله نطمئن على أنفسنا أننا تجاوزنا مرحلة الجهل، بل تجاوزنا مرحلة التعليم برمّته وأصبحنا في مقام أهل العلم والثقافة، ولكن، هل حقًا يكفي كل ذلك للخروج من دائرة التوصيف بالجهل؟ وعن أي جهل نتحدث؟ وما مدى تأثير ما تعلمناه من خلال قراءاتنا ومشاهداتنا بل ومشاركاتنا، على حياتنا العملية؟ تأخذنا كل تلك الأسئلة إلى بحر لجّي من أسئلة أخرى، ما العلم؟ وما الجهل؟ وما الثقافة؟ وما الأمية ؟ وما الفرق بين كل منهم؟
قطعًا، ليس هذا مقالًا أكاديميًا عبقريًا يستطيع الوصول إلى إجابات قاطعة وسريعة لا تتجاوز السطور مهما تعمقت، لأسئلة حار فيها الفلاسفة والمفكرون وكتبوا فيها مجلدات عبر العصور، لكنه قد يستصبر العقول لتنظر إلى شعاع النور القادم من آخر النفق، وليس هذا أيضًا من وحي كاتبة المقال بل هو من قراءة لكتاب في غاية الأهمية، وهو “إبداع الأميين المصريين” للكاتب طلعت رضوان والصادر مؤخرًا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة “حكاية مصر”.
ونحن حينما نقرأ عنوان الكتاب نجد أنفسنا أما أسئلة جديدة، وهل للأميين إبداع؟ ولماذا المصريين بالتحديد؟ وعند تصفحنا لمقدمة الكتاب الأولى والتي كتبها الدكتور كمال مغيث، نجد حديثًا مطولًا عن الهوية المصرية، والتي عبر عنها المثقفون تعبيرات متباينة، رفضها الدكتور كمال برمتها، لاعتقاده بعدم إمكانية اختزال الهوية المصرية في لقطة ثابتة قائلاً “إن الهوية هي عملية ديناميكية تفاعلية بين البشر والجغرافيا والزمن على ما فيه من تغير وتطور” ما يأخذنا إلى جوهر الكتاب الذي بين أيدينا، حيث سلطة الهوية المصرية المستمدة من تلك العملية الديناميكية التفاعلية عبر الزمن، تلك السلطة التي فرضت نفسها على كل غازٍ غزا البلاد، فكان بدلاً من فرض هويته على البلاد، فرضت مصر هويتها عليه، سواء على مستوى اللغة أو المفاهيم أو الآيديولوجيا أو حتى على مستوى العادات والتقاليد.
وكان أول ما انطلق منه مؤلف الكتاب في مقدمته هو التفريق بين (الجهل) و(الأمية) وهما مفهومان اختلطا على أغلبية من يحسبون على فئة المثقفين، مما وضعهم في خانة الجهلاء لعدم استبصارهم هذا الفرق واضح المعالم، فبينما الجهل هو صفة عامة يجتمع عليها كل البشر مهما تعلموا، حيث لم يولد بعد من ركب مطية العلم المطلق دون أن يكون جاهلاً بعلمٍ ما، مما يعني أن كل منّا هو جاهل في علمٍ ما، لكنه عالمٌ في آخر، في حين أن الأمية هي حالة خاصة لا تشمل جميع البشر بل فئة منهم، وهي الفئة التي حُرِمت تعلم علمٍ ما، أولها (الأبجدية) أي تعلم القراءة والكتابة، وقد تكون (أمية معلوماتية) أو (أمية حداثية) بمعنى (الجهل) بوسائل التكنولوجيا الحديثة وهكذا.
ولكن الكاتب هنا يسلط الضوء على ثقافة الأمي المصري، ما يضعنا أمام سؤال جديد، وهل للأمي المصري ثقافة؟ ما يفتح باب السؤال عن مفهوم الثقافة، فنعرفها أنها مجموع القيم والأنساق والعادات والتقاليد التي يجتمع عليها شعبٌ ما، فتسري في نسيجه عبر العصور وتنتج إبداعه الخاص فتميزه عن باقي الشعوب، من هنا نجد أن لكل شعب ثقافته القومية الخاصة التي يحرص على الاحتفاظ والتباهي بها مهما بلغ هذا الشعب من تقدم وتطور حضاري ومعرفي وتكنولوجي.
والأمي المصري يملك ما لا يملكه أي أمي آخر في العالم من ثقافة، بل وعلم أيضًا، وأبلغ مثال على ذلك ما ذكره الدكتور كمال في مقدمته “عندما دخل العثمانيون مصر سنة 1517 فقد اندهش السلطان العثماني الغازي سليم الأول من روعة الصناعات على اختلاف أنواعها وبهرته القاهرة ونفائسها وبدائعها فأمر جنده بالاستيلاء على ثلاثة آلاف من مهرة حرفييها وصناعها … وأخذهم أسرى إلى عاصمته استابول ليعمروها كالقاهرة” والمعروف أيضًا أن المصري القديم (الأميّ) كالفلاح والصياد والبنّا، كان لديه علمٌ ربما يستعصي على الكثير من متعلمي هذا الزمن الحصول عليه إلاّ بالكثير من القراءات والشهادات العلمية، إذن فالثقافة لا تعني الحصول على كم معلوماتي بقدر ما تعني الحصول على كم قيمي وممارسته على أرض الواقع ولأجيال طويلة، وهذا ما يتضمنه هذا الكتاب المفعم بالروح المصرية الأصيلة التي لا تُعنى بطبقة (المثقفين) بالمفهوم الحالي، إنما يعنيها المصري البسيط الذي لم يذهب إلى المدرسة ليكون من أنصاف المتعلمين الذين يصفونه بالجهل رغم أن الشواهد تقول العكس حيث يقول د.أحمد زايد في دراسة ميدانية أجراها : “كشفت البيانات عن أن غير المتعلمين هم أكثر مرونة في قبول فكرة التعامل مع أفراد مختلفين عنهم في الصفات، من المتعلمين. بل لوحظ أن درجة المرونة تقل بإطراد مع ارتفاع المستويات التعليمية”.
وعن الفرق بين الأمية والتعليم في مناخ معادٍ للوطن يقول الفيلسوف البريطاني (برتراند رسل) “إن التعليم الوطني لابد أن يرفع من شأن البحث العلمي، ويحض على حرية النقد، وأنه بدونهما يكون من الأفضل لنا أن نظل أميّين”. وفي هذا يقول أيضًا طلعت رضوان أن الأميين منذ القِدم هم الأكثر قبولاً للآخر وتعايشًا معه على مر العصور، على عكس المتعلمين (أو أنصاف المتعلمين) الذين كلما تعلموا أكثر ازدادت نظرتهم تجاه الآخر عنفًا وعنصرية بسبب نظرتهم الأحادية للأمور. وقد تكون تلك النظرة الأحادية هي النتيجة العكسية للتعلم الذي حصلوا عليه، وربما لشعور دفين بالغرور الناتج عن هذا العلم الذي لم يؤتِ نفعًا حقيقيًا تنتفع وترتفع به الأمة إلى مصاف الدول المتقدمة.
وفي “إبداع الأميين المصريين” يأخذنا طلعت رضوان إلى منابع الثقافة القومية لهذا الشعب العظيم حيث ثقافة يمتد تاريخها إلى آلاف السنين، ثقافة المصري البسيط التي لم تهزمها حروب أو غزوات أو عصور طويلة الأمد. بدءًا من فكرة التدين والتقديس التي ابتدعها المصريون الأوائل والتي شكلت أبعاد الشخصية المصرية على مر العصور، فكان المصري القديم يعبر عن فرحته بموسم الحصاد، ثم بدأت فكرة تعدد الآلهة فازدادت مواسم الاحتفالات وتنوعت، وظل هذا الطقس في الضمير المصري حتى بعد توحيد الآلهة، فاستبدل المصري تعدد الآلهة بتعدد الأولياء والصالحين الذين يحتفل بميلادهم ويقيم الموالد والاحتفالات والموائد، وهذه الموالد تشمل أولياء المسلمين والمسيحيين على السواء، والاحتفال والاحتفاء بهم يتم من الجانبين على السواء أيضًا وبالتبادل، بمعنى أن المسلم يحتفل بمولد السيدة العذراء كما يحتفل المسيحي بمولد السيدة زينب، مما يعني أن الحضارة المصرية هي حضارة اتصال وتواصل وتآخٍ وتفاعل وتوحد بين قطبيها المسيحي والمسلم وتسامح كبير فيما بينهم. وكان هذا من أهم مداخل الكاتب لأبعاد الشخصية المصرية ونتاجها الفكري والثقافي والآيديولوجي.
والإبداع الشعبي كما يقول الكاتب “يشمل – بالإضافة إلى الموالد والاحتفال بها – الموال والحدوتة والنكتة والمثل والأسطورة، المدون منها والشفاهي” وهنا ينتقل بنا الكاتب إلى فصل شيق من الكتاب ألا وهو “الأمثال الشعبية ومغزاها في فهم الشخصية القومية” وهو مدخل لا غنى عنه في فهم الشخصية القومية لأي شعب من الشعوب، ومن خلاله نتعرف على الأمثال ومعانيها ومغزاها عند المصري قديمًا وحديثًا، حيث نجد أن كثيرًا منها قديمٌ قِدم الشخصية المصرية، ويظهر الكاتب من خلالها حقيقة أن الثقافة القومية لا علاقة لها بالتعليم، فكم من متعلم اليوم لا يفقه شيئًا عن ثقافة بلده القومية، وهي ثقافة تظهر مدى الفلسفة العميقة لدى المصري البسيط منذ القدم وحتى اليوم.
ومن المداخل المهمة للثقافة القومية المصرية، هي الشهور القبطية (المصرية) التي أبدعها المصريون القدماء فكانت أفضل التقاويم التي ظهرت على وجه البسيطة لدقتها واقترانها بمواسم الزراعة والحصاد وتعبيرها عن البيئة والطقس، حتى أنهم (المصريين) ابتدعوا أمثالاً تخص كل شهور من شهور السنة القبطية.
أيضًا عالج الكاتب قضية النكتة والسخرية المصرية من واقع الظلم الذي عانوا منه لقرون طويلة على أيدي الغزاة والطغاة، فكان المصري يسخر علنًا أو سرًا أو وحيًا من واقعه، فنجد المصري وقد أصبح شخصية ساخرة بطبعه تمامًا كما هي شخصية متدينة بطبعها.
ولم يفت كاتبنا أن يفرد فصلا كاملاً عن سهير القلماوي ونقدها لكتاب “ألف ليلة وليلة” وغيرها من كتب التراث الشعبي التي كان لها تأثير كبير على الشخصية المصرية بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات.
“إبداع الأميين المصريين” كتاب مفعم بروح مصر المتسامحة والواعية والثرية في فكرها وعقيدتها وثقافة أهلها “الأميين المصريين”.