ومضات نقدية في المجموعة القصصية “شيء من الوهم” للكاتب الجزائري يمين أمير

 

هناك من الأعمال الأدبية ما يدغدغ حس القارئ و يوقظ في الناقد الأكاديمي نزعته الأنانية في امتلاك النص و تأويله  تحت ضوء النظريات النقدية التي يراها مناسبة حسب استساغة حاسته النقدية للإبداع و تذوق حسه الفني.

و قد داعبت شيئا من الروح النقدية عندي المجموعة القصصية “شيء من الوهم” و هي للكاتب اليمين أمير الحائز على الجائزة الأولى وطنيا في ملتقى بن هدوقة سنة 2007 و قد  صدرت هذه المجموعة سنة 2015 عن منشورات جمعية الشروق لولاية باتنة (الجزائر). في هذه الومضات  أحاول أن ألقي عليها ضوءًا من نظرية جيرار جينيت في العتبات، و نظرية شارل مورو في النقد السيكولوجي و كذا الأسلوبية المثالية لسبيتزر ونظرية بيير بورديو في النقد الاجتماعي و كذا المنهج الإحصائي.

غلاف المجموعة القصصية هو لوحة فنية و عتبة أيقونية تعكس إلى حد بعيد رمادية الزمان و المكان و وعلاقة الشخصيات بالزمكان (كما يسميه ميخائيل باختين). نلاحظ جليا رصيفا مبللا بالمطر، سماء رمادية حزينة، أشجاراً عالية عارية كالخيبة التي يعيشها أبطال المجموعة، ضباباً كثيفاً يتربص بالرجل والمرأة (الضباب يلفنا مثلما الرداء. ص 48) اللذين يقفان على الرصيف كأنهما يتقدمان بخطى متثاقلة كسولة، خطى عابرة أنهكها الحب و الحرب و الواقع و الحياة و الموت.

على الرصيف اليمين، نرى أن المصباح الذي يترأس عمود الكهرباء العمومي يبدو شاحبا منطفئا كأنه في إضراب عن بث النور لأن نور المحبة في قلب الإنسان انطفأ و أضحى نارا تستعر و دمعا يُذرف و دما ينزف.( ذاك المصباح المتفرد في التوهج، و كأنه شمعة أرهقها الاحتراق ص 49)

العنوان له بعد سيميائي  ينمّ عن بوح للكاتب عن هواجس شخصياته التي يمكن اعتبارها أشخاصا ورقية وواقعية، وذلك لأنه لم يختار عنوان “شيء من وهمي” بل فضل “شيء من الوهم” لأن الوهم مشترك بينه و بين شخصياته و حتى قرائه، كأنه يريد مقاسمتهم همه ويريد أن يقاسموه وهمهم.

المجموعة فيها سبع عشرة قصة، الأولى تحمل عنوان المجموعة، “شيء من الوهم”، و فيها عنصر التشويق و الغموض المحبب و المحير الذي يوقظ كل اهتمام القارئ و فضوله عن ذلك “البطل” الموصوف و الذي ربما ما هو إلا الوهم الزئبقي الذي يكوّن الحلم و عالم الأمنيات المتسكعة في يوميات الحياة.

الثانية القميص الأزرق وهو حلم يسرده الراوي الذي يغفو في سيارة التاكسي في طريقه إلى أمسية شعرية، يحلم بشاعرة عاشقة تغرق حبا في صاحب القميص الأزرق، فتثير حيرة الحاضرين لأنهم كانوا ثلاثة يرتدون قميصا أزرقا.

القصة الثالثة و الرابعة “النرجيلة” و “وقتلني الحب” فيهما صراع الروح بين الحب الأفلاطوني والحب الحسي والصداقة الصدوقة والصداقة العابرة في عالم الاتصال الافتراضي وجبروت الواقع المقيد لكل العلاقات والمكبل لكل الافتراضات والمجمد للعواطف الإنسانية الراقية. وفي وصف النرجيلة وصوتها والدخان شيء من وصف “الموجة” التي كتب عنها الكاتب المكسيكي أوكتافيو باث في أقصوصة الموجة.

القصتان الخامسة و السابعة هما الأقصر، كومضة نثرية شذرية فنية في صفحتين لكل أقصوصة، لهذا عنونها الكاتب “مجرد دخان” و “هجرة إلى السماء”، إلا أنهما تختزلان الكثير من المواجع و الخيبات التي يعيشها الفرد مذ ولوجه عالم “الكبار”، مذ يتمرد على القوانين والبديهيات الموروثة كإله عظيم عتيق من الأوديسيا والإلياذة. منذ ان يصبح هاجس الشاب الهجرة و الابتعاد عن وطنه الأم، الهروب من جحيم الوطن التعيس كما في النص و “الأرض العقيمة”. ليصبح العيش في الوطن كابوسا مفزعا يتكرر وينغص مضجع البطل.

في القصة السادسة نقرأ جزءاً من تاريخ المدينة (مدينة التوت التي تتكرر كثيرا في المجموعة) تاريخا  مخزيا و مؤلما، مع أنه كان مجرد حلم إلا أن المكان و الزمان و الشخصيات عاشت حقا نكبة الحرب ونقمة الحب. إذ يمكن اعتبار الليل والظلمة هنا كرمز للموت والوحدة، فالموت والوحدة يتشابهان في أن يكون الشخص وحيدا. إن مدينة التوت وأشجار التوت البائسة التي تتكرر في القصص تبدو جناسا واضحا عن مدينة عين التوتة الحقيقية، التي عرفت فعلا أحداثا مأساوية ذات سنوات من فترة الجمر والخراب، بهذا يمكن اعتبارها البطل الحقيقي للمجموعة، تماما كما كانت مدينة ماكوندو هي البطل (بشخصياتها و أحداثها) في رواية “مائة عام من العزلة” لماركيز.

أما في كل من “همس اليقين”، “حالة ضياع”، “الفكرة الضائعة”و “الغرفة السوداء” فنلامس الواقع المحاصر بالغموض و التيه، إذ يمكن اعتبار القصتين من أدب الالتزام  Littérature de l’engagement، فمثلا نقرأ (و اتخذ مسار الوطن منحى آخر…و لم يزل الوطن جريحا و شعبه قد أنهكته السنون) (ص 58)، ( كتبت العنوان كاملا بلون كالدم العربي المستباح. ص 77)، و (…فكرتي التي بدأت تتلاشى من مخيلتي كأنها تريد الرحيل إلى ذهن رجل آخر يملك العديد من الأقلام و الكثير الكثير من السلم و الأمان.  ص 77)، ” …و أحرق كل المشاهد المذهلة التي كنت التقطت صورها، الأحياء الشعبية القديمة، و معاناة الشعب و صموده أمام الاستعمار. كل الصور قد أتلفها نور الصباح. ص 80).

و تجدر الإشارة إلى تأثر الكاتب بجبران في قصة حالة ضياع حيث نقرأ إسقاطا عن قصة جبران خليل جبران و مي زيادة أن بطله كاتب يراسل الأديبة معجبا بها و بقصائدها، يكتب فيها نقدا للتقرب إليها وإلى عالمها، ونقرأ على لسانه إحباطه وتعاسة قلبه من ذاك الحب حيث يقول “و لكني ما كنت جبران أناو لا كانت هي مي، فاكتفيت بأن تصب هي عمقي و بأن أبيح لنفسي أن تعشقها من خلال أعمالها، و ألا تترك مجالا لأي امرأة أخرى أن تزرع سهامها في صدري. ص 53)

و في قصة النهر الجارف يتطرق الكاتب إلى حادث كارثي وهو الفيضان الجارف في مدينة تبدو صحراوية لكن آهلة بالسكان:( صحراؤنا لم تعد جنة المأوى، و سمراء المدينة و النخل هل تراها غارقة تحت الماء اللحظة كغرقها المشتهى في بحر العشق.ص 60)، مما يعكس اهتمام الكاتب بظاهرة طبيعية تعرفها معظم مدن بلده الصحراوية.

و نقرأ في لحظة طيش موضوعا سيكولوجيا تربويا هاما يتمثل في فقد الأم في سن الطفولة أو المراهقة، اليتم المبكر وعقدة أوديب التي أصابت البطل الطفل الذي أصبح يتمنى موت أبيه إلى أن تسبب فيها.

أما في “رواية الموت” فتتجلى معاناة الكاتب الملتزم بقضية أخيه الإنسان، و كم يصعب عليه أن يسرد حلة الانهزام والتشاؤم من الحياة الذي ينغص الشخصيات، ويدفعهم إلى الانتحار او الاقتتال. لكن في الأخير يلتفت الكاتب إلى فكرة روحية أو صوفية وهي “الرعاية الإلهية” ممثلة في أعمدة السياج الخارجي للمسجد الذي أنقذته من الانتحار سقوطا في برك الدم.  

في قصة “وضاعت في الطريق” يسرد لنا الكاتب بوح العاشقة لحبيبها وهو بوح ممزوج بالاعتذار له من قسوة الواقع على قصتهما، و قسوة الحبيب في لحظة أنانيته الذكورية. لقد استطاع الكاتب بعبارات البطلة أن يذكرنا بـ”زينب” بطلة رواية هيكل “زينب”، فمثلا نقرأ في الصفحة 74، على سبيل التمثيل لا الحصر:( …ليتك لا تلمني فأنا التائهة بيني و بينك، فلعلك تذكر بعض أيامنا فتدرك أنك أورثتني كل الجنون، و استنفذت مني أنوثتي التي لم أكن لأفهم سرها لولا حبك الطاغي كالطوفان في قلبي،…و لكن كثرة ما أوغلوه في صدري و غيابك الأخير عني، و أنا أحتسي مرارة ضعفي و قسوة قدري أماتك عنوة دون أن أدري)، و نقرأ على لسان الراوي في رواية هيكل، على سبيل التمثيل لا الحصر مايلي: (و امتلأ وجودها به، و لم تعد تفكر في أحد سواه …فلما كان في بعض الأيام –و قد عيل صبرها و لم تستطع الاستمرار على كتمان ما في نفسها، صممت على أن تفتح قلبها لإبراهيم حالما تراه وحده)، إلا أن حبيبها إبراهيم  سافر إلى المدينة للعمل و هي فارقته بزواج تعسفي، ثم بمرض السل الذي أودى بحياتها و مات معها حبها الذي أدمى فؤادها.  

مواجع الافتراض عودة للتأكيد على موضوع الصراع بين الحب الأفلاطوني والحب الحسي وتأثير التكنولوجيا على هذا الشعور، حيث تجعل من ذاك الشعور الجميل الإنساني بين الشاب وحبيبته مجرد تحيات عابرة ومحادثات جوفاء تافهة جافة، لملء وقت الفراغ ومقاومة ضجر الروتين اليومي.

في الأخير، يجدر التنويه أن هذه رؤوس أقلام نقدية وانطباعية، قمت ببثها عن المجموعة القصصية التي تستحق المزيد من الدراسة السيميائية للعتبات و للسرد، و كذا الدراسات الأسلوبية والإحصائية وحتى الدراسات المقارنة كما أشرت في هذه الومضة النقدية، لعلها تكون مفتاحا للباحثين والمهتمين لسبر أغوار هذه المجموعة الشيقة المتميزة.

اترك رد