جَلَسْتُ عشيَّةَ ذات يَوْمٍ أَرْقبُ احْمِرارَ سماءِ المَغيب، فتراكَضَتْ في ذِهْني كلماتُ الصَّلاة الرَّبيَّة:«أبانا الذي في السَّماوات»، من دون أَنْ أَكونَ في وَضْعِ صلاةٍ، ولا في نِيَّتي رَفْعُ أَيِّ ابْتهال. وإذا بالكلماتِ تَشِعُّ مع احْمرارِ الأُفُقِ مَرْصوفةً كحَبَّاتِ ماسٍ، فتساءَلْتُ تُرى لماذا أَتَتْ هذه الكلماتُ بهذا التَّرتيبِ التَّنازُلي الرَّهيب، مُبْتدِأَةً بأَعْلَى دَرَجاتِ السُّمُو لتَنْزلَ مِنْ بعدُ إلى فتاةِ الخُبز اليَوْمي؟ حاولْتُ أَنْ أَفهمَ فانْغَلَقَ عنِّي مَا انْغَلَق وضاءَ ما ضاء.
«أَبانا الَّذي في السَّماوات ليتقدَّسَ اسْمُكَ» أَتَعْني هذه البداية أَنْ لا نَطْلُبَ أَوَّلاً ما نحن بحاجةٍ إلَيْه، بلْ ما هو واجِبُ الوُجودِ بذاتِهِ ومِنْ بَعْدُ يتأَمَّنُ مَا نحن بحاجةٍ الَيْه؟ أَتَعْني أَنَّ الصَّلاةَ، كلّ صلاةٍ، يجبُ أَنْ تبدأَ بأَسْمَى ما يُمْكنُ أَنْ نرغبَ به ونَرْجوه، لِيَهْدي هذا السُّموُّ طريقنا للوصول إلى ما يجبُ أَنْ نقومَ به في سبيل تحقيق ما نطلب؟ أَفلا تَعْني أَنَّ الله يتقدَّسُ في قلوبِنا أَوَّلًا، وإذا ما تقدَّس هو، قدَّس أَعمالَنا؟ ومتى تقدسَّتْ أَعمالُنا يأْتي ملكوتُ الله، وتعمُّ إرادتُه على الأَرضِ كلِّها، وإذا ما عمَّ الملكوت، يَنْتَفي الخَوْفُ من الجوعِ والأَلمِ والمَوْتِ فيأْتينا خبزُنا اليَوْميُّ كفاة يَوْمِنا. وإذا ما أَتى الخبزُ عطيَّةً من الله، يعني أَنَّه غَفَر خطيئَتَنا وأَزالَ العقوبةَ الَّتي تَقْضي بأَنْ نأْكلَ خبزَنا بعَرَقِ جبينِنا، وبالغفْرانِ يُقَوّينا كَيْ لا نَعودَ إلى السُّقوطِ بالخَطأ مِنْ جديد، ويُنَجّينا منَ الشِّرِّير الَّذي يَسْعَى دَوْمًا محاولًا إسْقاطَنا بِمَا أُمِرنا أَنْ نتجنبَّ السقوط به، هذا هو رصفُ الأَبانا من الأَسْمى إلى الأَدْنى، فلماذا ترانا، في معظمِنا نطلبُ ما هو لنا أَوَّلًا قَبْلَ الغايةِ القُصْوى المَنْشودةِ أَي تَقْديس اسْمِ الرَّبِّ ومَجيءِ ملَكوتِه؟ نطلبُ المالَ والخبزَ والمُقْتَنَى، ثمَّ نَشْكُر، إذا خَطَرَ ببَالِنَا أَنْ نَشْكرَ الله على عطاياه لنا.
وهنا تردَّد في بالي كلامُ القدِّيس الأَكْويني حينَ وَصَفَ الصَّلاةَ بأَنَّها صَوْغُ رغباتِنا نَرْفَعُها إلى الله، فإنْ صحَّ هذا التَّحْديد، فهذا يَعْني أَنَّ رغباتِنا لا يمكنُ أَنْ تبدأَ بأُسْلوبِ تَحْقيقِها، بل بالغايةِ الَّتي نطلبُ الوُصولَ إلَيْها عَبْرَ تحقيقِ رغباتِنا، أَي بمَا هو أَسْمَى منَ الرَّغباتِ والحاجاتِ يَعْني بتَمْجيدِ مَنْ نَطْلبُ إلَيْهِ بالصَّلاة أَنْ يُحقِّقَ مَا نطلب.
لأَجْلِ ذلك، يقولُ القدِّيس توما الأَكْويني، بدأَ سيِّدُنا المسيح الصَّلاةَ الَّتي أَرادَنا أَنْ نتعلَّمَها، بطلَبِ تقديسِ اسْمِ الآب ومَجيءِ المَلكوتِ وتَعْميمِ إرادتِه على الأَرض، ثمَّ نزل إلى الخبز، وما ذلك إلَّا ليعلِّمَنا أَنْ نطلبَ أَوَّلًا مَجْدَ الله وملكوته، وطلَبْنا باقي الأُمور لَيْسَ إلَّا من أَجْلِ هذا المَبْدأ الأَساس. فمَنْ أَرادَ الخبزَ واكْتَفى، يجوعُ ويجوعُ ويركضُ خَلْفَ القُوتِ لأَنَّه يرى فيه سعادتَه، بَيْنَمَا مَنْ طلبَ مَجْدَ الله وتقديسَ اسْمِهِ، يرى من الخبزِ قوتًا من أَجْلِ العملِ على تحقيقِ الملكوت.
وعُدْتُ إلى واقعِ الحياة من هذا التأَمُّل الرَّبِّيِّ، فرأَيْتُ ويا للأَسَف، أَنَّ الكثيرين وإنْ تَمْتَمُوا هذه الصلاةَ الرَّبيَّة، لا يقفونَ عميقًا إلَّا عِنْدَ الخبزِ والمُقتنى والمُجْتنى، همُّهم منَ الدُّنْيا مَجْدُهم وتقديسُ النَّاس لهم وأَنْ يملأوا أَهْراءَهم بالخبز حتَّى ولَوْ أَكلَه العَفن. فتساءَلْتُ: كَيْفَ يأْتي المَلكوتُ، ومَنْ أوْكلَ إلَيْهِم أَمرهُ يظلمونَ ويطمعونَ ويسلبونَ وينْهَبون، ويدَّعونَ العَمَلَ بنِعْمَةِ الرَّب؟ وجاءَني الجَوابُ مع انْغِماسِ الشَّمْسِ خَلْفَ المِياهِ تارِكةً وِشاحًا أَسْوَدَ على الأُفُق: «حَيْثُ تَرى الطَّمَعَ والظُّلْمَ ومَوْتَ الرَّحْمَةِ وغِيابَ المَحَبَّة، تَيَقَّنْ أَنَّ الشَّيْطانَ هو رُبَّانُ تلكَ السَّفينة». فاستَبْعدْتُ مَجيءَ المَلَكوت.