يقرع النظام السوري هذه الأيام، ومعه ما يدعى بمعسكر الممانعة طبول النصر، وهو تقليد اعتادت عليه انظمة الاستبداد العربي عبر تحويل هزائمها الى انتصارات. خلافا لهذه الادعاءات، فإن النظام السوري غارق في مستنقع الهزيمة بالكامل. والأدلة على ذلك اكثر من ان تحصى.
اذا كان النظام يتباهى بالسيطرة على معظم الأراضي السورية، فان “الفضل” بذلك يعود الى تحالف استعماري مثلث مكوّن من الولايات المتحدة الاميركية وروسيا وايران. هذا التحالف هو الذي يمسك بمقاليد سوريا اليوم، وما على قادة نظامها سوى تنفيذ ما تريده هذه القوى. ليس نصرا ان تقع سوريا مجددا في قبضة الاستعمار.
عن اي نصر يجري الحديث وقد نجح النظام وحلفائه في تدمير معظم المدن والمناطق السورية، وسوّى بناها على الأرض، بما يعيد سوريا عشرات السنين الى الوراء. فكلفة الإعمار وفق تقرير صدر اخيرا عن منظمة “الاسكوا” ستبلغ حوالي 327 مليار دولار، لا يبدو ان القوى الدولية مستعدة للمغامرة في توظيفات واستثمارات في ظل النظام القائم. اما الهزيمة الفاقعة الناجمة عن تدمير سوريا، فتتجلى في تشريد حوالي نصف سكانها، ورميهم في مخيمات يعانون فيها المهانة والذل والمجاعة والاضطهاد الجسدي، ناهيك بانفلات العنصرية ضد هؤلاء النازحين في كل البلدان التي اجبروا على الهجرة اليها.
يفتخر الرئيس الاسد بان الحرب الدائرة وما نتج عنها من تهجير سكاني أدت الى خلق تجانس في سوريا. لم يشرح طبيعة هذا التجانس ومعناه، لكن الواضح منه اعتقاده ان من بقي في الداخل السوري هم من الموالين للنظام، وان المهجرين هم من أعدائه، بذلك يكون قد ضمن استقرارا داخليا وإلغاء للمعارضة عبر منع قواها من العودة الى الداخل. في كل حال، لم يتأخر أحد قادة اجهزة النظام الأمنية من تهديد النازحين بأنهم سيلاقون الموت اذا ما فكروا بالعودة الى سوريا.
هناك نصر يمكن الحديث عنه، هو تلك الإبادة للشعب السوري وتفكيك نسيجه الاجتماعي، وتسعير الصراع المذهبي داخل المجموعات الاجتماعية، إضافة الى تدمير الجيش السوري ونحر معظم قواه، بما يجعله عاجزا عن اي مواجهة مستقبلية مع اسرائيل. هذا الجيش موظف في الأصل منذ ايام الرئيس الوالد كحرس حدود لإسرائيل، وقمع الشعب السوري. لا يخجل النظام من حديث النصر في وقت لا تكف فيه اسرائيل عن توجيه الضربات الجوية داخل سوريا، من دون ان ترد القوات المسلحة على أي غارة. طبعا، هناك قاعدة ذهبية يتمسك بها النظام ولا يزال من زمن الأب الى زمن الإبن، بأنه يرفض ان تجره اسرائيل الى المعركة وفق رغباتها، فالنظام هو الذي يحدد مكان وزمان المعركة، وهي مقولة لم تعرف التنفيذ ولن تعرفه لا راهنا ولا مستقبلا طالما يُطبق نظام البعث على رقاب الشعب السوري.
اما تجليات الهزيمة فواضحة في ما يخطط لسوريا ضمن الحديث الجاري عن تسويات لتقاسم النفوذ. أول الهزائم تتمثل في ان المثلث الأميركي الروسي الإيراني قد ضمن أمن اسرائيل ومنع وجود اي قوى سورية او من الميليشيات الداعمة لها من التواجد قرب الحدود الاسرائيلية، بما فيه الغاء منطقة الجولان من الخريطة الجغرافية لسورية. هذه الضمانات لاسرائيل يرافقها إطلاق يدها في شن غارات متتابعة على الأراضي السورية من دون اعتراض من هذه القوى الضامنة. كان معبّرا ان تشن إسرائيل غارات على مواقع قريبة جدا من القاعدة العسكرية الروسية، ما يعني السماح للعدو بالتصرف من دون اعتراض.
اما الأسوأ من ذلك، فهو الحديث الصريح عن “تقسيم ناعم” لسوريا وفق تعبير للمندوب الأممي دي ميستورا. فالحديث الجاري اليوم لا يشير من قريب او بعيد الى عودة سوريا موحدة كما كانت عليه. بل على العكس، يتركز البحث عن كيفية تقسيمها الى مناطق نفوذ موزعة بين روسيا واميركا وايران وتركيا والأكراد.. وهو توزيع تضمن كل دولة من هذه الدول منطقة نفوذ محددة لها، وهو ما يعيد الى الذاكرة الانتدابات الدولية على بلدان الشرق الأوسط بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى واتفاقات سايكس – بيكو. يجري توزيع مناطق النفوذ من دون ان يؤدي ذلك الى تغيير في جغرافيا البلاد. اما حصة النظام السوري في هذا التوزيع فستكون خاضعة للنفوذ الروسي، ومعه النفوذ الإيراني. لا يشي هذا التقسيم بولادة سوريا آمنة في المستقبل، بمقدار ما يؤسس لنزاعات أهلية ساخنة.
اذا كانت القوى الدولية تسعى لتثبيت النظام ورأسه في المرحلة المقبلة، فإن ما عانى منه الشعب السوري لن يؤمن له الموالاة. واذا كان هذا الشعب مضطرا اليوم للقبول بما هو مفروض عليه، فلأن الحرب انهكته، الا ان المستقبل لن يكون مطلقا الى جانب النظام واتباعه وحلفائه.