في أحد الشوارع المألوفة

 

كلمة تقديم

هذه القصة فريدة من نوعها، حيث يتداخل فيها النثر الفني والشعر، على نحو لا يمكن الفصل بينهما، دون الإخلال بسياقها، وبنائها، وقيمها الجمالية العالية .

قصص بونين أشبه بالشعر المنثور، بجمال لغتها، ومعمارها الفني المحكم، بحيث لا تستطيع أن تحذف كلمة واحدة من أي نص سردي له دون أن يترك فراغاً، أو تستبدلها، دون أن يتشوه المعنى .

ولا ننسى أنه بدأ حياته شاعراً مجيداً، ونال أهم جائزة أدبية روسية في العهد القيصري، وهي جائزة “بوشكين” في عام 1903 عن ديوانه “سقوط أوراق الشجر”، ونال الجائزة ذاتها للمرة الثانية في عام 1909 عن الجزءين الثالث والرابع من مجموعة مؤلفاته الكاملة، وانتخب على إثرها عضواً فخرياً في أكاديمية العلوم الروسية. وظل طوال حياته الإبداعية يكتب الشعر أحياناً، ولكنه معروف في المقام الأول ككاتب قصصي من طراز رفيع. ويشكل مدرسة متميزة في فن القصة القصيرة، كسلفه العظيم أنطون تشيخوف.

إن الحب العارم، لا يمكن أن يدوم طويلاً، أو يكون له نهاية سعيدة. واذا انتهى بالزواج –على أحسن الفروض – يكون حال الزوج، كما جاء في المثل الفرنسي: “من يتزوج عن حب، تكون لياليه طيبة وأيامه تعيسة”. وهذا ما كان يؤمن به بونين، وقال – في أكثر من مرة – إن الحب الحقيقي، هو ذروة التوهج العاطفي. ولا يمكن للإنسان البقاء في هذه الذروة لفترة طويلة، فظروف الحياة يمكن أن تفرق بين الحبيبين في أي لحظة، وقد ينقلب الحب بمرور الزمن إلى ملل وكآبة ورتابة  وكما يقول بايرون: “غالباً ما يكون من الأسهل الموت من أجل الحبيبة، من العيش معها”.

في هذه القصة، كما في العديد من أعماله الفنية، وخاصة مجموعته القصصية الرائعة “الدروب الظليلة” مشاهد ايروتيكية، ولكن بونين يعرف، كيف يختار كلماته المعبرة عن الحب اللاهب، دون ان ينزلق الى مهاوي الابتذال، ويعرف جيداً الحد الفاصل بين “الإيروتيكا” الراقية وبين “البورنوغرافيا” الرخيصة، التي لا تتطلب موهبة حقيقية، أو مهارة فنية .

بطل القصة،  وهو مغترب روسي مسن، يتذكر، وهو يمشي على رصيف بولفار باريسي،   قصة حب عارم بينه وبين فتاة فقيرة من عامة الشعب، قبل عدة عقود من الزمن، عندما كان طالباً في موسكو. ويبدو من وصف البيت الخشبي والجرس المربوط بالسلك، والفنارات، أن البطل يعود بذاكرته إلى العهد القيصري، في أواخر القرن التاسع عشر. ومن الواضح أنه يستعذب ذكرياته  الحميمة، ويجد فيها سعادة حقيقية، يفتقدها، في شيخوخته في بلاد الغربة. فهي (الذكريات) سعادة قصوى، لأن ذكرى الماضي تنير روح البطل وتسمو بها .

عندما كتب بونين هذه القصة في عام 1944 كان في الرابعة والسبعين من عمره ويعيش في مدينة بجنوب فرنسا، مختبئاً عن عيون رجال الجستابو، خلال الاحتلال الألماني لفرنسا، ويمر بضائقة مالية شديدة، ولم يكن قد بقي شيء يذكر من قيمة جائزة نوبل في الآداب، التي حصل عليها في عام 1933. وكان يعيش على دخل شحيح يأتيه من كتبه المترجمة إلى الإنجليزية واللغات الأوروبية الأخرى. ان المعنى الحقيقي لهذه القصة، هو أن البطل انما يحاول التغلب على مصاعب الحياة باستعادة أسعد لحظات حياته.

إيفان بونين

القصة

في ليلة خريفية باريسية، كنت أمشي في بولفار خافت الضوء، داكن من الخضرة الكثيفة النضرة، حيث الفنارات تحتها تشع ببريق معدني – وانا أحس بالشباب والبهجة، وأردد بيني وبين نفسي :

في شارع مألوف

اتذكر منزلا قديماً

فيه سلم عال معتم

ونوافذ مسدلة الستائر

ابيات  رائعة! ومن عجب، ان كل هذا قد حدث لي ايضا في زمن ما .

موسكو. منطقة بريسنيا. شوارع مثلوجة مقفرة. بيت خشبي صغير،  وانا الطالب، ذلك الأنا، الذي لا اصدق الآن أن له وجوداً .

كان هناك ضوء غامض

يومض حتى منتصف الليل

وفي البيت الخشبي ايضا، كان ثمة ضوء يومض وعاصفة ثلجية تهب، والريح تجرف الثلوج من على سطوح البيوت الخشبية، فتلتف كالدخان المتصاعد، وتضيء ما وراء الستارة القطنية الحمراء .

آه، يا لها من فتاة معجزة،

تهرع للقائي في ذلك البيت

في ساعة أثيرة

محلولة الجدائل

وهذا ايضا حدث لي. ابنة شماس في مدينة سيربوخوف، تركت عائلتها الفقيرة وجاءت الى موسكو للدراسة … وها أنا أصعد الى الشرفة الخشبية الأمامية المغطاة بالثلوج، وأسحب حلقة الجرس. الممدود نحو المدخل. الجرس يرن وراء الباب.اسمع وقع خطوات متقافزة تنزل من السلم الخشبي الشديد الانحدار. تفتح الباب، فتهب عليها رياح العاصفة، وعلى شالها، وبلوزتها البيضاء… كنت أهرع إلى تقبيلها وأحضنها وأصد الرياح عنها. ثم كنا نركض الى الاعلى في البرد القارس، وعتمة السلم، الى غرفتها الباردة ايضا، المنارة بمصباح نفطي، شاحب الضوء. الستارة الحمراء على النافذة، وتحتها منضدة عليها هذا المصباح.  قرب الحائط  سرير حديدي كنت القي عليها معطفي وسترتي، كيفما اتفق، وأخذها عندي، واجلسها على ركبتي، وانا جالس على السرير، واحس من خلال التنورة بجسدها، وبعظامها .

لم تكن ضفائرها محلولة، بل كان لها شعر أشقر مجعد، ووجه فتاة من عامة الشعب، شفاف من الجوع، وعيناها ايضًا كانتا  شفافتين فلاحيتين، وشفتاها رقيقتين، كالتي تكون عادة عند الفتيات الواهنات .

تلتصق بشفاهي

ليس على نحو طفولي

بل متوقدة كالناضجات

وتهمس في أذني مرتعشة

أسمع دعنا نهرب!

نهرب! الى اين  وممن؟ يالروعة هذه السذاجة الطفولية “نهرب”!

نحن لم يكن لدينا “نهرب” بل شفاه واهنة، هي احلى شفاه في الدنيا. ودموع تطفر من عيوننا من فيض السعادة. وبسبب الاجهاد المضني للجسدين الفتيين كان كل واحد منا يضع رأسه على كتف الآخر. وكانت شفتاها تشتعلان، كما في القيظ. عندما كنت أفك أزرار بلوزتها، وأقبل الصدر الحليبي البكر بحلمتيها الصلبتين، غير الناضجتين … وعندما تستعيد وعيها ، تقفز وتشعل الطباخ الكحولي، وتسخن الشاي فنشربه، ونحن نأكل الخبز الأبيض مع الجبنة ذات الغلاف الاحمر، ونتكلم دونما نهاية عن مستقبلنا، ونحس كيف  أن الرياح الباردة المنعشة تهب وراء الستارة، ونسمع تساقط الثلوج على النافذة:

“في شارع معروف أتذكر منزلاً قديماً”.

ماذا أذكر ايضًا؟  أذكر أنني ودعتها  في ربيع تلك السنة في محطة قطار كورسك. كيف اسرعنا الى الرصيف مع سلتها المصنوعة من الصفصاف، وبطانيتها الحمراء الملفوفة والمشدودة بالأحزمة، ركضنا بمحاذاة القطار الطويل، الذي كان على وشك التحرك، اذكر كيف صعدت أخيرا الى مدخل احدى العربات، ونحن نتحدث قبل الوداع، ونقبل ايدي بعضنا البعض، وكيف وعدتها باللحاق بها في سيربوخوف بعد أسبوعين. لا أذكر أي شيء بعد ذلك. ولم يكن هناك شيء بعد ذلك أبداً.

 

اترك رد