أودّ بدايةً أن أقول للذي يدخل عَجولاً عالم نهاد الحايك الشعري، أنّ عليه أن يعي صِدقاً مدى جاذبية هذا الكون وقوة طاقاته، إذ أنه يلج كوناً صاخباً، بُعداً يتجلّى في حدّة مراميه ومعانيه وبريق انقشاعاته وسِعة مداه.
مَن يقرأ “اعترافات جامحة” هو كالمغامر الذي يغادر من ربوع لبنان المنمنمة، إلى رحاب الكون الكبير الواسع المترامي الأطراف؛ ينتقل بطرفةِ عين من مسكنه في الكوخ الصغير إلى قصرٍ أسطوري فيه مئاتُ الغرف، وكل غرفة تحتاج إلى عشرات بل مئات الساعات لأجل أن نُحصي محتواها.
لذلك، نَعلم يقيناً أن ما يميِّـز نهاد الحايك هو تلك الكثافة والأبعاد الرحبة في شِعرها، إضافة إلى التوثيق والحشد في كل ما تقدمه. كذلك نجد ونحن نقرأ تفجُّر الإشعاعات النورانية والتوراتية الرؤيوية، حيث تندلع الانفجارات البركانية في صخب اللحظة المتكررة والتي تتخطى شريط الزمن المعلوم، وتكثِّف الزمكانية والمادة واللغات وأنواع وطرائق التعبير…
ففي قصيدة “احتراق” (ص 28 إلى 33)، نجد إلى مزاج الكاتبة إضافةً أخرى، فها هي قد اعتمرت قبعة نبيٍّ من الأنبياء ووقفت ملتحفة برداء أشعياء على خراب بيروت:
“… لكن أرضي اقْـتُلعَت
من زَهْوِها إلى خَراب،
يَنْعقُ فوق رأسِها
ألْفُ غُراب.”
ووقفت أيضاً على أشلاء حواضر العالم حيث تزور الحروبُ والكوارثُ الضعفاءَ المتروكين لمصيرهم.
“أخبريني يا جراحاً حارقة،
يا وديان الأصداء الضائعة،
يا قبوراً بظِلالنا مُغَطّاة:
هل سقطَتْ مع كل شهيدٍ قضية؟
هل تلمَحين في الكون اضطراباً؟
أم سنجفُّ كالمياه
في جرارٍ مَنْسيّة؟”
وقفت نهاد كسيدة متَّشحة برداء قرمزي من الحسرة والمرارة ترفع الصوت مبَكّتةً هكذا حضارة ضارية، مجانية، عبثية، مجرمة، قاتلة، تسبي الرجال والنساء والرضَّع والعجائز من دون تفرقة، دافعةً كلَّ حيٍّ إلى آتون الجحيم الأزلي في عجلةٍ دوارة، في سجن كبير من عذاب جائر لا ينتهي.
“في أيِّ وادٍ تسيلُ خطايانا
لنشيخَ بين الثواني؟
بأيِّ حِبرٍ نُقشَتْ وصايانا
لِنَهيمَ في برِّية اللغات؟”
ولنهاد الحايك طاقة دافقة من الحب الكوني، تجعلها تتماهى مع كل ضحايا الأرض ولو كانوا بالملايين. تجد نفسها في كل حادثةِ موتٍ معلن أم غير معلن، في كل نكبة وحرب وفي وجه كل أم ثكلى وإنسان موجوع حتى الصراخ والاستغاثة.
“ما من جسدٍ تشَظَّى
إلا وفيه من جِلْدي مَسامة،
ما من نجمةٍ هَوَتْ
إلا في محيط أحزاني”.
هذه الشاعرة تعلن إنسانيتها بشكل فائق، من دواخل مشاعرها القدسية النابعة من روحها المتجاوزة، المكثَّفة بين رياحين الحقول وعطور الخزامى التي محقتها وحشيةُ الحضارة أو عبثية الحرب.
“للمدنِ ضجيجٌ وحدائق،
ولنا مدينةٌ، من خوفها،
تَكوَّمَتْ في حُضنِ أُمّ…
مَن يُخمِدُ جنونَ الحرائق؟
لا مياهَ إلا في عيوننا،
ولعيون الأرض أهدابٌ من حجر”.
في هذا الكلام، أمهات الحقائق وعيون الشعر ومنابع الوحي الأصيل غير المزغول، إذ فيه صورة الوجود تخرج إلى العلن، دون مواربة أو محاباة، تذكِّرنا بما قاله جبران خليل جبران ذات مرة: “العين التي لا تدمع لا ترى”. وكذلك تقول نهاد إن عيون الآدميين هي ذاتها البحر، الينابيع، السواقي، وسط جفاف الأرض الصمّاء، الدهماء، الغاشمة الكامنة!
في كلام نهاد دعاء ودعوة، افتتان بالوجود وصرخة مدوّية في وجه الزمن وفي وجه تلك الحضارة، تصفع كبرياءها وتتحدّى طاقتها الشريرة التي نجهلها نحن البشر، ونبذل كل جهدنا لكي نحاربها. ولكن في معظم الوقت يخفق الإنسان، لأنه في الواقع لا يعرف مَن وماذا يواجه، ولا يستطيع أن يقدِّر مَن هو عدوُّه الحقيقي، إذ تقول نهاد:
“في هذا الوطن الطاعن في الاحتراق،
صِرنا في الحياة
لا لنحياها،
بل لأننا لم نَـمُت.
لكننا كل مساء
نموت حتى الصباح،
لنصقل نرداً دحرجَهُ الإله”.
هذه الصورة واقعية على الرغم من تركيبتها الشعرية الخارقة والخيالية. وفي قصيدة “احتراق” أيضاً نقع على “سيزيف” الجديد، وأسطورة العودة الأبدية، حيث التكرار الأبدي والعبثي للأوجاع والآلام، وحيث تغدو الحياة شبيهة بالمقامرة، لعبة نرد وانقلاب حظوظ، أحجية غريبة عجيبة، رحلة النزول والانحدار إلى عمق الوادي وارتشاف السم من فم الغول. ونحن البشر نواصل الصراخ واللطم وقرع الأبواب المقفلة دائماً وأبداً وما من سميع مجيب، فلا أحد يميط اللثام عن هذا السر.
“… أن نحمِلَ الصخرَ،
نُقيسَ الدهرَ،
نلهثَ إلى جبال الرجاء،
وصَوْبَ الوادي نُعيدُ النُـزول؟
هل ينبغي ارتشافُ السُمِّ
من شفتَي الغول،
لِـفَكِّ لعنةِ الأقدار؟”
لكن في نهاية المطاف، لسوف تفيض البئر بالكوثر، ولا بد أن يتفجر النور وتنبثق الأنوار من أعماق العتمة، فالتجليات بانتظار الإنسان المعذب.
“لا نعرفُ السارقَ المجهول
الذي يُفرِغُ البئر،
لكن البئر بالكَوْثَرِ تَفيض”.
قصيدة احتراق هذه، هي قوةُ ارتفاعٍ وتَـجَلٍّ، فيها طاقة وحِدّة تذكِّرنا بارتفاع الذبائح في معابد الآلهة، قصيدةٌ ذاتُ نبض قوي، تعيد إلينا صور قصيدة “المسيح بعد الصلب” لبدر شاكر السياب، حيث مفاتن الإلهيات تتعانق مع تراب الأرض والنسغ وعصائر الكائنات وحيواتها، تستعدُّ لتتفجر ماءً. وأيضاً نستعيد قصيدة “الأرض اليباب” لـــ ت. س. إليوت، و”نهر الرماد” و”بيادر الجوع” لخليل حاوي، و”النهر المتجمد” لميخائيل نعيمة. كما نرى نزهات أخرى، حيث يصدح مدوِّياً نفيرُ القيامة، يزعق بالتنبيه بكل ما أوتي من قوة، وحيث تتناوب عجِلةً همساتُ الكون مع صراخ الكوارث العظمى في أودية القارات، حيث الفيضان وحيث العطش، حيث الولادة الجديدة وحيث العظام المكلَّسة في القبور، حيث العصافير الضعيفة الصغيرة المرهفة، وحيث البازيّ الناعق الصاخب ومخالبه الناهشة الآكلة الضارية النهمة.
لنشيخَ بين الثواني؟
بأيِّ حِبرٍ نُقشَتْ وصايانا
لِنَهيمَ في برِّية اللغات؟
للعالم طيورُه الزرقاء،
ولنا صقورٌ
تغرزُ في لحمِنا عقاباً غامضا”.
تبرز من كافة القصائد ملامح لوحة حية للوجود، تمزج الفرح بالحزن، ترسلنا في سرديتها النابضة بطرفةِ عين، إلى مناخات الواقعية السحرية، إذ يتعطر جو القصائد بمشهديات ميتافيزيقية حادّة تشبه مناخات سِفر الرؤيا ووقفات الشعراء الذين يستنهضون أمّةً بحالها. كما تتحوّل نهاد الحايك إلى كائن كَونيّ هو كل البشرية وكل الضحايا. وحين تسأل القدر والوجود عن المصائر، ترى إلى نفسها نفساً تائهة، تحاول إحدى المدائن استلابها وسجنها ومحاصرتها. تقول عن حياتها في نيويورك في قصيدة “ضباب” (ص 25):
“أشقُّ الأرصفة كجدولٍ يبحثُ عن نبعه
عَـبْـرَ مُنـعَرجاتٍ حالِكة،
وأَهيمُ في عالَم يمتدُّ كمرآة
حافلة بما لا يُلمَس…
كأنَّـني أضاعَـتْني بلادي”.
نهاد الحايك، أيُّ ماردٍ توقظين في أفكارك وتُـمِيتينَـــهُ في انتصاراتك؟!! في سريرتك صخبٌ يتساكن مع هدوء، صلواتٌ تتصاعد في معابد مع سبحات وأهازيج وتضرُّعات. يعيش في داخلك مارد وطفل، زنبقة وعوسجة، شلالات صاخبة وخمائل وادعة، أبواق صادحة وألحان شجية، نيران آكلة وحمم ودخان وغبار ونسائم وادعة وريح عليلة ساكنة، وعواصف وبروق ورعود وإعصار وانقشاع وعطور واغتباط. تلميذة المدرسة والسيدة الناضجة، حاملة الطيب وسيدة المنابر، الزاهدة والساكنة في العالم، بيدٍ الاحتراق وبأخرى ثلجُ صنين النقي ومُبَـرِّد الروح وناقع الغليل…
كل قصيدة في هذا الكتاب بركان، ومضٌ من ذرات الأوقيانس، مكثَّف على شكل كلمات ومحسنات بديعية لكي يحسن الآدميون لفظها وفِقْهَ معناها. تقول في قصيدة “أيُّ توق؟” (ص 124):
وعُدْتُ لا ياقوتَ ولا حجر.
تَـلَـوْتُ أناشيدي
أعادَها الصدى أشلاء.
ذبائحي أحرَقْـتُها،
قِـبَبُ الأحلام شَـيَّدتُها،
وفي كَفّي نبتَتْ صحراء”.
بيد أن ما تخفيه الكلمات كثيرٌ كثير لم يُقل بعد. مَن يدَّعي أنه يستطيع أن يفهم المرأة من مجرد أن يمرَّ طيفُها بالأمكنة ويمسح الجدران بعطرها الأنثوي ونبض قلبها؟! مَن هو بقادر على معرفة ما في داخلها من شلالات عشق وفرح واحتفالية؟! أيُّ رجل يستطيع أن يفهم فعلاً ما هي المرأة الشاعرة، الرائية القابضة على نواصي الوجود وسحر الألق؟
وعليه، تبقى القصائد في ثورتها تعلن حبها وأصالتها. فإلى جانب الوجه الرؤيوي لاعترافات نهاد الحايك، نقرأ في القسم العاطفي من الديوان “الحب يقيناً على قارعة الأوهام”، اعترافات صادحة عن حب أبدي سرمدي عابر للوجود. تقول في قصيدة “البداية” (ص41):
أخطُّ أبجديةً
مرصعةً بالوعود والدموع،
وأجترحُ مع كل شمسٍ معجزة”.
نشعر ونحن نقرأ قصائد الحب أنه حب لرجل واحد، لا قبله ولا بعده، رجل تماهى مع الحقيقة لدرجة أنه أصبح خرافة، رجل يثير حسد كل الرجال، إذ له تقول في قصيدة “رجل واحد” (ص 44):
“نبضةٌ واحدة
ولْيَسكُت القلب،
خطوةٌ واحدة
ولْتَـنْـتَهِ الدرب،
قبلةٌ واحدة
ولْيسافر القمر،
رَجُلٌ واحدٌ
ولْيهاجر البشر”.
هذه العبارات تقولها فقط، وأردد فقط، امرأةٌ بطلة، في شرقنا البائد ومجتمعاتنا المتخلفة، حيث المرأة كما يقول نزار قباني يُختلس النظر إليها من ثقوب الأبواب، وحيث المكبوتات تختلط بالرذائل والمعاصي. وحدها نهاد الحايك تجرأت وأعلنت عن دفائن قلبها بشجاعة وبطولة، غير مترددة. كتبت في قصيدة “يداك” (ص 48):
“يداك رياحٌ عَـتِـيّة
تَقتَلِع جذورَ الأمان،
كُلَّما هبَّت عليَّ
تُضمِّخُني بالعطرِ واللون،
تُـنيرُ لَيلي بِـبُركان،
تُحطِّم هياكل الـخفَر،
لتَجترحَ في الجسد قيامة،
تُخلصه من بؤسِ البشر
فيُبصِر من الخلود علامة”.
حبٌ شجاع، حب محيي، قوي وهادئ. امرأة مصنوعة من معدن البطولة الصرف. هكذا هي نهاد الحايك، صاحبة كلمة وعاطفة، شاعرة ثورية، تتحدى الوجود وذكورية العالم من غير أن تخلع مقدار ذرة من أنوثتها…
*****
(*) صادر عن دار سائر المشرق، 2015.