قصيدة “الحدّ اللاّمعقول”لـ”محمد نصيّف”

إطلالة إعلامية من خلال حدقتي شاعر

المعنى الأوّل للنص الأدبي يكون  مخبؤه في مغارة من مغارات عقل وقلب كاتبه، يظلّ المعنى الأوّل كامنا في المغارة حتّى يقرّر الكاتب التصريح به للمتلقي ،وقد يتزامن خروج المعنى والإفصاح به مع ميلاد النّص واستقباله من قبل القاريء/ المتلقي.

يحدث حينها أن تمتدّ حلقة وصل بين السياقات الخارجية،ومضامين النّص،السياق الخارجي في كثير من النصوص الأدبية لا سيما النصوص الشعرية  هو المنتج الأوّل للنص وهو مانح النّص دلالته الأولى، باعتباره الحافز  الذهني والشعوري على الكتابة ،غير أنّه وحتّى ساعة اكتشاف السياق وعلاقته بالمضمون لن يمنع القاريء من توليد دلالات وتأويلات جديدة تمنح النّص  دلالات أخرى مغايرة ،وتعيد إنتاجه من جديد بعد كلّ قراءة.

إن كانت كثير من النّصوص الشعرية تكتب من خيال الشاعر، ومن تداعيات اللاّشعور اللاّمنفصل عن نشاط ذهني مطّرد، ومن صور تموج بها حياة موازية يرسمها في وجدانه ويلوّنها بما شاء من ألوان وتنتج عنها تجارب شعورية لا وجود واقعي لها، فإنّ هناك عدداً كبيراً من النّصوص الشعرية وليدة تجربة واقعية،أو حادثة فعلية لا خيالية، يجمّلها الشاعر بالعبارة وبالصياغة وباختيار طريقة النقل من الواقعي العادي أو رصد اليومي إلى الشعري الجمالي، ولعلّى الكثير من الشعراء  الذين يكتبون قصائد من نتاج الحدث الواقعي ، نجدهم أطباء ، مدرسون ، محامون ، مهندسون ، حيث يوظفون مفردات حياتهم المهنية في فضاء القصيدة، فتخرج القصيدة للقرّاء متوشّحة بوشاح يفوح بعطر المحيط الذي انطلقت منه، كأن تخرج من إطارمخطط هندسي أو من أسوار غرفة علاج أو جدران غرفة عمليات، أو تتفجّر في أروقة المحاكم أو من زوايا مكتبة محامي، أو تكون مستوحاة من قاعات المدارس والصفوف أو من مدرجات الجامعة ،هذا ما يحدث ـ غالباـ حين يرتبط حبل القصيدة السُرّي بحادثة تمتّ بصلة لميدان عمل الشاعر.

ثمّة ميادين كثيرة يتواجد فيها الشعراء، ولا يتبادر لهم أن ينقلوا شعرياً، شيئا ممّا هو في ميدانهم، كمجال الإعلام ـ مثلاـ مجال من المجالات الحيوية الخصبة،ذات اتصال وتواصل يومي بالحياة وإيقاعاتها الصاخبة والهادئة ، وممّا لا شكّ أنّ في مجال الإعلام، سوى المكتوب أو المقروء أو المسموع، عدد من الشعراء والموهوبين، لكن ثمّة نقص في نقل التجربة شعرياً، طبيعي أنّ الشعر ليس مسجّلا للأحداث ، لكن ثمّة مواقف في مجال العمل يكون لها وقعها الشعوري المختلف سوى إعجابا أو انزعاجا أو تفاجئا أو غير ذلك من المشاعر التي ترد عقب موقف ما، ومن ثمّة تكون ردّة الفعل قصيدة لدى الشاعر وإن كانت ولادة الفكرة في مكان بعيد عن مجال الكتابة الإبداعية وأجوائها ،لكن هذا ما يندر العثور عليه في مجال الإعلام رغم أنّه بيئة تموج بالتجارب المثيرة والمستجدّة التي من شأنها أن تحفّز الذهن على الكتابة وتشحذ قلم الإعلامي ذو الملكة الأدبية الأصيلة على الإنتاج الإبداعي.

رغم ندرة النّصوص الشعرية، التي يتّصل نسغها بالوسط الإعلامي ، نجد على سبيل المثال، قصيدة للإعلامي الشّاعر العراقي “محمد نصيّف”،استدعى فيها التجربة الإعلامية،وأصل استدعاء التجربة نابع من حادثة واقعية رواها الشاعر بنفسه في أكثر من مجلس، وفي برامج تلفزيونية كان ضيفا فيها ،من بينها برنامج ” دنيا يا دنيا “في قناة “رؤيا الأردنية” ضمن حوار،وعنوان القصيدة “الحد اللاّمعقول”.

السياق الخارجي لقصيدة “الحدّ اللامعقول” كما يرويها الشاعر، كان سبباً في ميلاد القصيدة، ومختصر السياق  تعليق قصير وصل الإعلامي الشاعر عقب برنامج سياسي كان يديره ،البرنامج يتيح للمتابعين وضع تعليقاتهم على موقع القناة، وإذا بجميع المتابعين يخوضون كالعادة في النزاعات والإصطفافات والمناصرات وكل ما يمكن أن تنتجه الحوارات السياسية من جدالات ومشادّات كلامية ، قد تفضي للمنخرطين فيها  إلى قمّة العداوة في كثير من الأحيان .

تكتب المتابعة تعليقها القصير وسط زحام التعليقات السياسية عقب بث برنامج سياسي، تعليقها لا سياسي ولا يمتّ للبرنامج بصلة سوى الإطراء على  معدّ ومقدّم  البرنامج ووسامته،تعليقها كان كفيلاً بردّ الإعلامي إلى ذاته الشاعرة في لُجّة  احتدام تعليقات سياسية، ومنه برق ضوء القصيدة، قصيدة تبدو ردّة فعل جمالية على تعليقها الذي تقول فيه ” لماذا أنت وسيم للحدّ اللامعقول ؟”.

 نواة النّص تمتّ بصلة  مباشرة للسّياق الخارجي،وضع الشاعر الحادثة الواقعية في قصيدة حوارية تقوم على صوتين صوت الإعلامي الذي ما انفكّ يقرأ تعليقاً جميلا أخرجه من بوتقة النزاعات المتفرّعة من السياسة وما تعلّق بها ، وصوت المتابعة التي تركت محتوى البرنامج وكلّ النزاعات وعبّرت عن وسامة الإعلامي ،وإن كان مساحة التعليقات لا تتيح ذلك لكنّها كتبت ما تبادر لها ساعة مشاهدة البرنامج.

مطلع القصيدة يأتي بصوت المتابعة،وذاك منطقي فهي الأساس إذ كان تعليقها الجميل واللاّمنسجم مع باقي التعليقات حافزا لميلاد قصيدة تنقل للقرّاء جزءاً يسيرا من توظيف الإعلام والتجربة الإعلامية شعريا ،ورد في بداية القصيدة:

تأسِرني الدهشة ُ

حينَ أشاهدُ برنامجَكَ اليوميْ

يَبْهَرُني هذا الوجهُ الباسمُ كالفجرْ

فيثيرُ جنوني

تتسمّرُ عينايَ بشاشةِ تلفازي

فأقول بقلبي عجباً لمذيعٍ يسحرُنا

حتى حينَ يردّدُ أخبارَ الحربِ

على المدن ِ العربيّةِ نشعرُ

أنّ الحربَ عروضٌ للأزياءْ

فنحلّقُ في دنيا الأضواءْ

فكأنّ قناتكَ تعملُ سراً للأعداءْ

إذ تختارُ مذيعاً

تنسينا بسمتُهُ أحزانَ المقهورينَ

وتلهينا عن أوجاعِ الوطنِ المقتولْ

فلماذا أنت وسيمٌ  للحدِّ اللامعقولْ .. ؟

يأتي المقطع الأول من القصيدة بصوت المتابعة، والتي تبدي انبهارها وإعجابها بالمذيع حدّ تسمّر عيناه بشاشة التلفاز ، والتفكير في أنّ ثمّة تآمراً في اشتغاله بالقناة ،وهي تعتقد أنّ الجمهور لن يهتمّ بمتابعة البرنامج بل سيهتمّ مثلها بوسامة المذيع وحضوره وبسمته حتّى وسط تلك الأوجاع والأحزان العربية التي ينقلها لمشاهديه .

في صوت المتابعة بهذا المقطع تصوير لما حدث ويحدث وسيظلّ يحدث من تعلّق بعض المشاهدين بمذيع ما أو مذيعة ما وافتتانهم بمظهره أو بطريقة إدارته لبرنامجه أو تقديم نشرة أخبار حتى وإن كانت مليئة بالدماء والمآسي، سيراها المتابع المفتون بالمذيع أو المذيعة من منظور آخر وهو المنظور الجمالي الذي لا يغرق في تفاصيل ما يقدّمه المذيع أثناء أداء وظيفته ، وهنا تقارب كبير بين التعلّق وافتتان المشاهدين ببعض الفنانين، أو تعلّق الطلاّب بأحد أساتذتهم أو غير ذلك من النماذج المقاربة ممّا ينقله هذا المشهد الشعري بصوت امرأة متابعة لبرنامج تلفزيوني تسأل الإعلامي في تعليقها قائلة : “لماذا أنت وسيم للحدّ اللامعقول؟”

أمّا النصف الثاني من القصيدة بصوت المذيع،وهو يردّ على متابعته التي اختلفت عن بقية المتابعين بتعليقها الجمالي الحامل إعجابا بمظهرهو إطراء عليه له فيقول:

حين أخاطبُ جمهوري

أعرفُ أنّكِ حاضرةٌ

تختصرينَ ملايينَ الجمهورْ

وأحسُّ بعينيكِ الساحرتينِ

تبثانِ إشاراتٍ كهروروحية

تأتيني عبرَ الأقمارِ

وتنسلُّ إلى روحي ألقاً

أزدادُ بريقاً ووسامة ْ

فلأنكِ جمهوري الأحلى  

ولأنكِ جمهوري الخارقُ للمعقولْ

كنتُ وسيماً للحدِّ اللامعقولْ

يمزج الإعلامي في ردّه على متابعته بين القاموس اللغة الإعلامي وقاموس اللغة الشعري، فيستخدم مثلا:(جمهوري، الأقمار)،وهي كلمات متداولة أكثر إعلاميا،ويستدعي الكلام عن العيون وسحرها وبريقها والروح وألقها، وهي عبارات مركّبة  من قاموس شعري وتراكيب شعرية، كما أنّه مزج بين الجانبين (القاموس الإعلامي والقاموس الشعري) في قوله:

“وأحسُّ بعينيكِ الساحرتينِ

تبثانِ إشاراتٍ كهروروحية”

كلمة (كهروروحية)،هي كلمة منحوتة من كلمتين( الكهرباء / الروح)، للدلالة على التأثير القوي للنّظرة حين تكون حاملة دلالات كثيرة، وبما أنّ النّظرة ليست بالقرب بل من خلف شاشة التلفاز تمّ استعارة قوّة الكهرباء التأثيرية مع عدم إغفال قوّة تأثير المشاعر من خلال توظيف  كلمة “الروح”.

ويختم الإعلامي الردّ على متابعته المتفرّدة،بارجاع فضل وسامته وحضوره التلفزيوني المتميّز لها هي باعتبارها عينة من الجمهور، وبصفتها متابعة مختلفة بما كتبته في مساحة التعليقات المتاحة لمتابعي برنامجه السياسي .

“ولأنكِ جمهوري الخارقُ للمعقولْ

كنتُ وسيماً للحدِّ اللامعقولْ”

البديع في قصيدة ” الحدّ اللامعقول” للشاعر العربيّ العراقي “محمد نصيف”، ليست الحوارية التي نهضت عليها فكثير من النصوص الشعرية نهضت على الحوارية قديما وحديثاً،وليس التميّز في اختيار القافية ولا في تحديد  البحر ولا في الالتزام بالوزن الذي  سكب الشاعر في وعائه الكلمات والمعاني متجاورة مع المشاع،إنّما البديع فيها هذه اللّفتة في إدخال الشّاعر قراءه، إلى ميدان عمله من خلال حدث قد يبدو عادياً عابراً إذا ما تمّ قراءته أو سماعه خارج نص القصيدة ،لكنّه في عرف الشّعر وفي وجدان الشّاعر ليس بالحدث العابر،ويكفي أنّه كان حافزاً أوّل في كتابة القصيدة،وفي فتح نافذة للقرّاء ليطلّوا على مجال الإعلام من خلال حدقتي شاعر إعلامي.

يجدر الإشارة أنّ للشاعر والإعلامي محمد نصيّف مجموعتان شعريتان مطبوعتان،إحداهما تنهض على تيمة الحب والحضور الكثيف  للغزليات وهي بعنوان ” الأزهار تموت في آذار” والثانية يغلب عليها الطابع الوطني و الهم القومي والوجع العروبي،تصدّرها عنوان كبير” على أجنحة الحلم “، بالإضافة إلى هاتين المجموعتين للشاعر مجموعات أخرى مخطوطة في طريقها إلى النور قريباً.

 

fatmanecir@hotmail.com

اترك رد

%d