فيليب سالم… حدَّد معنى لبنان في أبعاد رسالته

يلامس الأسطورة حب فيليب سالم لبنان، حيث يستحيل المستحيل ممكناً. حب شعوري حسِّي يتلى كسبحة الوردية وكمحبسة القديسين. تحبه إذا قبَّلت يده وعانقته ولامست أهدابه ومرَّغت جبينك على جباله وتعمدت في أنهاره. تحبّه إذا أصبحت جزءاً منه، عضواً في جسده. واتخذت لك عرزالاً في فيافيه ورويت حكاياه الكثيرة والعتيقة بعتق نبيذه وقِدم أزمانه وعبق أساطيره، وإلا فحفنة من تراب وشتلة زيتون وعصرة زيت حيث تكون في أصقاع الأرض.

تواردت هذه الأفكار إذ باشرت قراءة كتاب فيليب سالم “رسالة لبنان ومعناه” وتفاعلت مع روايته لأبنائه المضمّخة بالعطر والعنبر، التي وضعت لبنان موضع الأساطير. يتكلم باسم الناس كل الناس، النخبة منهم، صوتها أعلى ووسائلها أكثر وفرة، لكنه صوت العامة أيضاً، يجاهر بالآراء والمواقف التي تهمس بها في سهراتها ومقاهيها، ويعلن ما يتكلم به الخاصة وما تتوصل إليه الدراسات. يجبل ما حمله معه من القرية بما رفدته به القرية الكونية فيتوصل إلى رؤية تغاير رؤية المقيمين وحتى المغتربين الذين لم يبلغوا في المعرفة حيث بلغ.

يَنْطُق لبنان برسالته ومعناه، باسم الغالبية الساحقة من أبنائه الغلابى وباسم الكثرة الغالبة من نخبة مثقفيه، فيقول إن لبنانه هو لبنان الرسالة والحضارة، الرسالة في تعدديته الثقافية ذات القيم الحضارية المشتركة القائمة على المحبة والفرح والسعادة والطهر، والحضارة في تراث عتيق عميق يعود إلى أكثر من 5 آلاف سنة من توازي الثقافات على الألفة والعونة والمؤاجرة.

مقالاته في افتتاحية “النهار” منذ التسعينيات، حين قال له غسان تويني “الكلمة التي لا تُعمَّد بالحبر تموت”، مجموعة في كتاب، عبّر فيها في مناسبات مختلفة عن آراء سياسية وفكرية وثقافية… ضمَّنها ما كان يردده اللبنانيون سرّاً، فأعلنه جهاراً في مراحل حرجة من تاريخ لبنان الحديث، لافتاً إلى معلومة أو باحثاً في ما يجب أن يتوجه إليه الشعب أو الحكام، أو موجِّهاً إلى حلٍّ ما.

ورغم آنيّة مجمل المقالات لارتباطها بمناسبة ما أو حدثٍ ما في مرحلة زمنية محددة، إلا أن معالجته تستشرف توقعات وتبحث في حلول وإن لم ترسمها، فالفكر السياسي يستند إلى سندين هما الفلسفة ببعدها الكوني والمعرفة بما هي تراكم خبرات.

يقرأ بوصلة السياسة جيداً فلا يخطئ في اتجاه الشمال، ومنه يحدِّد اتجاهاته، خصوصاً الاتجاه المعاكس، قطب الجنوب، حيث مشكلة لبنان والعرب الأولى، وحيث المشكلة يكون الحلّ.

وقضية الجنوب بما كانت عليه، وقضية فلسطين بما وصلت إليه، لا حلَّ لهما إلا بالشرعية الدولية، وإن بدت منحازة تارة ومتورطة طوراً، ومنتقصَة قراراتها أحياناً، لكنها تبقى الملاذ الأفضل عن غيرها من الملاذات.

وضِمن ثوابته السياسية أن لبنان أولاً، عربي الانتماء، عدوّته إسرائيل، قضية فلسطين هي قضيته، كما هي قضية العرب الأولى، لكن ما دامت هذه القضية لم تُحلّ فستدخل دول وتخرج أخرى من لبنان، وتهميش هذه القضية أدى إلى الحرب في المنطقة. “وإذا كان اللبنانيون كلهم، ومن دون استثناء يعتبرون إسرائيل عدوهم الأول، فإن هذا لا يعني إن دولاً عربية أو صديقة كسوريا وإيران لها الحق في استعمال لبنان، الشعب والأرض، لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في هذا الشرق”.

لا تنمو حضارة الشرق في صراع الحضارات، بل في وئامها، وكلُّ مغاير لذلك مغاير للحضارة، وهذا ما رأيناه بهدم الحضارات. رمت الحرب في لبنان بدءاً، وفي الشرق كله راهناً، إلى “قتل حضارة مميزة: حضارة الحرية والحوار، حضارة التسامح والاعتدال، حضارة الثقافات المتعددة”. وذلك لمصلحة الدول الطائفية-المذهبية والعشائرية وعلى رأسها الدولة اليهودية.

ومن عباراته المأثورة والآسرة قوله إن “الشرق أبدع في اكتشاف الله، إلا أنه لم يكتشف الإنسان بعد”، وهنا مكمن التخلُّف، لأن الشرقي لا يوازن بين وجود الله في أعلى ووجود الإنسان على الأرض، وفقدان التوازن هو المعضلة، التي رأيناها رغم التطور البشري في القتل باسم الله وهدم الحضارات باسم الدين، وهذه دعوة إلى الكفر وليس إلى التديُّن.

إنّ لبنانَ فيليب سالم كيانٌ حضاريٌّ ووطن عالمي ورسالة ثقافية، يقوم على ركائز الحرية والفكر والإبداع. بنى عظمته في التاريخ والعالم على إنسانه. بحث عن الإنسان فما وجده إلا في الحرية، واللبناني يحمل رايتها، وهو قادر على صنع الرسالة وحملها. الرسالة في أن يبقى لبنان أنموذجاً لحضارة مميزة وفريدة.

لا تبنى الأوطان إلا بالمعرفة والعمل المضني، هكذا يجب أن يبنى لبنان، ألم يبنِ اللبنانيون في المغتربات بهاتين الوسيلتين؟ كما “أن مسؤولية صنع وطن هي مسؤولية شعبه قبل أن تكون مسؤولية حكامه”.

لكن لبنان الوطن هو “رسالة” كما وصفه البابا يوحنا بولس الثاني، وهي رسالة الإنسان، كما حدَّدها سالم، داعياً إلى التشبث بها لأنها “ليست رسالة للمسيحيين، بل للبنانيين جميعاً”، تحملها حمامة السلام، لكنها أمضى من سيف، لأنها الأقوى في محاربة التطرف الديني والعنف والإرهاب.

يتحدد معنى لبنان في: الانصهار المسيحي-الإسلامي، الحرية، الديموقراطية، حقوق الإنسان، التعددية الحضارية وعالمية لبنان. ويتجسد في أن القضية اللبنانية “ليست قضية سياسية بقدر ما هي قضية الحضارة في الشرق، بل قضية الإنسان فيه”.

يقتنع سالم اقتناع اليقين بالحوار الداخلي يخرج لبنان من مشكلاته، وبالمبادرات العربية تساعده على تخطّي بعض الصعاب، وبالشرعية الدولية تسبغ حمايتها عليه. وإذا أخِذ بالثوابت الوطنية، فلا يتوقف عندها، بل يُبدع ثوابت جديدة أكثر حداثة وعصرنة.

يقول سالم إذا طبقنا الدستور من مقدمته التي ورد فيها في ما ورد “أن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه”، وقد ارتضوا ذلك، فإننا على الطريق الصحيح في أن لبنان مكتمل بذاته ولا يحتاج إلى آخرين لتثبيت سيادته وحريته واستقلاله، ويعني أن الولاء له وحده أول ومطلق. وإذا ما طبّقنا هذا الدستور بأمانة تليق برجال القانون وبثقة يجب أن تغالب الغرض والمصالح عند السياسيين، نكون قد ارتقينا بلبنان إلى مرتبة الأوطان. ولن يصبح وطناً إلا إذا وُجد فيه المواطن وافترض هذا نفسه في مدينة أفلاطون أو الفارابي، فعندئذٍ تصح تسمية البابا بأنه “رسالة” إلى الأمم.

شقَّ طريق استقلاله، ولم ينسَ استقلال لبنان والطريق إليه بالسيادة غير المنتقصة، وفي ذلك يقول: “إن الحاكم إن لم يكن سيد القرار لا يكون سيد نفسه ولا سيد الأرض”.

في ثوابت فكره نافذة واسعة، انتقيت منها: إن المعرفة تحرر الإنسان من عبودية الجهل، التعلُّم يتحصل بالنجاح والفشل، أي بالتجارب المحقَّقة أو المخفقة، ومنها تتراكم الخبرة، سُلَّم العظمة المحبة والتواضع.

لبنانيته المدقعة لم تحل دون أن يوجِّه رسالة بالقواسم المشتركة، رغم التباين الأساسي، في ذكرى ميلاد أنطون سعادة، مقدِّراً فيه أن وقفة العز التي أودت به إلى الإعدام لم تقتل فكره الذي رسم مصيراً للمشرق غير الذي هو فيه.

تدثَّر الفلسفة في طريقه إلى العلم، مأتزراً منطوقها في مقاربة الأشياء، مرتكزاً على قاعدة الطبيب الفيلسوف التي اشتهر بها ابن سينا، وطبعاً عبر إليها من سقراط وأفلاطون وأرسطو إلى نماذج حداثية متزوداً منها في مقالاته.

قذف بروميثيوس اليوناني قبساً من نار الإيثار والاندفاع في قلب سالم فأشعل نور عقله حكمة وفكراً، وهداه إلى الإنسان في المرض الذي يستفحل فيه، كما هدت الفلسفة أثينا إلى الديموقراطية. كتب كالرواقيين بنظام وانتظام، فانتظم فكره في اتجاه واحد هو الوطن وهدف واحد هو الإنسان. فكانت مكابدته مع الاثنين بُعداً عن الأول رغم التواصل وهباءً مع الثاني رغم النجاح. فالإنسان ابن لحظته في مسيرته إلى المطلق. منذ اكتشف نيوتن الجاذبية ووضع آينشتاين نظرية النسبية اتسعت مسافة التباعد بين شعور الإنسان بعظمته وقدرته على التواضع، بقدر بُعد المسافة بين مركز الأشياء وموضع استقرارها. واتسعت إنجازات الإنسان وتشعّبت لكن ازدادت نفسه صغراً في طريقه إلى المطلق، ولو تطلَّع إلى أبعاد الكون لما وجد نفسه.

هو أحد فلاسفة التطور البشري، فلاسفة المهن التي طوَّرت الحياة (أدباء، حقوقيون، أطباء، مهندسون…)، فأضفت إجابات على أسئلة القلق الوجودي. نجح هؤلاء في مضمار المهنة، الطب مثلاً، وأخفقوا في ميدان الوجود، فظلَّ الاغتراب الوجودي مسقَطاً على المريض، إلا إذا عاش الطمأنينة والهدوء في ظل طبيبه. وهنا يكمن النجاح الفلسفي.

ناقش مع غسان تويني وناديا في أثناء مرضها أسئلة الفلسفة الوجودية عن الموت والحياة: لماذا ولدنا؟ لماذا نموت؟ وكيف نحيا؟ لماذا كُتب على الإنسان أن يواجه المرض؟ ولماذا فُرِض على الإنسان أن يعاني الألم؟

وهو تساءل: لماذا خُلق الإنسان بعقل لا حدود له وبنفس لا حدود لها وبجسد لا حدود لوظائفه ولا حدود لأسراره؟

لا يطرح هذا السؤال طبيبٌ، بل فيلسوفٌ، حكيمٌ بالمعنى الذي يليق بالفكر الهليني والهندي والمشرقي. ولنتعلَّم مما تعلَّمه: أن المستحيل اليوم ممكنٌ غداً، وأن قدرة الإنسان على الإبداع لا حدود لها. إن المعجزة في متناول الإنسان إن رغب فيها وسعى إليها كما يسعى الراهب في الدين. فلكل مهنة راهبها وحبيسها وقادرها على التماهي. أليست نجاحات الطب من المعجزات؟

عبَّر عن الوجدان المسيحي المشرقيّ بشغف كونه قضيةَ حريّة، في خضمّ قتل الإنسان وهدم الحضارات في منطقة عزيزة على المسيحيين لأن فيها تراثهم الروحي والحضاري مع نشوء المسيحية، يقول: “إن الصراع في الشرق لا ينحصر في الصراع على الأرض والنفط والمياه والثروة، بل يتعداه إلى ما هو أهم وهو ماهية الإنسان في هذه الأرض”.

روى سالم أسطورة لبنان، فأعادني بالذاكرة إلى رواية دينية تقول إن موسى حين وعده ربّه بالأرض التي يبني عليها مملكته، – كما ادعى _ رأى جبال لبنان، فسأله: وتلك الجبال؟ (جبال لبنان)، فنهره الله قائلاً: هذه وقفٌ لي، لن تطأها قدماك.

إنها أسطورة الأرض التي روتها دماء البطولة دفاعاً، وعرق الجباه بناءً، وجهد الحياة عنفواناً. فارتسم خطٌ واصلٌ بين الأرض والسماء، بين إنسانٍ وإله، بين قرية كونية وقرية صغيرة، ورَبطَ بنسيج الواقع الافتراضي، الوطنَ المقيم بالعالم المنتشر، كما ربطهما بطبّ وفلسفة كانا دوماً صلة الوصل بين الإنسان والله.

اترك رد