الشاعر والروائي الجزائري محمد رفيق طيبي

 يكسر القيود ويحلّق في عالم الشعر

الابداع الشعري هو حالة متقدمة من التعبير عن الذات والآخر، ينبع من الباطن ليكشف عنه  ويبوح  بأسراره الخفية التي يتفجر من عمق الوجدان، في لحظة صدق فني وجنوني من هذا الاحساس ترى أن لغة الشاعر هي بمثابة ميثاق شعري تُخلد له مراحل جميلة من ابداعه، لأنه صنعها من عمق إحساسه الفردي والمتميز عن غيره، وتُخلد كلحظةٍ مفعمة بالألم أو الفرح أو الهذيان والتعمق في مجرى الأحداث التي تحيط به.

فميلاد النص يكون حين تعلن اللغة ميلاد سلطتها على الكاتب، فيبرز في كينونة هذا الساحر الذي يلعب بعواصف الحرف لتولد القصيدة حبلى بالانفجار والتمرد والتشرد والهذيان، فيجعل من هذه اللغة هدفاً لمجريات عدة لبناء النص، فيتحول إلى ضرب من الجنون والجدل بين القراء والكتاب وتخلق صراعات الجمال لفهم القصيدة بعمق دلالتها الفكرية والابداعية، من هنا نكتشف العمق الذي يكتبُ به الشاعر والروائي الشاب محمد رفيق طيبي، الذي يتميز بالرصانة وعمق التفكير بعيداً عن  الغوغاء والضوضاء،  ويرى أن البعد الفكري للأديب لا يكمن في وفرة الحديث والكتب التي تنبت كالفطر، أو بهرجة الإعلام الذي ينفخ في الهواء فتأتي عليه رياح قوية تحوله الى مطر صيفي  لا ينعش الأرض العطشى، ولا يروي ظمأ الأديب من الغياب.

هكذا عرفت عن قرب الشاب اليافع الأديب محمد رفيق  طيبي  صاحب كتاب {عاصفة العاطفة} ورواية {الموت في زمن هش} التي فازت بجائزة رئيس الجمهورية للمبدعين الشباب “علي معاشي” سنة 2015 واعتبرت من أهم الروايات الصادرة حديثاً.

يعود هذه السنة الشاعر والروائي محمد رفيق طيبي بمجموعة شعرية تحمل دلالات الإبداع المنفرد عن بقية الأعمال، {أعراس الغبار} ديوان جمع نصوصًا شعرية عددها اربعة عشر نصاً ويقع في 76 صفحة. صدر عن المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر والإشهار خريف 2017.

يحمل بين طياته  روحاً شعريةً تحاول أن تشق طريقها في واقع محبط، وتعبر عن الإنسان وحالات ضعفه وعن الواقع الاجتماعي والسياسي، وقد اختار أعمق العبارات لكي يفتتح بها الديوان، إذ  يقول الكاتب الكبير أدونيس:

{ المستقبل هو الذي ينتمي إلى الفن وأن وقتا ينتهي فيه الشعر لن يكون إلا موتاَ آخر ليس للشعر زمن الشعر هو الزمن}.

نجد ميلاد قصيدة  السخرية في شعر رفيق طيبي، فيسعى لإنشاء خصوصيته الشعرية من اختياره للكتابة الفلسفية فندرك أن الشاعر رفيق طيبي يحمل عمق الإبداع الذي لا يقبل بالهشاشة ولا الانحطاط،  وهو من حارب الهشاشة في أعماله الأدبية، يرفض الممكن ويبحث عن المستحيل الذي يقوده إلى فضاء إبداعي متكامل، فهو يختلف عن بقية شعراء جيله،  لم ينشر أي قصيدة على صفحات شبكة التواصل الاجتماعي  حتى يطبع الديوان.

هنا نرى الفارق التفكيري الناضج الذي يختلف به الشاعر، لهذا نجده قد سبح في مكنونات الذات التي تربطه بالواقع المعاش وما تخلفه الأزمنة من دمار للإنسان بدل الانحياز إلى الصمت، فيكتب نصه بكثير من الحركة كي يقتنص الكلمة في مدارها اللامرئي ليصنع منها نجما ساطعاً في افق الذات المشتهاة للشعر الذي يعتبر هو الحياة، بفرق التعابير الفلسفية في وحل الألغاز التي تفك بشيفرة من حنين للماضي وتشوق للحاضر، ويترك المستقبل بين القوافي التي انتشرت على روابي الحروف حيث يسبح بقصائده في  كل الأمكنة الأخاذة  بذوق يشعر القارئ أنه متعالٍ في شاعريته والشرف والفتنة والغموض هي تلكم روح الإنسان المتناقضة بين الآن والذات .

كَرزٌ يُغنِي لفَيرُوز/ مُقلتَان مِن نَارٍ  كالبِلَور/ يَتَفتقُ الحُبُ فِيهمَا كُلَ صَيف/يُفَجِرُ المسَاكِنَ الآهِلَة بالرَمَاد/يَنشُر أسرَارَ ليلَى/ أسطُورَة تُغَازِل القَمَر بنَهد/شِفَاهٌ تَكَرَرت كالنَشِيد وَنَومٌ أبدِي عَلى ثَغرِ الخُلُود.

لو تعمقنا في قصائد {أعراس  الغبار}  نجد أن هناك آثارًا لهذا العرس الذي يشمل كل الفصول، من بينها أثر الرمان الذي يحكي عن قصة أغنية ملأت القلب حبًا يافعًا يزيح الغبار على حبيبات الكرز التي تترك الشفاه ترتجف لأسطورة تغازل القمر، ونوم أبدي على ثغر الخلود، تعبير فاق التصور لجمال قصيدة النثر التي تمكن منها الشاعر بكل دقة وتفنن.

النصوص التي تشدّ الرحال للبحث في زمن مجهول عن حيثيات من غبار يأخذنا الشاعر إلى جمال الباهية وهران من خلال قصيدته {ليل مشمس بكونتينونتال} وهي شمس وهران التي لا تغيب عن جمالها، حيث تبتلعه شوارعها التي لا تنام ولا تعرف معنى الركود فرحًا ومرحًا ليرى البحر منقوعّا في حفنة سكر.

المدن المقمرة سحبت ظلالها وتركت الغزال شاخصا/تأتِينِي الرِيَاحُ وَتُبَعثِرُ الأيَائِلَ المُهَروِلَة بِدَاخِلِي كُلَمَا جَزَعتُ/وَيَنهارُ قَصْرُ شَامبُور عَليّ وَلا أَرَى الا أشْلَاء مُضَمَخَة/ وَأَطِيرُ نَحوَ سَمَاءٍ عَاشِرَة فَأجِدُ الرِيحَ وَضَحِكَ السنونو القصيدة فيها من الجدل ما يبكي القلب،لا سماء تعلو السماء الا القصيدة.

تطير الأحرف بين الواقع والخيال وتبعثر الريح الأيائل المهرولة بداخله حيث يصف الشاعر داخله بقوة تشبه الأيائل وهي تركض عكس الرياح  من أجل خلق أفق للتحليق. يحس بالجذع يرمي سهامه نحو السماء لتصيب اللحظة الهاربة من فكره. قد تطالعنا صورة القصيدة فكل منهما يرمز الى الذات المتناقضة بين الحقيقة والخيال، فتختلط أصوات الريح  وضحك السنونو في السماء العاشرة حيث لا وجود لغبار الإنسان الذي  يلوث اللحظة المشتهاة عند الشاعر.

يشق صَدِرَ الخَيبَة كَنَهْرٍ مِنْ المَطَرْ/أسمَعُهُ فَأفتَحُ نَافِذَتِي لأرَى البَحْرَ/أنَا / أنا المقِيم بِمُدُنِ الرَملِ والعَقَارِبْ/يَجْتَثُنِي مِنْ السَرِير وَرْدُهُ/أدُسُنِي في هَاتِفٍ وَغَيمَة/ أضِيعُ كَسَفِينَة دُونَ بَوصَلَة كَثَمِلٍ يَخَالُ البُرتُقَالَة نَهْدا. الشاعر رفيق طيبي متحدثا عن جمال حديث الأمازيغ في قصيدته {حديث أمازيغي} هنا يتشكل الحرف بين الخيبة والفرح حيث يقول الشاعر: يشق صدر الخيبة  كنهر من المطر..المقيم في مدن من العقارب والرمل ويضيع كسفينة دون بوصلة..هي تلكم البوصلة التي ضاعت في غياهب المطر ويعود الى الخيال كمثل  يرى أن البرتقالة نهدا والصوت الأمازيغي الذي يقطع جبال آقبو.

هنا تميز الشاعر في وصف القصيدة بمدن أمازيغية  تاريخية. نجد في القصيدة تناقضات في الوصف بين الزمن الأمازيغي وما حملت اليه الحضارة العربية من قوة في وصف الجواد العربي الأصيل.

ثم ينتقل الشاعر محمد رفيق طيبي في عالم من التناقضات  الفلسفية المشتهاة بين الحب والخيبة وغياب القمر عن المدن الشاحبة الغائب عنها الحب قصائد  تشبه الأوديسة، تغوص بنا في بحر يردك غريقًا كجثة بأنفاس راحلة، في هجرة عميقة للبحث عن جزيرة لترسو فيها مراكبه الهشة التي اتعبتها الأمواج العاتية، وتحسراً على صيف رآه بلا عطر ليعد له العدة للرحيل نحو ضحايا الوقت والركوض ، لينادي الشاعر لعشاق خلف نوافذ النسيان.. نسيان الوقت البطيء الخارج من بوصلة الفرح قصائد للحب وللنقيض الذي يتربص بمدن الغبار.

هي قصائد توحي بالتحدي ونفض الغبار عن أرواحنا الهائمة بين الحقيقة والخيال  بين اللحم واليقظة، بين الوعي المتدارك لواقع الإنسان وبين اللاوعي الهائم في غبار السنين، لم تشأ هذه القصائد من ديوان {مدن الغبار} للشاعر والروائي الجزائري محمد رفيق طيبي  الا ازاحته من سماء الإنسان العابر للمسافات البعيدة التي توحي بسقوط  مطر الروح وقصائد الحب أيضاً .

 

اترك رد