أيُّ عقلانيَّةٍ ممكنةٍ للدِّين؟ مقاربة مسيحيَّة

“إثنانِ أهلُ الأرضِ، ذو عَقلٍ بلا دِينٍ، وآخرُ دَيِّنٌ لا عَقلَ لَه”

(أبو العلاء المعرّي)

مقدِّمة

في خضمِّ عصرِ الأنوار، عبَّر الفيلسوفُ الألمانيّ لايبنتز عن إشكاليَّةٍ لا تزالُ راهنة، عندما قالَ إنَّ نورَ العقلِ في الدِّينِ يفوقُ أهميَّةً قوَّةَ الإيمان وحرارته. فما يمثِّلُ خطرًا على الدِّينِ والمؤمنِ في نهايةِ الأمرِ هو غيابُ العقلِ أو المعرفةِ عن هذا المعتَقَد؛ إذ هذا الغيابُ يؤدّي إلى اضمحلالِ الدِّين، بل إنَّه إهانةٌ له(1). تكمنُ الإشكاليَّةُ في أنَّ العقلانيَّةَ كما عُبِّرَ عنها منذ عصرِ الأنوارِ تَفهمُ الحقيقةَ بصفتها بنيةً عقلانيَّةً يمكنُ إدراكَ كلِّ جوانبِها من خلالِ المبادئِ المنطقيَّة.

لذا، فإنَّ تسليمَ العقلِ الدينيّ باستحالةِ العقلِ البشريّ أنْ يلجَ الحقيقةَ الكاملة، وبالتالي عدم قدرتهِ على وصفها وصفًا موضوعيًّا – الأمرُ الذي يُبرزُ مركزيَّةَ الوحي في الإيمانِ وتفوّقَهُ على العقل- يمثّلُ مسلَّمةً لاعقلانيّة. يُضافُ إلى الناحيةِ العقائديَّةِ الإشكاليَّةِ هذه، أنَّ الخبرةَ الدينيَّةَ نفسَها بصفتها شعورًا أو حماسةً دينيَّة، تَخرجُ هي أيضًا عن معاييرِ المبادئِ المنطقيَّة، وتبدو بالتالي لاعقلانيَّة. نجدُ أنفسَنا إذًا، من جهة، إزاءَ عقلانيَّةٍ قائمةٍ على مبادئَ منطقيَّة؛ ومن جهةٍ ثانية، إزاءَ عقائدَ لا تتجاوزُ حدودَ اللاعقلانيّةِ، وخبرةٍ روحيَّةٍ لا تخضعُ لمقاييس العقل. ولـمَّا كانت نشأةُ عقلانيَّةِ الأنوارِ مرتبطةً بنظرةٍ ظلاميَّةٍ إلى الدِّين، وقد نُسِبَت إليه أسبابُ التخلّفِ والظلمِ والجهلِ والاستبدادِ والتعصّب، فإنَّ المواجهةَ تكتسبُ طابعًا حادًّا ومصيريًّا.

أوَّلاً – بين اللاهوتِ العقائديّ واللاهوتِ الفلسفيّ

إذا نظرنا إلى الحقلِ اللاهوتيِّ المسيحيّ، نجدُ أنَّ مواقفَ اللاهوتيِّين، بالرغمِ من اختلافِ مناهجِهِم، ولا سيَّما في ما خصَّ البحثَ عن حججِ الإيمان العقليَّة، لم تتجاوز بالكاملِ حدودَ ما سمَّته فلسفةُ الأنوارِ لاحقًا بــ”اللاعقلانيَّة”. ولا شكَّ في أنَّ الأمرَ على صلةٍ بنشأةِ اللاهوتِ وتطوّرِه. ففي العصورِ الأولى، زمنَ اتّهاماتِ المفكّرينَ الوثنيّينَ العقائدَ المسيحيَّةَ باللاعقلانيّةِ وحتّى بالسخيفة، اتَّخذتْ كتاباتُ اللاهوتيِّين نزعةً دفاعيَّةً عقلانيَّة، ولكنَّها لم تتجاوز حدودَ اللاعقلانيَّة، أي سلَّمَت، في نهايةِ الأمر، بانطواءِ الإيمانِ على عناصرَ تفلتُ من قدرةِ العقلِ على إدراكها. وعلى سبيل المثال، بالرغمِ من أنَّ طرطليانُس (حوالى 155-240 ب.م)(2)، أبا المسيحيَّةِ اللاتينيَّة، لجأَ إلى المنطقِ والفلسفةِ ليبرِّرَ العقيدةَ المسيحيَّةَ عقلانيًّا، ويُبرزُها حاملةً الحقيقةَ الكاملةَ عنِ الله، فقد حرصَ على إظهارِ حدودِ التفكيرِ الفلسفيّ في حقلِ الإيمان. فالإيمانُ، في نهايةِ المطاف، غيرُ معقولٍ في نظره، ولهذا السببِ عينهِ فهو يؤمن. تبقى قاعدةُ الإيمانِ والخبرةُ الروحيَّةُ، بالتالي، في أساسِ بنيانِهِ الفكريّ. ولكن ألا تكمنُ الصعوبةُ بالعمقِ في استحالةِ التوفيقِ بين الإيمانِ بصفتهِ طريقةَ حياةٍ تحفِّزُها التَّقوى والحماسةُ الدينيَّة، وضرورةِ تفسيرِه تفسيرًا عقلانيًّا؟ إنَّ الانطلاقَ من قاعدةِ الإيمانِ نفسِها بصفتها تسليمًا بما هو غيرُ معقول، جعلَ منَ التفكيرِ في الإيمانِ خارجًا عن عناصرِ تلك القاعدةِ أمرًا مرفوضًا.

لم يختلفْ أوريجانُس (184/185-253/254 ب.م.) عن طرطليانُس كثيرًا في مقاربتِهِ الإيمانَ مقاربةً عقلانيَّة، إذ إنَّ الفلسفةَ عنده خادمةُ اللاهوت. فقد نظرَ إلى سائرِ المدارسِ الفلسفيَّةِ انطلاقًا من قاعدةِ الإيمانِ والكتابِ المقدّس، باستقلالٍ تامّ عن أيِّ نظامٍ فكريٍّ آخر(3). بل إنَّ كلَّ فلسفة، في نظره، وإن تقاطعت في بعضِ تعاليمِها والمسيحيَّةَ، تبقى غيرَ وافية، وتحتاجُ إلى أن تبحثَ في الإيمانِ المسيحيّ عنِ الحقيقةِ الكاملةِ التي تتوقُ إليها، وتحديدًا الحقيقةِ المؤسَّسةِ على محبَّةِ الله. وفي نهايةِ المطاف، شأنَ غالبيَّةِ اللاهوتيّينَ الذين أرسَوا ركائزَ الإيمانِ المسيحيّ، لا يثقُ أوريجانُس بالفلسفةِ بصفتها طريقًا إلى معرفةِ الحقيقةِ مستقلَّةً عن التسليمِ المسبقِ بقاعدةِ الإيمان، وإنْ رأى أنَّ لها قيمةً ثقافيَّةً ودورًا في التقدّمِ بسبرِ مكنوناتِ الكتابِ المقدَّس.

في سياقِ الدفاعِ عن المعتقدِ المسيحيِّ إزاءَ اتِّهاماتٍ وصفتْهُ بالخرافةِ والبربريَّة، رأى أوغسطينُس، في القرنِ الرابع الميلاديّ، أنَّ البحثَ العقلانيَّ في مسألةِ الإيمانِ يعني أنَّ الإيمانَ يسعى إلى التعمُّق في مضمونه. وبكلام آخر، يعني الإيمانُ التفكيرَ الموافقَ إيَّاه(4). ولكنَّ هذا العملَ ليس نتيجةَ العقلِ بل الإرادة. ذلك أنَّ الإيمانَ يفترضُ الالتزامَ بالإيمانِ بالله. وإذ اعتبرَ أنَّ المدرسةَ الأفلاطونيَّةَ خيرُ المدارسِ الفلسفيَّة، لأنَّها لم تركِّز على أسبابِ الأمور ولا على أسلوبِ تحصيلِ المعرفةِ فحسب، بل على دافعِ تنظيمِ الكونِ كما هو، فقد آلَ به هذا الأمرُ إلى اعتبارِ أنَّه ليس على المرءِ أن يكون مسيحيًّا ليصبحَ لديه فهمٌ عنِ الله. غيرَ أنَّ المسيحيّينَ يمكنهم بلوغُ مثلِ هذه المعرفةِ من دونِ لجوئِهِم إلى الفلسفة. فضلاً عن ذلك، اعتبرَ أوغسطينُس أنَّ السلطةَ الوحيدةَ التي يمكنها أن تحدِّدَ استخدامَ العقلِ في الإيمانِ هي الكنيسةُ نفسُها، وليس الأفراد. فالكنيسةُ هي الحَكَمُ الأخيرُ بشأنِ ما يمكنُ البرهانُ عنه وما لا يمكنُ البرهانُ عنه، وما يمكنُ البرهانُ عنه من دونِ أن يستطيعَ جميعُ المؤمنينَ فهمَه. ولكن، بالرغمِ من تشديدِهِ على دورِ السلطةِ الكنسيَّة، فقد اعتقدَ أنْ لا يمكنُ المرءَ أن يفهمَ اللهَ فهمًا حقيقيًّا إنْ لم يحبَّه.

إتَّخذَ اللاهوتُ نزعةً جديدةً وُصِفَت بالسلبيَّةِ مع ديونيسيوس الأريوباغيّ المنتحِل (حوالى 650-725م)، الذي تأثَّر بشدَّة بالأفلاطونيَّة الجديدة. لقد اعتبرَ الأريوباغيّ المنتحِل أنَّ اللغةَ لا توفِّرُ معلوماتٍ عنِ الله، بل هي مجرَّدُ وسيلةٍ للحفاظِ على غيريَّتِه(5). وبالتالي، بدا وكأنَّ ثمَّةَ موانعَ تحولُ دونَ قدرةِ العقلِ البشريّ على التفكيرِ في الطبيعةِ الإلهيَّة.

إعتبر القدّيس توما الأكويني (1225-1274م) أنَّ الإيمانَ بالخلاصِ الأبديّ يكشفُ عن أنَّ ثمَّة حقائقَ لاهوتيَّةَ تتجاوزُ العقلَ البشريّ. ولكنّه ادَّعى، في الوقتِ عينه، أنَّه يمكنُ المرءَ أن يدركَ حقائقَ بشأنِ الدِّينِ من دونِ إيمان، وإنْ كانت تلك الحقائقُ غيرَ كاملة. وقد سمَّى هذا بــ”الحقيقةِ المزدوجة”: حقيقةٌ أُولى يمكن البحثَ العقليَّ أن يبلغها، وثانيةٌ تتجاوزُ بالكاملِ قدرةَ العقلِ البشريّ على الإدراك. ولا يرى الأكويني أيَّ تناقضٍ في هذا. غيرَ أنَّه أكَّدَ أنَّ أمرًا يمكن أن يكون صحيحًا في عينِ الإيمان، وخطأً من وجهة نظرٍ فلسفيَّة، ولكن ليس العكس بالعكس. وهذا يفترضُ أنَّ غيرَ المؤمنِ قادرٌ على بلوغِ الحقيقة، ولكن ليس حقائقُ الإيمانِ السامية(6). وانطلاقًا من نظريَّةِ الحقيقةِ المزدوجةِ هذه، يميِّزُ الأكويني بين اللاهوتِ العقائديّ الـمُوحَى الذي يفوقُ باليقينِ والكرامةِ سائرَ العلوم، واللاهوتِ العقليِّ أو الفلسفيّ. يمكن هذا اللاهوتَ أن يستخدمَ عناصرَ الإيمانِ مبادئَ، وأن يدحضَ الاعتراضاتِ التي تقومُ بوجهِ الإيمان. ولكن، على خلافِ اللاهوتِ الـمُوحَى، يمكنه أنْ يضلّ.

وخلاصةُ القولِ إنَّ تطوّرَ اللاهوتِ المسيحيّ لم يجد، من جهة، ثمَّةَ فائدةً لفلسفةٍ عقلانيَّةٍ صرف في حقلِ الإيمان؛ ومن جهة ثانية، لم يتركِ الفلسفةَ تتطوَّرُ بصفتها نظامًا معرفيًّا مستقلاًّ داخلَ الكنيسة. لقد بقي الخطابُ اللاهوتيّ يتأرجحُ بين اللاهوتِ العقائديّ واللاهوتِ الفلسفيّ من دونِ مخرجٍ يتصالحُ تمامًا مع العقلانيَّة.

 الإيمان والعقل متّحدان. للرسام لودفغ زايتز (1883-1887)

ثانيًا – هل من مخرج ممكن؟

جاءَ في الرسالة البابويَّة بعنوان في الإيمان والعقل التي أصدرها البابا يوحنّا بولس الثاني العام 1998: “لا شكَّ في أنَّ الفلسفةَ المعاصرةَ لها الفضلُ الكبيرُ في تركيزِ انتباهِها على الإنسان. من هذا المنطلق، أخذَ العقلُ المزدحمُ بالتساؤلاتِ يعزّزُ رغبتَهُ في امتلاكِ معرفةٍ أوسعَ وأعمق. هكذا نشأتْ مذاهبُ فكريَّةٌ معقّدةٌ أعطتْ ثمارَها في مختلفِ مجالاتِ العلمِ وساعدت في تطويرِ الثقافةِ والتاريخ (…) إلاَّ أنَّ النتائجَ الإيجابيّةَ المحصَّلةَ يجبُ ألاَّ تلهينا عن أنَّ هذا العقلَ ذاتَه المنهمكَ في التحرّي عن الذاتِ الإنسانيَّةِ بطريقةٍ حصريَّة، يبدو في غفلةٍ عن أنَّ هذا الإنسانَ لا يزال مدعوًّا أيضًا إلى الشُّخوصِ إلى حقيقةٍ تتخطَّاه. بمعزلٍ عن هذا المرجع، يظلُّ الإنسانُ عرضةً للاعتباطيَّةِ ويمسي خاضعًا لمقاييسَ برغماتيَّةٍ مرتكزةٍ جوهريًّا على الـمُعطى الاختباريّ، وذلك من منطلقِ يقينٍ زائفٍ بأنَّ التقنيَّةَ يجبُ أنْ تُهيمنَ على كلِّ شيء”(7). وفي الاتِّجاهِ عينه، نجدُ في الفصلِ الأوَّلِ من الرسالةِ نفسِها تشديدًا على أولويَّةِ الوحي بصفته مصدرًا للحقائقِ الخلاصيَّةِ وأولويَّةِ طاعةِ الإيمانِ بالمسيح؛ وهذا ما يؤلِّفُ الإطارَ الملائمَ للبحثِ العقلانيّ. وبالتالي، يبدو الميلُ جليًّا إلى تفضيلِ الطابعِ السريّ والخبرةِ الروحيَّةِ على متطلِّبات العقلانيَّة.

خاتمة

يميلُ الخطابُ اللاهوتيُّ المعاصرُ عمومًا إلى المحافظةِ على حالةِ الشدِّ التقليديَّةِ إزاءَ العقلانيَّة، إضافةً إلى حالةِ الشدِّ التقليديَّةِ التي تُثار طبيعيًّا بين اللاهوتِ العقائديّ واللاهوتِ الفلسفيّ. ولعلَّ بعضَ الجديدِ يأتي من ميلِ بعضِ التيَّاراتِ اللاهوتيَّةِ إلى التحرّرِ من متطلّباتِ العقلانيَّةِ التي تبدو غيرَ ملائمةٍ الإيمان، وإلى الابتعادِ، في الآنِ نفسِه، عن الأساسِ الميتافيزيقيّ الذي طبعَ اللاهوتَ الوسيطيّ والتقليديّ، وعن مواجهةِ نقدِ العقلانيَّةِ التقليديّ الدِّين، لصالحِ التركيزِ على الخبرةِ الروحيَّةِ المتَّصلةِ بالضميرِ والشعورِ وهبةِ الذات. غيرَ أنَّ هذا التوجّهَ يُعيدُ طرحَ الإشكاليَّةِ التي أثارها لايبنتز وذُكرت في مطلعِ هذه الدراسةِ ألا وهي المخاطرُ التي تحيقُ بخبرةٍ روحيَّةٍ تُغيِّبُ العقلَ بمعناه العقلانيِّ التنويريّ. ولكن يبقى الأملُ في فلسفةٍ للدِّينِ يقابلها لاهوتٌ ملائم، فتخلقُ فسحةً تجمَعُ فيها حرارةَ الإيمانِ والحبَّ والاستنارة.

****

(1) Cf. G. W. Leibniz, Theodicy. Essays on the Goodness of God, the Freedom of Man and the Origin of Evil, Fifth printing 1996, Routledge & Kegan Paul Limited, London.

(2) Cf. R.E. Roberts, The Theology of Tertullian;http://www.tertullian.org/articles/roberts_theology/roberts_13.htm

(3) Cf. Henri Crouzel, Origène et la philosophie, Aubier, Paris, 1962.

(4) Cf. Saint Augustin, On Christian Doctrine; http://faculty.georgetown.edu/jod/augustine/ddc.html

(5) Cf. Pseudo Dionysius, Corpus Dionysiacum, letter IX;http://www.documentacatholicaomnia.eu/03d/0450-0525,_Dionysius_Areopagit…

(6) Cf. St. Thomas Aquinas, Summa Contra Gentils,

النقر للوصول إلى aquinas_summa_contra_gentiles.pdf

(7) https://w2.vatican.va/content/john-paul-ii/ar/encyclicals/documents/hf_j…

 

اترك رد