سفراء التصوّف في العالم الإسلاميّ

حينما طالع الأستاذ العقّاد أشعار عبد الوهّاب عزّام وخواطره التي كتبها في الهند وباكستان، أشاد بشاعريته وعذوبة كلماته وجزالة معانيه، وكتب عن تصوّف عزّام الذي يظهر جيدًا في حياته ومطالعاته وترجماته، وأطلق عليه وقتها (السفير الصوفي). فإضافة إلى أنّه كان سفيرًا لمصر في عدد من الدول العربية والإسلامية، لا بد وأن يكون سفيرًا للتصوّف بما قدّم للقارئ العربي من آداب الأمم الإسلامية ناقلاً الأشعار والكتابات عن التركيّة والفارسيّة والأورديّة.

وإذا جاز لنا أن نطلق هذا الوصف (السفير الصوفيّ) على عزّام، فإنه وعلى الرغم من كونه رائدًا من رواد الدراسات الشرقية، لا يختص بهذا الوصف وحده، بل يصحّ أن نطلقه على مجموعة من الأساتذة والدارسين الأوائل الذين قدّموا للأمة العربية الكثير من المعارف، عُرف بعضهم وغابت سيرة الآخرين مع مرور الأيام.

من هنا جاءت فكرتي لتخصيص سلسلة تحمل عنوان: (سفراء التصوّف في العالم الإسلامي) وقد انعقد العزم على العمل عليها منذ أعوام خلت، فجمعت أعمال هؤلاء المتناثرة في الدوريات والمجلات ورتبت بعضها بغية نشرها في كتاب، إلاّ أنني اندهشت بالفعل من كمّ إنتاج (السفراء المنسيين) من أمثال الشيخ الصاوي شعلان، ومحمّد غنيمي هلال، ومحمّد عبد السلام كفافي، فقد شاركوا في الكثير من المحاضرات والمقالات وراحوا يعرّفون بأعلام التصوف الفارسي والأوردي والتركي، وللأسف أن أغلب هذه الأعمال لم تعد معروفة اليوم.

لنضرب مثالاً على ذلك بما قدّم حول التعريف بشخصية عطّار نيسابور وأعماله؛ نظم الشاعر الفارسي فريد الدين العطّار الذي قيل إن المغول قتلوه عندما نهبوا نيسابور في مستهل القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي بعد أن كان فريد الدين بلغ من الكِبرِ عتيًّا- نظم هذا الشاعر عددًا ضخمًا من الملاحم في مواضيع صوفية، كان الكثير منها حتى بدايات القرن الفائت غير منشور رغم ما تتضمّنه من أشعار رقيقة وجميلة.

نبّه أرثر أربري الدارسين إلى أهمية هذه الأعمال وهو بصدد تقديمه لمراجعة الترجمة الإنجليزية لكتاب منطق الطيرThe Coference Of Birds  قائلا: (هنالك عدد من المؤلفين الفرس الذين يتطلبون الدراسة المستعجلة) وراح يتحدث عن أصول كتاب منطق الطير رادًّا إياه إلى مؤلف الشيخ أحمد الغزالي (رسالة الطير) التي نُسبت إلى أخيه الإمام أبي حامد الغزالي، وعدّد أربري الترجمات الأعجمية التي قدّمت هذا العمل إلى الجمهور الغربي في شكل تام أو جزئي.

ويذكر عزّام سبب اختياره للعطار موضوعًا للدرس قائلا: (لمّا درستُ الأدب الفارسي واطلعت على أقوال شعراء الفرس الصوفية بدا لي أن أكتب عن واحدٍ من هؤلاء الشعراء، فاخترت فريد الدين العطار، وكان هذا الاختيار طموحًا واعتدادًا بالنفس وهجومًا على المشاق، فالعطار الذي نظم زهاء أربعين منظومة في التصوف لا بد له من دراسة طويلة يتداولها باحث بعد آخر حتى تجمع كتبه كلها وتصحح ويستخرج منها تصوفه.

منمنمة فارسيّة من كتاب “منطق الطير” للشاعر فريد الدين العطّار رسمها حبيب الله ويبدو فيها طائر الهدهد وهو يحادث الطيور الأخرى

تتابع الاهتمام بالعطّار كما أراد عزّام، وخصص أحد الباحثين العراقيين دراسة موسّعة لأعمال العطّار في الجامعة المصرية، نُشرت بعد ذلك بعنوان: عطّار نامة واعتنى تلميذ عزّام النجيب محمد عبد السلام كفافي ببعض مؤلفات فريد الدين العطّار، فنقل إلى العربية كتابه نصيحة نامه [الطبعة التي بين أيدينا هي الطبعة الأخيرة الصادرة ضمن مشروع جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا لنشر أعمال كفافي 2009]، ثم كتبت ملكة التركي دراسة عن الأدب الصوفي الفارسي، وقدّمت مع الدراسة ترجمة لكتاب العطّار إلهي نامه [الطبعة التي بين أيدينا هي الطبعة الثانية صادرة عن دار الثقافة العربية 1998]، ونقل إلى العربية محمد محمد يونس مؤخرًا عام 2005 كتاب الألم (مصيبت نامه) ضمن مشروع المركز القومي للترجمة الذي وفّر كثيرًا من روائع التصوف الفارسي.

لكنه قبل ذلك كُتبت دراسات وقدّمت فصليات من أشعار العطّار لا يمكن إغفالها، مثل ما قدّمه محمد غنيمي هلال تحت عنوان: من روائع الأدب الإسلامي: العطّار وفلسفة التصوف، ومما قدّم به ترجمته لمنتخبات من كلمات العطّار أنك لن تجد في تاريخ الآداب الإسلامية هجاء للملوك والمستبدين أشد مما صدر عن الصوفية، وقلّما تصادف في تلك الآداب ضيقًا بالمال وعباده والمستعبدين للناس عن طريقه كما تجد في أشعار الصوفية وأدبهم كله، هذا إلى ما قضوا به على الأثرة وحب الذات فيما صوّروا ودعوا. فعندهم أن الحبّ يجب أن يتسع مجاله لحب الإنسان.

اعتبر الشيخ الصاوي شعلان -الذي ارتبط اسمه بقصيدة الروح لمحمد إقبال نظرًا لإنشاد أم كلثوم لها- أن الأدب الفارسي الإسلامي مليء بكنوز الحكمة وطرائف العبرة والموعظة الحسنة، يتناولها الشعراء منظومة ومنثورة، في إطار القصّة القصيرة، قصدًا إلى الإيجاز غالبًا، وقد التقى الصاوي بالكثير منها في شعر سعدي الشيرازي، وفريد الدين العطّار، وسنائي الغزنوي، ومولانا جلال الدين الرومي، ومحمد إقبال، وألطاف حسين حالي، وغيرهم.

ومن هنا راح يقدّم للقارئ العربي مختارات من هذا الأدب الرفيع، رغم معرفته أن بعض نصوص التصوف الفارسي تُنتخب وتُترجم وتقدّم للقارئ العربي، وقد سعد بذلك ورأى أن هذه الآداب تستحق هذا الاهتمام العربي به، وليس هناك مانع يمنع من تعدد المترجم لنص واحد، فلكل مترجم وناقل محاولة في تقصّي المعاني، ومذهبٌ في التصوير لأخيلة كاتب المثنوي باعتباره شعرًا، وإن التقى الصاوي مع بعض المترجمين في وقته، كـعبد الوهاب عزام وكفافي، إلا أنه لم يكن كغيره ملتزمًا بحرفية النصّ أو شكله في الترقيم والعدّ، ولم ينشغل كثيرًا ببعض المصطلحات التي لا تلتقي مع الأسلوب العربي! ولعل هذا ما يجعلنا أمام نصٍّ إبداعي جديد.

وكان مما قدّمه الصاوي شعلان مختارات من أشعار فريد الدين العطّار، بدأ نشرها في مجلة الموسيقى والمسرح، ومجلة أبولو، ومجلة الأزهر في أربعينيات القرن الفائت، فقدّم من منطق الطير قصة الشيخ صنعان والفتاة المسيحية، وعتاب يوسف الصّديق، والغزنوي وأصنام سنومات، وصفة وادي العشق، وقصة ملك وابنته الحسناء، ووفاة الإسكندر وخطبة أرسطو، وغيرها من المختارات بلغة شعرية جميلة، كان من نصيب بعض هذه المختارات التي نظمها شعرًا أن لُحّنت في مجلة الموسيقى والمسرح.

أما عن عطائه الأبرز المنسيّ فقد انصب على تقديم أفكار ودروس مولانا جلال الدين الرومي، فمما يعرفه القريب من عالم هذا الراحل أنه سجل أطروحته للدكتوراه بجامعة القاهرة، في الخمسينيات، بعنوان (نظم ألف بيت من مثنوي جلال الرومي، مع التحليل والدراسة)، وبعد أن أنجزها، واجتمعت اللجنة العلمية لمناقشتها، ترك الشيخ الصاوي شعلان القاعة، وآثر الانسحاب في هدوء بعد خلاف مع اللجنة المناقشة! وللأسف أنني لم أتمكن من الحصول على نسخة من هذا العمل، وكذلك الحال في ما خصّ كتابه مختارات من مثنوي جلال الدين الرومي، الذي ذكره أحد المترجمين لحياته فلا أظنه رأى النور في حياته!

وعليه فقد صح عزمي بعد ما طالعت ترجمات الشيخ الصاوي متفرقة وموزعة في المجلات والدوريات لمتابعة أعماله غير المشهورة اليوم لمّا رأيت من محبته وإخلاصه في خدمة التراث الصوفي وقد كنت سعيدًا بما قرأته من ثمار قلمه الرصين، فأردت أن أشرك القارئ المحبّ لمولانا جلال الدين الرومي بتوفير هذه المواد العذبة الرائقة، فجمعت ما نشره في مجلة الأزهر ومنبر الإسلام وما نُشر من ترجمات للمثنوي في كتبه المتفرقة، حتى نحفظ جزءًا من هذا الإبداع الذي انتحل نسبته بعضهم، وكانت ثمرة هذا العمل صدور الكتاب الأول من سلسلة “سفراء التصوف الإسلامي”، مخصصًا للصاوي شعلان وترجماته للمثنوي، في أكثر من مئتي صفحة، حاويًا لجملةٍ من القصص المثنويّ المعنويّ.

****

(*) مجلة “المشرق” الرقمية العدد العاشر.

 

اترك رد