’’الهلال‘‘.. أطول المجلّات الثقافيّة العربيّة عُمراً

تُعدّ مجلّة “الهلال” أطول المجلّات الثقافيّة العربيّة عُمراً، فهي المجلّة العربيّة الوحيدة بين المحيط والخليج التي تُوالي الصدور بلا انقطاع منذ 125 عاماً، فقد صدر العدد الأوّل منها في أوّل أيلول (سبتمبر) 1892، وكانت لتاريخ الصدور هذا دلالةٌ خاصّة طبعت هذه المجلّة بطابع فريد، وأهّلتها لأن تكون رمزاً لمرحلة جديدة في التاريخ العربيّ بعامّة، واتّجاهاً جديداً في الثقافة العربيّة.

 جاء صدور العدد الأوّل من المجلّة بعد مرور 10 سنوات على هزيمة الثورة العُرابيّة والاحتلال البريطاني لمصر، وقد أسهم ذلك في إفساح مجال التطوّر الفكريّ بين المدارس المتعدّدة، وبرزت الحاجة إلى وضع اليد على أدوات العصر الحديث من العلوم والمخترعات، لكي تتمّ الاستجابة لتحدّي الإنكليز الذين يحكمون البلاد بخمسة آلاف عسكري، وجاءت مجلّة “الهلال” لتلعب دَوراً رائداً في تحديث الفكر العربي، وتفتح آفاقاً جديدة لثقافة التطوّر.

من القاهرة، كانت مجلّة “الهلال” على مرّ تاريخها مصدراً للإشعاع الفكري للعرب جميعاً، وكأنّ ثمّة اتّفاقاً غير مكتوب على الالتفاف حولها، وذلك بحسب ما كتب مصطفى نبيل في مقدّمة كِتاب “مصر والعالَم يوم صدر الهلال” (1992) الذي صدر احتفالاً بمئويّة المجلّة.

ولأنّ الحديث عن مجلّة “الهلال” ونشأتها وتطوّرها والأشكال التي اتخذتها على مرّ تاريخها يطول، سوف نكتفي بإلقاء الضوء على السنين الأولى لهذه المجلّة، عن طريق التعرّض لظروف نشأتها، والإحاطة بالفترة التاريخية التي ظهرت فيها، والتعرّف إلى الحياة الثقافية والصحافية قبيل ظهورها.

صدرت المجلّة في إحدى اللّحظات الدقيقة في التاريخ المصري، في أواخر القرن التاسع عشر وعلى مشارف القرن العشرين. وقد انقسمت الصحافة وقتها قسمَين، قسم يُشايع تركيا ويُندِّد بالاستعمار، وقسم يدافع عن الإنكليز ويذيع مساوئ العهد التركي، وذلك كان متمثّلاً بجريدة “المقطّم” التي أنشأها الاحتلال لنفسه.

ومع هذا، فقد بدأ الحقل الصحافي في الصحوة بعد خموله؛ حيث ظهرت صُحف وطنية وعلمية وثقافية عدّة، منها جريدة “المؤيّد” لصاحبها الشيخ علي يوسف رائد الصحافة العربية الوطنية في مصر وكان ذلك قبل صدور مجلّة “الهلال” بثلاث سنوات؛ وبدأ يتوالى صدور الصحف والمجلّات، وكان ذلك على يد الكتّاب العرب المُهاجرين من بلاد الشام، ومنهم الكاتب المفكّر جرجي زيدان الذي أصدر مجلّة “الهلال” وجعَل منها مجلّةً عربيّة ثقافية أدبية، وكذلك أصدر الزعيم الوطني عبد الله النديم مجلّة “الأستاذ” قبل صدور مجلّة “الهلال” بيومَين فقط.

صدر العدد الأوّل من مجلّة “الهلال” في شهر أيلول (سبتمبر) 1892، من مطبعة التأليف التي صارت في ما بعد مطبعة “الهلال”، التي كانت تحتلّ دكّاناً في حيّ الفجالة العريق(حيّ المَطابع)، وبدأت فكرة المطبعة نفسها عندما حدَّد جرجي زيدان مستقبله في العمل الثقافي، فاشترك مع نجيب متري (صاحب دار المعارف في ما بعد) في مطبعة لطبع الكُتب عام 1891، وهي “مطبعة التأليف”، وسرعان ما دبّ الخلاف بينهما، فاستقلّ زيدان بالمطبعة وأخذ يعمل على تطويرها، إلى أن التقى يوماً في مقهى “الشانزليزيه” مع بعض أصدقائه وكان من بينهم إبراهيم اليازجي – وكان عالِماً لغويّاً وشاعراً وأديباً وصحفيّاً – واتّفق معه باعتباره صانعاً لأمّهات الحروف العربية التي تُطبَع بها الكُتب على صنع مجموعات من الحروف العربية مختلفة المقاسات، وهي التي طُبعت بها مجلّة “الهلال” في مرحلة من مراحلها.

وكان الإخراج الصحافيّ للعدد الأوّل من المجلّة بسيطاً للغاية، غير مزدحم بالرسوم والألوان، وإنّما مُحاطاً بإطار زخرفيّ فقط، يتصدّره عنوان المجلّة بخطّ بارز أسفله التعريف بها على أنّها “مجلّة علميّة تاريخيّة أدبيّة” لمُنشئها جرجي زيدان، مع ذكر قيمة الاشتراك (خمسون قرشاً)، وطبعت بمطبعة الهلال في الفجالة، وكُتبت هذه العبارات باللّغتَين العربية والإنكليزية، فضلاً عن تاريخ الصدور الذي تقدّم فيه التاريخ الافرنجي على التاريخ العربي بعكس المجلّات الأخرى الصادرة في هذا الوقت (أحمد حسين الطماوي، الهلال: مائة عام من التحديث والتنوير، 1992). وقد حرص صاحبها على استهلال العدد الأوّل من المجلة بتوضيح الغاية من إصدارها وسبب تسميتها “الهلال“. ففي فاتحة العدد الأوّل كتب جرجي زيدان يقول: “أمّا الغاية التي نرجو الوصول إليها فإقبال السواد على مُطالعة ما نكتبه ورضاؤهم بما نحتسبه وإغضاؤهم عمّا نرتكبه فإذا أتيح لنا ذلك كنّا قد استوفينا أجورنا فننشط لما هو أقرب إلى الواجب علينا”، مؤكِّداً بذلك أنّ قيمة العمل الصحافي في الوصول إلى القارئ وإرضاء ذوقه وإشباع حاجاته العلمية والثقافية، وهو ما التزم به زيدان على مدار إدارته للمجلّة؛ فهو لم يكتف بالوصول إليه بلغة سهلة وسلسة، وإنّما أفرد ركناً لأسئلة القرّاء، وحرص على الإجابة عن أسئلتهم، وعلى طرح الموضوعات التي يرغبون في معرفتها، وكان يستجيب لاقتراحاتهم؛ لأنّها ” تنبِّه إلى موضوعات كثيرة لم يتمّ التطرّق إليها ولم تَرِد على ذهن محرّري المجلّة”، وكانت الإجابة عنها إضافة للكاتِب بقدر ما كانت إضافة للقارئ؛ حيث إنّ البحث عن إجابات عن أسئلة القرّاء يزيد في ثقافة الكاتِب، ويُذكر في هذا الشأن أنّ أحد القرّاء طلب ذكر شيء عن “تاريخ آداب اللّغة العربيّة” فأجابه زيدان بسلسلة طويلة متلاحقة من المقالات المدروسة.

وعن سرّ اختيار هذا الاسم، يقول جرجي زيدان في العدد الأوّل من المجلّة (الأوّل من أيلول/ سبتمبر 1892):

“وقد دَعوْنا مجلّتنا هذه “الهلال” لثلاثة أسباب.. أوّلاً: تبرّكاً بالهلال العثماني الرفيع الشأن، ثانياً: إشارة إلى ظهور هذه المجلّة مرّة في كلّ شهر، ثالثاً: تفاؤلاً بنموّها مع الزمن حتّى تتدرج في مدارج الكمال. فإذا لاقت قبولاً وإقبالاً أصبحت بدراً كاملاً بإذن الله”.

حدّد زيدان في العدد الأوّل مادّة المجلّة وشرح تبويبها، وقد كانت في أوّل صدور لها مقسَّمة إلى خمسة أبواب هي:

أوّلاً: باب “تاريخ الحوادث وأعظم الرجال”، وكان يتحدّث عن واقعة كبيرة، أو شخصية بارزة أثّرت في الحركة التاريخية أو العلمية أو الأدبية، سواء كانت من القدماء أم من المحدثين، من الشرقيّين أم الغربيّين.

ثانياً: باب “المقالات”، وكان يشتمل على مقالات تتّسم بسهولة الأسلوب ووضوح الفكرة في مختلف الموضوعات؛ فقد ورد في هذا الباب في العدد الأوّل مقال بعنوان: “الجرائد العربيّة في العالَم” تحدّث عن الصحف الصادرة في القطر المصري في تلك الفترة، وقام بتصنيفها وترتيبها أبجديّاً مثل: صحيفة أبو نضارة، والأحكام، والتنكيت والتبكيت، وروضة الإسكندرية، وروضة المدارس، وغيرها. كما نشر قائمة بالصحف التي صدرت في سوريا والأستانة، هذا فضلاً عن الصحف العالمية الأخرى التي صدرت في الدول الأجنبية مثل: قبرص، وإيطاليا، وفرنسا.

ثالثاً: باب “الروايات”، تحدّث جرجي زيدان عن هذا الباب في افتتاحية العدد الأوّل قائلاً: “سنُدرج فيه من الروايات على مثال ما كتبناه ممّا هو تاريخي أدبي ممثِّل لعادات الشرقيين وحوادثهم، مُوافِق لأذواقهم، خالٍ من الحوادث الأجنبية والمسمّيات الأعجمية فنُدرج في كلّ جزء من الهلال جزءاً من الرواية وما تحتاج إليه من الرسوم”.

رابعاً: باب “تاريخ الشهر”، وقد احتوى هذا الباب على الكثير من الأخبار المحلّية، وأهمّ الأحداث العالمية شهريّاً، وكان هذا الباب بمثابة تغطية صحافية لما يشهده القطر المصري من وقائع سياسية، أو أحداث اجتماعية، أو أخبار ثقافية.

خامساً: باب “منتخبات من الأخبار”، وفيه يتناول نقد الأعمال الأدبية، وأهمّية الباب الجديد أنّه “حفظ لنا نبذاً وكلمات عن كُتب وجرائد ومجلّات لا وجود لها في دار الكُتب المصرية”. وتغيّر اسم الباب في ما بعد إلى “مطبوعات جديدة”، بعدما ضاق الكِتاب بغلبة لذعة الانتقاد لدى زيدان على المديح.

كانت هذه هي أبواب “الهلال” في سنتها الأولى، وأضيفت إليها في ما بعد أبواب أخرى أثْرَت مادّتها وجعلتها أكثر إفادة وتشويقاً، مثل “صحّة العائلة”، وباب “رسوم مشاهير العصر”، وباب “عجائب المخلوقات” – المقتبس من باب “عجائب الخلق” في سابقتها “المقتطف“، وأبواب “غرائب العادات والأخلاق” و”التهاني” و”التعازي”، و”السؤال والاقتراح”، الذي يفتح المجال لأسئلة القرّاء واقتراحاتهم.

بدأت مجلّة “الهلال” في أوّل الأمر تصدر كلّ شهر حتّى نهاية السنة الأولى، وفي أثناء تلك الفترة ظهرت رغبة كثير من القرّاء في زيادة حجم المجلّة، واقترح البعض أن تصدر مرّتَين في الشهر. وبالفعل تحقّق هذا الاقتراح في السنة الثانية، فصدرت المجلّة مرّتَين في الشهر، مرّة في أوّله ومرّة ثانية في منتصفه، وأصبح عدد أجزاء “الهلال” في السنة أربعة وعشرين جزءاً، يحتوي كلّ جزء على 32 صفحة، كما تمّت إضافة باب سادس وهو “باب السؤال والاقتراح” فأصبحت المجلّة تتكوّن من ستّة أبواب، وقام جرجي زيدان عام 1893 بزيادة عدد صفحات المجلّة 16 صفحة فأصبح مجموع الجزأين 80 صفحة في الشهر، وأضاف جرجي زيدان باباً سابعاً هو “باب الأخبار العلميّة” تحدّث فيه عن الاختراعات والابتكارات والاكتشافات التي يشهدها العِلم والصناعة، وذلك تحقيقاً لما وعد به القرّاء من زيادة وتحسين كلّما رأى منهم إقبالاً وتشجيعاً.

في السنة الرابعة على صدور “الهلال” أضاف جرجي زيدان باباً ثامناً شمل قسماً من فصول رواية تاريخية، ثمّ أضاف بعد ذلك تاسع أبوابها وهو “باب مشاهير العصر”، كما ابتكر باباً آخر هو “صحّة العائلة”. وأدخل بعد ذلك مجموعة من التطوّرات على المجلّة، فقد زُيّنت صفحاتها بعدد من الرسوم الواضحة، وأحاط كلّ صفحة إطارٌ يفصل الكلمات عن الهامش، واستمرّت “الهلال” تصدر مرّتين في الشهر. وابتكر جرجي زيدان باباً جديداً اسمه “عجائب المخلوقات” كان هدفه الأساسي عرض أغرب ما في الطبيعة من مخلوقات.

بدأت “الهلال” في سنتها العاشرة في تقديم هدايا للمشتركين فيها صورة كُتب من مؤلّفات جرجي زيدان، واستطاعت المجلّة منذ صدورها زيادة توزيعها في أرجاء العالَم كافّة، فكان لها مشتركون وقرّاء في مختلف أنحاء الوطن العربي، فضلاً عن الهند وأستراليا وروسيا والولايات المتّحدة وأميركا اللّاتينية، وهذا التوسع لم تعرفه الصحافة العربية إلّا بصدور مجلّة “الهلال“.

****

(*) نشرة أفق العدد 822.

اترك رد