في ذات خريف ’’واشنطنيّ‘‘ مع هشام شرابي

الآن تعودني تلك الزيارة الأولى إلى واشنطن من خلال ألاعيب الذاكرة مثل “الفلاش باك” تتداعى بحرّية لا أستطيع التحكّم فيها مثل فراشات تطير في غبش قبيل اللّيل… أترك نفسي تمضي مع تلك المَشاهد. كانت المحطّة التي نزلتُ فيها مُقفرة رماديّة بيضاء. كنتُ قادماً من نيويورك بقطار الظهيرة في ذلك اليوم المطير من ذاك الخريف البعيد. نيويورك التي غادرتها في حال قلقة. كنتُ ضائعاً ومرتعباً داخل تلك المدينة الكبيرة التي أزورها أوّل مرّة. نيويورك بجادّاتها الطويلة وسيّارات التاكسي الكبيرة الصفراء وكرنفال يوم كولومبوس الذي تُشارِك فيه شعوب أميركا كلّها، وأنا في الشارع الخامس وسط الحشد أمسك بحديد نافذة البركليس بنك لأتمكّن من رؤية الكرنفال.

تمرّ من أمامي دمى عملاقة ووجوه وأقنعة طوطميّة مصبوغة بالألوان البدائية لتلك الأقوام المجهولة من طوائف الهنود الحمر كلّها، من الإيراكوا والأنكا والمايا وغيرها جاؤوا من أقاصي القارّة، من جغرافيّات ما قبل التاريخ في تلك الأراضي الأسطوريّة الملحميّة.

كنتُ طيلة الرحلة أفكّر في اللّقاء أخيراً بهشام شرابي. هشام الذي عرفته نصّاً وعاشرته نصّاً وأحببته نصّاً ولا أدري أيّ جاذبيّة شدّتني إليه، وها قد حان الوقت لأن أراه وأتحدّث إليه. كنتُ طيلة السفرة بقطار الأمتراك مفعماً بمشاعر متضاربة؛ فأنا لم أكُن أدري أيّامها أنّ للنصّ أيضاً كينونته كما يقول الشاعر راينر ماريا ريلكة. كنتُ أُطابق بين هويّة النصّ وهويّة الكاتِب. ولم أكُن أدري أنّ للنص وجوده المفرد الذي يختلف عن كاتبه، وأنّه أيضاً كالكائن البشري لديه تلك القدرة العجيبة على تغيير مصير الآخر إذا ما تمّ لقاءٌ حقيقي بينهما، لأنّ النصّ الحقيقي هو ذاك الذي يفعل شيئاً في وجودنا. وهكذا كانت نصوص شرابي تمتلك تلك القدرة العجائبية والنادرة على الفعل في القارئ.

كان اللّقاء بشرابي، وكانت تجربة أخرى امتدّت سنوات طويلة، لأنّ ثمّة أشياء تُسمّى “أسرار التلقّي” التي افتقدها عصرنا وهي ذاك التعليم الذي لا يمرّ من خلال النصوص وإنّما من خلال المُعاشَرة والمُعايَشة والمُعايَنة والأخذ المُباشَر عن الشيوخ كما يقول ابن خلدون. هكذا كان شأن التلاميذ من أيّام آباء الصحراء المصريّين، وللمتصوّفة كلامٌ كثير في أدب المُريد.

وصلتُ واشنطن بعد الظهر. فجأة بدا الطقس مشمساً مختلفاً عن نيويورك. وبدَت واشنطن مثل حديقة كبيرة. واشنطن الأرستقراطية الناعمة والأنثوية نقيض نيويورك الكبيرة الصاخبة والعدوانية، واشنطن المُترَفة. ساحة “الديبن سيركل” والناس جماعات موزّعون تحت أشجارها العملاقة تلعب الشطرنج حول الطاولات الحجرية. والشارع الذي يقع خلف “بوك ستور”، والذي لا يزال يشتعل بالغاز، وكم أحببتُ شعلات النيران فوق أعمدة الإنارة وهي تتراقص في فضاء ليل واشنطن.

عندما وصلتُ إلى مكتبه في جامعة جورجتاون، كان هشام مع طالب من أحد البلدان المشرقية لم أتبيّن لهجته يحتجّ على نتيجة الامتحان لأنّه رسب ويريد تغيير النتيجة. كان يداور ويلحّ، وكان هشام يحاول بهدوئه الحازم إقناعه في جمل عقلانية ومُقتضَبة تشي ببعض المسافة. بدا لي منطقُ الطالِب وموقفُه النفسي طفوليّاً، وفهمُه لإدارة الجامعة قرويّاً، حيث يذهب الأبّ المتنفّذ مع ابنه الطالب في بعض الأوساط العربية إلى الأستاذ أو المدير ويغيّر النتيجة بما يرضي العائلة.

غادر الطالِب وقبل أن يعلّق هشام على الموقف المسرحيّ، نظر إليّ بعضاً من ثانية بتركيزٍ، مُستجمِعاً أفكاره  وقواه، ثمّ انطلق بشكل هادئ وحاسم وهي طريقته في مُخاطَبة الآخرين.

قال: ألم تر…؟  قبل الدخول بشروط الامتحان. لو نجح ما كان ليعترض.

كان هشام يبدو حزيناً، ليس لأجل الطالِب، وإنّما لأنّه يمثّل حالة عامّة من النمط السلوكي كثيراً ما ثار ضدّه…

ونحن نعبر أروقة جامعة جورجتاون إلى مطعم الجامعة نصعد وننزل تلك المدارج الرخامية ذات الدرابزين اللّاتيني الأبيض، ظللتُ أسأله عن بعض الإشكاليّات التي ذكّرني بها سلوك هذا الشاب… بدا هشام حزيناً وشبه يائس من التغيير العميق الذي يُطاول البنى المترسّبة وليس التغيير السطحي ذاك التمويه الحداثوي الذي يتبدّى في الشعارات وفي الإيديولوجيا التي هي انحطاط للفكر.

كنتُ مندمجاً بالكامل، أحدّثه بكثيرٍ من الحماسة عن إعجابي بالمقدّمات. فقد أحببتُ درسه الميدانيّ لتفاصيل الحياة اليومية وجزئيّاتها. أشياء عابرة أمثال تعبيرات مواقف متكرّرة يستخلص منها هويّة تلك الذهنية وبنيتها المتحكِّمة في العربي… هي بداية لوعي الذات لنفسها.

ما أزال أذكر مصطلحات المُسايرة التي تقضي على كلّ حوار وتبادُل فكري حقيقي بين الناس والمتفرِّعة عنها فكرة تلازم المُجامَلة والاغتياب، حيث يمتنع الشخص عن إبداء رأيه بحضور الآخر، ويُسايره، ما يجعل من الاغتياب في مجتمعاتنا المتنفّس الوحيد لإبداء الرأي أو الموقف. القرابة، أي العلاقة الدمويّة، هي المحدِّد الأساس لبقيّة العلاقات؛ تلك العلاقة التي تتقدّم في مجتمعاتنا، وبأشكالٍ مُتفاوِتة، على علاقة المُواطَنة. وأنا لا أعرف، باستثناء قراءات علي الوردي للمجتمع العراقي، مَن اهتمّ بسوسيولوجيا التفاصيل اليومية كما فعل شرابي في المقدّمات تلك. الكلّ يتّجه إلى دراسة الموضوعات والظواهر الكبرى في مجتمعاتنا. هشام اتّخذ مساراً آخر بسيطاً وحقيقيّاً أو ما يسمّى بالعمل الحقليّ. كان يلتقط الأمثال والتعبيرات الشعبية، يدوِّن المواقف المتكرِّرة والسلوكيّات النمطية للأفراد. يُفكِّك السلوك الاجتماعي ويستخلص آراءه على الطبيعة في الحقل من خلال تفاصيل المعاش. بمعنى أنّه لم يكُن يستورد إشكاليّات مجتمعات أخرى ويسقطها على واقعنا.

كان هشام في تلك السنوات مفعماً بضوء نيتشة… أتذكّر كان يقف أمام البناية التي تضمّ مكاتب الأساتذة في جورجتاون… لا أدري كيف تذكَّر “نيتشة”.

قال كان نيتشة يتكلّم كثيراً عن مثل هذه الصباحات… تذكّرت تلك الغابة الجبلية على مشارف مدينة نيس الفرنسية التي كانت مسرح تجواله وتأمّلاته.

سألته ماذا تقرأ هذه الأيّام؟… قال رواية فولكنر “ضوء في أغسطس“.

كان هشام أيّامها كثير الحديث عن التنوير الفرنسي هو صاحب الثقافة الأنكلوسكسونية؛ وهو إذ يتحدّث، يلتفت إليك بكامل حضوره، تختلج ملامحه بمزيجٍ من ابتسام وتصميم على الكلام يقدِّم كلامه ببرهة صمت كما ترمش العين أو كما تتوقّف الكاميرا لثانية يتحوّل وجهه إلى صورة فوتوغرافية جامدة، ثمّ تعود الحركة إلى تقاسيم الوجه ويبدأ بهدوء وتركيز شديدَين يشرح الفكرة التي يريد إيصالها. أتذكّر التماعة عينيه وسط تلك الابتسامة النبيلة المترعة التي تملأ وجهه.

كان مسكوناً بسؤال: كيف يقع تأصيل التنوير لدينا من دون السقوط في التغريب الأتاتوركي؟ كيف يتمّ التغيير من خلال الخصائص الثقافية واللّحظة التاريخية التي تمرّ بها المنطقة ؟… كان شاعراً بالفجوة القائمة بين لحظتنا ولحظة الحداثة في الغرب. عَملَ، وبشكلٍ مُمَنْهَج، على رصد التيّارات الجديدة التي بدأت تجتاح الفكر العربي  داخل الأكاديميا، مُتتبّعاً مقاربته الأولى التي بدأها في كتابه “المثقّفون العرب والغرب“.

كان أيّامها يشتغل على تحديد مفهوم البطركية في المجتمع، وبالتالي في الثقافة العربية، وكتابه “الشخصيّة البطركيّة” هو محاولة لتوطين هذا المصطلح الديناميّ. إذ لم يكُن هشام لما يتمتّع به من عقل نقديّ مجرّد ناقل، كما هو شأن كثير من الأكاديميّين في الجامعات العربية، حيث يقضون كامل وقتهم في اللّهاث وراء مستجدّات الفكر الغربي مُترجمين وعارضين لتيّارات فكرية مجتثّة من عوالمها اللّسانية وسياقاتها التاريخية.

حضرتُ في بيت صديقه حليم بركات جلسةً قرأ فيها على حليم آخر ما كَتب… كان هشام يفيد من ملاحظات حليم. كان حليم بركات أيّامها بصدد كتابة روايته “طائر الحوم” تلك السيرة الذاتية الجميلة مثل نشيد لا ينتهي…

قلتُ لهشام مشروع أتاتورك التغريبي هو مشروع اللّيبراليّين العرب الذين حاولوا إقامته بين الحربَين وكنتَ قد درستَ هذا في كتابِك “المثقّفون العرب والغرب“.

واستمرّ هشام..

هل لدينا لغة فلسفية حديثة تستوعب على سبيل المثال لغة هايدغر. صمت للحظة ثمّ واصل: لا بدّ من مرور خمسين سنة حتّى نُترجم كِتاب هايدغر المحوريّ “الكينونة والزَّمن“.

طبعاً لم يكُن يقصد غياب المقابل اللّغوي، فأنتَ لكَ أن تُترجم أو تشتقّ أو تنحت كلمات جديدة، ولكنّ المسألة كما يراها هشام تكمن في عجز هذه الترجمات عن استيعاب المصطلح الفلسفي الغربي في غياب توطين فلسفة المصطلح، لأنّ المصطلح يكتسب وجوده من خلال السياق الفلسفي الذي أوجده. وهكذا كثيراً ما تحوّل الجدل الفلسفي لدينا إلى مجرّد تعاطٍ لغويّ محض ونصوص غامضة.

بدا لي هشام خدين جيل الطهطاوي وخير الدّين باشا التونسي وقد قرأ هيغل وماركس ونيتشة وكيركغارد وفرويد وهايدغير، لذلك تجده أكثر وعياً وأكثر تمزّقاً من ذاك الجيل.

*****

(*)  نشرة أفق العدد 823.

اترك رد