لهذا لم تستعد العربية مكانتها
في عام 1988، التحق بمعهد الترجمة بالجزائر العاصمة طلبة من جمهورية بورندي بإفريقيا، جمعتني علاقة حميمة ببعضهم لا سيما جون بول ومواطنته فرانسواز. كان هؤلاء الغرباء في حاجة ماسة إلى إتقان العربية التي كانت اللغة الأم في الترجمة. وما كان يخفى على أحد منهم مدى صعوبة تعلّم لغة سامية معقدة في حجم العربية، تُكتَب من اليمين إلى اليسار، وبأحرف مختلفة، ويتجاوز عدد مفرداتها 12 مليون كلمة. لكنّ قلوبهم كانت مفعمة بالثقة في النفس والإرادة والصبر والأمل والإيمان بإمكانية التفوق فيها لا سيما أنهم اليوم في أرضها وبين أهلها.
وسرعان ما اصطدم هؤلاء بأجواء مختلفة مخيّبة للظن. فقد بحث هؤلاء عن هذه اللغة التي قصدوا الجزائر لأجلها بين أهلها ولسوء حظهم لم يجدوها. فما يتحدّث به هؤلاء البشر من حولهم ليس لغةً بالمفهوم الصحيح للكلمة. فاللغة، كما جاء في تعريف معجم كامبردج الإنكليزي، وسيلة اتصال تتألّف من أصوات وكلمات وقواعد يستخدمها البشر في بلد ما للتواصل.” فلا شكّ أنَّ مثل هذا التعريف لا ينطبق على ألسنة هؤلاء الطلبة من أبناء الجزائر الذين توافدوا على المعهد من شتى أنحاء البلاد. فهم لا يتحدثون لغةً موحّدة، منظّمة، تخضع لقواعد وأحكام كسائر الأمم، وإنما مزيجا لغويا يختلف من منطقة إلى أخرى. إنها عشرات اللهجات المعقدة من حيث التركيب، والفقيرة من حيث المفردات، والضعيفة من حيث اللغة، والركيكة من حيث التعبير، تطغى على بعضها ألفاظ أجنبية لا تمت للعربية بصلة. ولا تضبط هذه اللهجات قواعد، يتصرّف فيها المتحدّث كما يشاء، فضلا عن أنها لا تصلح للكتابة، ولا لدراسة العلوم والتكنولوجيا والطب، ولا لتحصيل المعارف ولا حتى لنشر الإبداع الأدبي وهو بلا ريب ما يفسر ترفّع الأدباء المدافعين عن اللهجات العامية عن الكتابة بها.
وليس من ينكر صعوبة فهم اللهجات الجزائرية في العالم العربي. فها هي صحيفة الحياة اللندنية تؤكد ذلك في عددها الصادر 25 آب/أغسطس 2006 بعنوان (رجل الأعمال السوري يحتاج إلى مترجم، اللهجة المحلية الجزائرية تمثل مشكلة للأجانب): “فَهْمُ اللهجةِ الجزائرية ليس أمراً سهلاً. ففي جملة واحدة قد يكون الفاعل باللغة العربية والفعل باللغة الفرنسية أما تتمة الجملة فقد تكون باللغة البربرية.”
هذا الواقع حمل رجل الأعمال السوري زياد كرم على الاستعانة بمترجمين، كما أوضحت صحيفة الحياة، معلّلة ذلك بقوله: “أحتاج إلى تدريب على اللغة كي أفهم أشقائي الجزائريين. إنه أمر معقّد للغاية، فاللهجة غير معتادة إلى حد أنني قررت استخدام مترجم خلال فترات إقامتي في الجزائر.”
شهد جون بول ومواطنوه ذلك الواقع، وشاهدوا أيضاً، بشيء من الذهول وخيبة الأمل، طلبةً وأساتذة ومثقفين ومفكرين ودكاترة وعلماء من أبناء المجتمع يستخفون بلغتهم ويستعجلون موتها. فبدلا من حسن الظن بها والإيمان بعلو منزلتها، ها هم أبناء جلدتها يتهكمون منها، وينقصون من قيمتها، ويستهينون بقدراتها على مواكبة العصر ومسايرة عجلة الإبداع والتطور، مصدرين أبشع الأحكام في حقها، متوهّمين أنّ لغة الثقافة والحضارة والتطوّر لن تكون لغتهم ولغة جيرانهم وأشقائهم، العربية، وإنما لغة أجنبية مستوردة من خلف البحار.
وهذه اللغة المستوردة من خلف البحار لن تكون اللغة الإنكليزية مع أنها اللغة الأولى في العالم والأكثر انتشاراً والتي يتحدث بها ما لا يقل عن ربع سكان الكرة الأرضية. هذه اللغة المستوردة لن تكون غير اللغة الفرنسية. رأى جون بول ورفاقه أنّ هذه اللغة لا ترغب في الرحيل عن أرض الجزائر ولا عن قلوب الجزائريين، وهي من مخلفات التأثير الفرنسي الذي لم تعرف الجزائر التخلص من أغلاله الفكرية بعد حقبة طويلة من الاستقلال. ومن مظاهر ذلك مثلاً عرض أسماء بعض محلات وسط المدينة باللغة الفرنسية، وإصرار أصحاب بعض هذه المتاجر على الرد على الزبائن بتلك اللغة حتى وإن خاطبهم الزبائن بالعربية…
ولم تقتصر هذه الظاهرة على الأفراد والمتاجر الصغيرة، بل امتدت لتشمل الهيئات الثقافية والمؤسسات الاقتصادية والإدارة. فها هو الروائي سمير قسيمي يعلن مقاطعته الصالون الدولي للكتاب في الجزائر في طبعته العشرين بعد “تسلُّمه دعوة باللغة الفرنسية وهو الروائي الذي يكتب باللغة العربية.” (صحيفة المحور: تشرين الأول/أكتوبر 2015). كما صار يتعذّر على ممثلي بعض المؤسسات الجزائرية التواصل مع الزملاء العرب من غير مترجمين.
وها هو المترجم والناقد الجزائري سعيد بوطاجين يشير إلى هذه الظاهرة في منشوره: “قال لي مستشار وزير الثقافة في بلد مشرقي: زارنا مسؤول جزائري كبير وألقى على الحضور كلمة بالفرنسية، فلم يفهمه سوى الوفد المرافق له.” وهنا يحقّ لنا التساؤل: هل ثمة ضرورة لأعضاء الهيئات الثقافية لمراسلة أدباء من أبناء جلدتهم يكتبون باللغة العربية في بلد لغته الرسمية العربية باللغة الفرنسية؟ وهل ثمة حاجة إلى اللجوء إلى الفرنسية أو خدمات الترجمة لمخاطبة أشقاء عرب في بلد لغته الأولى العربية؟ ولمَ يمثّل هذه المؤسسات في المحافل واللقاءات الدولية مَن لا يتقن لغة بلاده الرسمية؟ وهل خلت الساحة من رجال ونساء يتقنون العربية؟ وما الذي يبرّر بقاء النفوذ الفرنسي في هذا البلد اليوم بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال؟ يفسّر الروائي الجزائري حاج أحمد الزيواني هذه الظاهرة ب: “ذهنية القابلية للفرانكفونية، كأحد اللّبنات التي عملت عليها منظومة ما بعد الكونيالية ثقافيًّا، وغير خافٍ على أحد أنه منذ الرعيل الأول للكُتّاب الفرنسيين المقيمين بالجزائر، مورست وصاية فوقية، على الثقافة الجزائرية المستلَبة، مما مهّد السبيل بعد ذلك لأن يقتفي الكُتّاب الجزائريون مسار الكتابة بالفرنسية بعد ذلك” (المجلة الثقافية الجزائرية: 26 أيار/مايو 2017) وهذا بلا ريب ما يفسّر الاهتمام الذي تحظى به الأقلام الفرانكفونية والمؤلفات الفرنسية على كل المستويات، وهو ما يفسر بدوره إقبال بعض الأقلام مزدوجة اللغة على الكتابة باللغة الفرنسية بدلا من العربية.
شاهد جون بول ومواطنوه ترفُّع الجزائريين عن اللغة العربية وتشدّقهم بالكلام بالفرنسية حتى وإن لم يتقنها بعضهم. وفي كل الأحوال، فإنّ جون بول ورفاقه لم يقطعوا مسافة تزيد عن 5 آلاف كلم لأجل الحديث باللغة الفرنسية وهي أساساً لغة جمهورية بورندي الرسمية. فهم جميعاً يتقنون الفرنسية ويتقنون أيضاً لغة آبائهم وأجدادهم، “الكيروندية”. ولم يأت هؤلاء لأجل تعلّم لهجات شفوية مشتّتة، لا تسمن ولا تغني من جوع، ينحسر استعمالها في رقعة جغرافية ضيقة ولا يفهمها غير أهلها، وستتلاشى حتماً في جيل من الأجيال المقبلة. فقد جاء هؤلاء لأجل تعلم لغة شفوية ومكتوبة معاً، موحدة ومنظمة وتخضع لأحكام، هي اللغة العربية الأبدية التي يتحدث بها عشرات الملايين نسمة في عدد كبير من الأقطار، وتحتل المرتبة الرابعة عالميا، وهي إحدى لغات الأمم المتحدة، وتبقى همزة الوصل بين كلِّ العرب من الخليج إلى المحيط الأطلسي، ومن المتوسط إلى أعماق القارة السمراء.
ورغم هذا الواقع اللغوي المخيب للأمل والمثبّط للعزيمة، استطاع جون بول وفرانسواز ومواطنوهما في آخر المشوار من تحقيق ما فشل فيه ملايين من أبناء وبنات هذا الوطن وهو إتقان اللغة العربية في محيط لا يتحدّث هذه اللغة، ولا يرغب في تعلّمها، ولا يشجّع من يرغب في تعلّمها، وينظر نظرة احتقار إلى كل من سعى لاستخدامها أو تعلُّمها أو تعلِيمها أو الدفاع عن مكانتها.
نجح هؤلاء الغرباء في تحدث هذه اللغة وقراءتها وكتابتها والترجمة بها بفضل الثقة بالنفس والإرادة والهمة والإصرار فضلا عن حسن الظن بها وتقدير قيمتها والإيمان بعظمتها، وكيف لا وهي إحدى أثرى لغات العالم، ولسان ما يناهز 420 مليون نسمة، ونافذة تطلّ على إحدى أعرق الحضارات البشرية.
*****
(*) صحيفة “رأي اليوم” اللندنية 1 أكتوبر 2017