“آخر الأراضي” لأنطوان الدويهي، التي تصبح ملكك إلى الأبد

 

حين قرأت رواية أنطوان الدويهي “آخر الأراضي”، وجدت ذاتي داخلاً إلى معبد، أو متحف، متنقلاً بين لوحة فنية من هنا وصورة من هناك، مغموراً بالجمال، غارقاً حتى أقاصي نفسي، هناك، حيث تُكتَب وتُرسَم الأشياء، ناصعة، نقيّة، بأدق تفاصيلها.

هكذا رأيتُ نفسي، انا ايضاً، مستقلاً هذا القطار، من مدينة السين إلى مرفأ سولاك، في رحلة إلى عمق داخلي. في كل محطة يرتسم وجه، هو صورة مستمدة من أعماقنا، فيما تغيب كل الوجوه الأخرى، وتصبح أطيافاً يلفها ضباب الخارج، الذي لم ولن يتبدّد، حتى تغرق في هذا الشتاء الأبديّ حتى الأمّحاء. وحده يبقى الوجه- اللوحة.

مشاهدات لا حصر لها في قطار البحث المضني عن كلارا. “حين توقف القطار في محطته الثالثة، بانتْ عن يميني قرية في أسفل الغابة، كثيرة الرونق، عميقة الهدوء، يجتازها نهرٌ صغير، ويحوطها الضباب الرهيف نفسه. بدأ المطر يهطل رذاذاً. نزلتِ السيدة المسنّة وفي يدها مظلتها بعد ان ودّعتني بابتسامة عذبة، كثيرة الخفر، كأنها أدركت ما أشعر به نحوها. قلت في نفسي: “هذه هي قريتها”. دقت ساعة المحطة الثامنة صباحاً. تمنّيت لو أستطيع البقاء بعض الوقت في تلك القرية، فأسير في أزقتها، وأتأمّل نهرها من على أحد جسورها، وأكتب في أحد مقاهيها، وأدنو من سرّها وألج روحها”. كذلك وصفه شجرة الحور الكبيرة، صديقته السريّة، والعالمة، أكثر من أي كائن آخر، بأحوال ذاته، وهي “تمثل” امامه من وراء بلور النافذة الفسيحة في صالة الشاي في حديقة لوتيسيا. هي مدركة تماماً لما حولها، عارفة بما يجري. تدخل شجرة الحور إلى روحه ويدخل إلى روحها، فيصبحان كأنهما معاً في عرزال بلوري في حرج أفقا، بلدة الجبل والصيف، يضحى ملجأه الأخير.

مشهد من مشاهد مرسومة، كثيرة التنوّع، لا حصر لها، تسكن هذه الرواية. ما يميّزها أن الروائيّ لا يرسمها وهو ينظر إليها، بل بعد زمن طويل – ربما هنا بعد أربعين عاماً- كما أضحت “ماثلة عميقاً في فسحة ذاته”، كما يقول، فلا تعود هي مشهداً خارجياً قط، بل مشهد داخلي، مستمدّ من عالم المشاعر والرغبات والأشواق. كما لدى كبار الرسامين الانطباعيين، الذين ادخلوا أهم ثورة إلى تاريخ الرسم، حين نقلوه من محاكاة الطبيعة الخارجية، إلى التعبير عن داخل الذات. كأن أنطوان الدويهي يلتقي، من دون ان يدري، مع كلود مونيه حين يقول ما معناه: “لا ترسموا المشهد وهو أمامكم. أغلقوا عينيكم واحملوه في داخلكم وارسموه بعيدا عنه وفي غيابه”.

ليست المشاهد وحدها، بل شخصيات ساحرة كثيرة هي أيضاً، يدخلها الدويهي إلى ذاته، إلى مشاعره، فينزع عنها كل زائد، فيجلوها ويعيدها إلى جوهرها، إلى حالتها الأولى، بهية، شفافّة المعالم. كانها كلها أيضاً، موضوعة تحت عبارة “لا حكم عليه”، فهي متحرّرة من الأحكام، حتى تلك التي تحمل الشر في ذاتها، مرؤوفٌ بها. كلها، منتشلة من واقعها، ومعلقة، ايقونات في متحف ذاتنا خارج الزمن. فالعابر “لا يحكم ولا يدين”، كما جاء في الصفحة الأولى من “كتاب الحالة”، كتابه الشعري الكبير.

هكذا، بينما تدخل كتابة الدويهي إلى الأعماق، وتتصل فيها بجوهر الأشخاص والأشياء، تحوّل مضامينها وأشكالها، من الوعي الفردي إلى الوعي الجماعي، وهو أيضاً ما يجعل هذه الكتابة تغرّد خارج السرب.

وانا لا أغالي إذا قلت بأن مجمل هذه الرواية مصوغ من تلك “اللحظات المتوهّجة”، او” اللحظات المضاءة”، التي يرى فيها الدويهي جوهر إبداعه الكتابي، وهي في دورانها، بصورة خاصة، حول هاجس الموت، وبحر أسراره السحيق، تنقل إحساساً جمالياً في حالته القصوى، يملأ الذات من أقصاها إلى أقصاها. العلاقة وثيقة بين الفن والموت. فوحده الغوص في الشعور الجمالي إلى أقصاه، ووحده الغوص في “اللحظة المتوهّجة” إلى أبعد أبعادها، يمكنه جلاء سر الموت.

ومع أن الدويهي يرفض التفسيرات الفلسفية لأعماله، ولا يرى من علاقة بينهما، ويقول بأنه مجرّد شاهد (“ما أنا إلا شاهد. أشهد لما أنا فيه”)، وهو لا يرمي الوصول إلى أية حقائق، يتم تعميمها ، ولا إلى أية أفكار- عقائد. أكثر من ذلك، يقول إن الأفكار هي العنصر الأقل شأناً في أعماله، وهي تأتي بعيداً، تحت المشاعر والهواجس والأحلام وعوالم اللاوعي، التي هي الأهم لديه. مع ذلك ، يمكننا القول إن “آخر الأراضي” لا تقع في العبثية، ولا في التشاؤم النهائي، إذ تحمل في نهاية المطاف الدعوة إلى الحياة. وأودّ ان أنقل، في هذا المجال، المقطع الأخير من حوار الراوي مع طلاب “المعهد الملكي”(صفحة83-84 ) :

“ثمّ كان سؤالٌ آخر(…) وجّهته فتاة، أقرب إلى سنّ المراهقة، بصوتٍ خفيض، شاخصة إليَّ من وراء نظارتيها المستديرتين: “سيدي الزائر من الشرق، أتصوّر ان كتابتك تحمل شعوراً قويّاً بالعبثية، أليس كذلك؟”. أجبتها: “لا أعتقد تماماً ذلك. هو ربما الشعور بمأسوية الحياة البشرية”. سألتني حينئذٍ: “هل ترى ان الحياة تستحق أن تُعاش؟”. أجبتها: “على الرغم من مأسوية العلاقة مع الزمن، وهذا الشيء الرهيب الذي هو وعي الموت، وهشاشة الجسد البشري التي لا تُحتمَل، والعجز المضني عن ضبط الاحتمالات، أرى أن الحياة مفضلة على العدم” .

 

اترك رد