ناقِدٌ في بَنانِ مُعَلِّم!  

(حَولَ ثُلاثِيَّةِ الكاتِبِ حِكمَت شُكرِي حنَين:”إِطلالاتٌ

على أَدَبِ إِلِي مارُون خَلِيل)

 

 

حِكمَت حُنَين…

عَرَفناهُ مُعَلِّمًا مَرجِعًا في شُؤُونِ التَّعلِيمِ، وثِقَةً في شَوارِدِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ الَّتي يُدَرِّسُ، وأَبًا عَطُوفًا لِطُلَّابِه، ورَفِيقًا لَهُم يَركُنُونَ إِلى حُبِّهِ، وتَفانِيهِ، وسَعَةِ عِلمِه.

وها نَحنُ، اليَومَ، نَكشِفُ عَنهُ أَدِيبًا مِن طِرازٍ عالٍ، يُشارُ إِليهِ بِالبَنانِ، ويُرجَعُ إِلى طَرِيقَتِهِ القَيِّمَةِ في تَناوُلِ النُّصُوصِ القَصَصِيَّةِ والشِّعرِيَّةِ، في طَلاوَةٍ لا تَخفَى.

مِن غُرَّةِ ثُلاثِيَّتِهِ “إِطلالاتٌ على أَدَبِ إِلِي مارُون خَلِيل”، يَضَعُنا في الاتِّجاهِ الأَصوَبِ لِسُلُوكِ الطَّرِيقِ المُؤَدِّيَةِ إِلى مَحَجَّتِهِ مِن دُونِ عَثَراتٍ ولا تَيَهان. فقد حَدَّدَ وَظِيفَتَهُ، في دِراسَتِهِ المُطَوَّلَةِ الشَّامِلَةِ، لَيسَ كَناقِدٍ عُدَّتُهُ نَظَرِيَّاتٌ نَقدِيَّةٌ مَرسُومَةٌ سَلَفًا يُشَرِّحُ، على ضَوئِها، نِتاجَ أَدِيبِهِ، بل كَقارِئٍ مُتَذَوِّقٍ أَفنَى السَّاعاتِ الطِّوالَ تَنقِيبًا، وبَحثًا، أَتَت حَصِيلَتُها حَصادًا وَفِيرًا يُمكِنُ أَن نُدرِجَهُ في بابِ “النَّقدِ الانطِباعِيِّ” المَوضُوعِيِّ، المُحايِدِ إِلى دَرَجَةٍ كَبِيرَةٍ، إِذ كان يَتَوَخَّى قَطفَ الجَمالِ، لا اصطِيادَ العَثَراتِ، إِن وُجِدَت.

وما يَفرُضُ تَوقِيرَ عَمَلِهِ أَنَّ الثُّلاثِيَّةَ خِلْوٌ مِنَ الأَخطاءِ اللُّغَوِيَّةِ والطِّباعِيَّة. وقد يَقُولُ قائِل: أَلَيسَ هذا مِن المُستَلزَماتِ البَدَهِيَّةِ لِكُلِّ كِتابَة؟ فَنَقُولُ لَهُ: بَلَى، وأَلفُ بَلَى؛ ولكنَّ المُتَمَعِّنَ في إِصداراتِ المَطابِعِ يَهُولُهُ الغَمْرُ الطَّاغِي مِنَ الأَخطاءِ، على نَوعَيها. فَيا صَدِيقَنا، سَدَّدَ اللهُ خُطاكَ، فَأَنتَ مِن سَدَنَةِ الكَلِمَةِ، تَصُونُ حُرمَتَها، وتُصَنِّفُهَا في المُقَدَّسات.

في استِنتاجاتِ صاحِبِنا، المَدرُوسَةِ بِعِنايَةٍ مُفرِطَةٍ، المَسؤُولَةِ أَمامَ حُكمِ الحَرفِ والتَّارِيخِ، لَن نَغفُلَ عَنِ الطَّابَعِ التَّعلِيمِيِّ فِيها. فهو يَستَعرِضُ كِتابَةَ “خَلِيل” مُبرِزًا سِماتِها الأُسلُوبِيَّةَ، وأَشكالَ التَّراكِيبِ اللُّغَوِيَّةِ، والتِماسَ السَّردِ وَسِيلَةً ناجِعَةً مِن أَجلِ تَعبِيرٍ أَوضَحَ عَنِ الأَفكارِ، وأَقَلَّ وطأَةً، والمُعجَمَ المُعتَمَدَ المُتَضَمِّنَ، أَحيانًا، بَعضَ كَلِماتٍ عَامِّيَّةٍ تَوَخَّاها الكاتِبُ أَمَلًا في قُوَّةٍ تَعبِيرِيَّةٍ أَجدَى. وهذا يُبرِزُ، جَلِيًّا، “المُعَلِّمَ” في حِكمَت حُنَين، حتَّى لَكَأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلى جَمهَرَةِ طُلاَّبِهِ، مُتَفاوِتِي القُدرَةِ على الاستِيعابِ، وهو يَسعَى إِلى تَزوِيدِهِم بِعِلمٍ وَضِيحٍ سَهلِ التَّمَثُّل.

ولا يَفُوتُ مُتَتَبِّعَ ثُلاثِيَّتِهِ مَدَى دِقَّتِهِ في تَناوُلِ المَوضُوعات. فهو، إِذ يَرُودُ كِتابًا “لِخَلِيلِه”، يُباشِرُ التَّمحِيصَ بَدْءًا مِن عُنوانِهِ، يُشَرِّحُهُ ما أَمكَنَ، مُرُورًا بِالمَتنِ يَرُودُ أَدَقَّ تَفاصِيلِهِ، وخِتامًا في طَرحِ الجَنَى مُلَخَّصًا أَمامَ القارِئ.

كما ويَتَجَلَّى عَقلُهُ المُتَنَخِّلُ، وَخِبرَتُهُ الضَّافِيَةُ في سَبْرِ أَعماقِ النَّصِّ المُتَداوَلِ، وانتِزاعِ الدُّرِّ مِن مَكامِنِهِ الخَفِيَّةِ، فَلا تَأخُذُهُ حَبكَةُ الأُحدُوثَةِ بَعِيدًا مِن مَرامِيهَا، ولا تُضِلُّهُ تَفاصِيلُ الأَحداثِ عَنِ التِقاطِ لَحَظاتِ التَّنوِيرِ، أَو تُلهِيهِ بَلاغَةٌ، وطَلاوَةُ أُسلُوبٍ، عَن تَقَصِّي ما تُوارِي المَظاهِرُ مِن كُنُوزٍ مَكنُونَة. فها نَراهُ يَتَوَقَّفُ عِندَ المَفاصِلِ المُهِمَّةِ، وَيُبرِزُ رُؤْيَةَ كاتِبِهِ الأَبعَدَ مِن أَدِيمِ الحِكايَة. فهو، تَمثِيلًا، يُضِيءُ الأَسئِلَةَ الوُجُودِيَّةَ الفَلسَفِيَّةَ البَعِيدَةَ التَّطَلُّعِ، يُطلِقُهَا كاتِبُهُ تَوازِيًا مَعَ سِياقِهِ القَصَصِيِّ، مِن مِثل: “لِماذا لا يَستَطِيعُ الإِنسانُ الخُرُوجَ على الزَّمَن” (النَّثر، ج 1، ص 19).

ولَقَد بَرَزَ، في دِراساتِهِ الذَّكِيَّةِ لِأَقَاصِيصِ صاحِبِهِ، مُحتَرِفًا، ذا قَلَمٍ صَناع. فهو يُدخِلُ القارِئَ في أَجواءِ الأُقصُوصَةِ، مُشِيرًا إِلى وِلادَةِ عُنوانِها، يَرَى فيه حَذاقَةَ اختِيارٍ، ودَلالِيَّةً وافِيَةً، واحتِواءً لِخَيطٍ رَقِيقٍ قد يَنتَظِمُ الكُلّ. وهذا يَدُلُّ على بَراعَتِهِ في التِقاطِ الإِشاراتِ، ونَظرَتِهِ الشُّمُولِيَّةِ الثَّاقِبَةِ، ورَصانَةِ قَلَمِهِ وبَلاغِه. ولا غَرْوَ، أَوَلَيسَهُ العَتَبَةَ الأُولَى لِلنَّصِّ؟ كما يَطُوفُ مع مُتَتَبِّعِهِ في مِساحاتِها الرَّئِيسَةِ، وَيُوَجِّهُ انتِباهَهُ إِلى أَجزائِها المُهِمَّةِ الفاصِلَةِ، ويَضَعُهُ في صُلْبِ رُؤْيَتِها، من دُونِ أَن يَكُونَ، ضَرُورَةً، قارِئًا لها. وهو يَكشِفُ خَفاياها حَيثُ تَدعُوهُ ضَرُورَةُ الدِّراسَةِ، وتُلزِمُهُ الخُلاصاتُ، ويَكتَفِي بِالإِلماعِ في بَعضِها، وأَحيانًا لا يَهتِكُ السِّترَ عن حَمِيمِيَّةِ الأُقصُوصَةِ، وبُؤْرَةِ التَّشوِيقِ فِيها، فإِذا القارِئُ مُتَعَطِّشٌ لِلوُصُولِ إِلى نِهايَةِ الحَبِيكَةِ، وإِن كان قد تَمَلَّأَ مِن جَوِّها العامِّ، فَكأَنَّهُ أَمامَ غِلالَةٍ تَرسُمُ الكَثِيرَ مِن مَفاتِنِ القَوامِ الهَفهافِ، ولكنَّها تَستُرُ ما يَجعَلُ الشَّوقَ على ضَرَمٍ دائِم. وهذا غَيْضٌ مِن فَيْضِ حِكمَةِ هذا الــ “حِكمَت” فِي تَناوُلِهِ لِلعَمَلِ الأَدَبِيِّ، يَقطِفُ مِن حَقلِهِ المُثمِرِ مِلْءَ سِلالِهِ مِن دُونِ أَن يُقَصِّفَ الأَغصانَ، أَو يُهَشِّمَ الأَمالِيدَ النَّدِيَّة.

وبِهذه الدُّرْبَةِ يَكُونُ كاتِبُنا قد وَفَّرَ لِثُلاثِيَّتِهِ استِقلالِيَّةً ناجِزَةً عن أَعمالِ صَدِيقِهِ، وجَعَلَها عَمَلًا حُرًّا مُطلَقًا مِن كُلِّ قَيدٍ إِلَّا مِن قَيدِ الإِثارَةِ والتَّلَهُّفِ، وبَرَزَ، بِذا، بَرًّا بِقارِئِهِ لا يُكَلِّفُهُ عَناءَ الرُّجُوعِ المُتَتالِي إِلى الأُصُول.

لا يَفُوتُ “حِكمَت” تَسلِيطُ مِجهَرِهِ، العالِي الدِّقَّةِ، على وَمَضاتِ البَدْعِ عِندَ “الخَلِيلِ”، فَيُشرِكُ القارِئَ في تَتَبُّعِها، وتَذَوُّقِها، فَلا يَعُودُ “مِنَ الغَنِيمَةِ بَعدَ الكَدِّ بِالقَفَلِ” على حَدِّ قَولِ الطُّغرائِي في لامِيَّتِهِ الشَّهِيرَةِ، ولَكِنَّهُ يَرجِعُ ومَطِيَّتُهُ تَنُوءُ بِحِملِها مِن ثِمارٍ مُقَطَّرَةٍ عَسِلَةٍ جادَت بِها كُرُومٌ فِيْحٌ خُضْر.

مِن هذه الثِّمارِ، وفِيها طَعْمُ الحِكَمِ والعِبَرِ، وعُصارَةُ الفِكرِ والثَّقافَةِ، وتَجرِبَةُ حَياةٍ طَوِيلَةٌ، نَذكُرُ، تَمثِيلًا: ” كُلَّ يَومٍ إِحلَم أَنَّ لَكَ يَومًا بَعْدُ، هكذا تَكُونُ فَرِحًا” (النَّثر، ج 1، ص 33). وهذه الأُخرَى: “الذِّكرَى تَجعَلُنَا نَعِيشُ أَكثَرَ مِن مَرَّة” (النَّثر، ج 1، ص 33).

وأَيضًا: “الشِّعرُ وَحدَه يُنقِذ” (النَّثر، ج 1، ص 30)، فَنَراهُ، فيها، مُتَصادِيًا مع الشَّاعِرِ نِزار قَبَّانِي في قَولَتِه: “الشِّعرُ هو خَلاصُنا الحَقِيقِيُّ نحو حَياةٍ نَقِيَّة”. وَلا غَرْوَ… أَفَلا تَلتَقِي العُقُولُ في رَحِيقِ الكَلام؟!

ومِنَ الأَقوالِ الأُمثُولاتِ الَّتي أَورَدَ نَقطِف: “بَعِيدًا عَن تُرابِهِ، يَبقَى الإِنسانُ آخًا غَرِيبَة” (النَّثر، ج 1، ص 222)، حَيثُ يُذَكِّرُنَا بِقَولِ مَحمُود دَروِيش: “وأَبِي قالَ مَرَّةً: مَن لَيسَ لَهُ وَطَنٌ، لَيسَ لَهُ في الثَّرَى ضَرِيحٌ… ونَهانِي عَنِ السَّفَر”. ومِن أَقوالِهِ الجَمِيلَةِ يُقَدِّم لَنا: “مَن لا يَحلُمُ بِالمُستَحِيلِ لا يُمكِنُهُ تَحقِيقُ المُمكِن” (النَّثر، ج 2، ص 25)؛ وهذه الوَضِيئَة: “لا يَستَطِيعُ الإِنسانُ أَن يُحِبَّ بِغَيرِ فَرَح” (النَّثر، ج 2، ص 28). وما الغَزارَةُ في الأَقوالِ المُترَعَةِ فِكرًا إِلَّا دَلِيلٌ على خِصْبِ تَجرِبَةِ “الخَلِيلِ” الحَياتِيَّةِ، وغِنَى مَخزُونِهِ الثَّقافِيّ.

و”حِكمَت”، في مَنحاهُ هذا، لا يُرِيدُ أَن يُقنِعَ النَّفسَ، غِبَّ تَطوافِهِ في كُرُومِ “الخَلِيلِ”، بِعَناقِيدَ لَوَّحَتها الشَّمسُ على الجَفَناتِ، فَطابَت رُؤْيَةً ومَذاقًا، بَل نَراهُ يَرنُو إِلى الدِّنَانِ المَخبُوءَةِ في الأَقبِيَةِ، حَيثُ الرَّحِيقُ لَذاذَةٌ ونَشوَةٌ ومَعرِفَة!

يُلاحِقُ “حِكمَت” كاتِبَهُ خُطوَةً خُطوَةً عَبْرَ أَناشِيدِ حُبِّهِ، لَكَأَنَّهُ يُحصِي عَلَيهِ أَنفاسَهُ، ودَرَجاتِ الوَجْدِ والجَوَى فيها، فَيَلتَقِطُ مِن رِقاعِهِ كَلِماتِ هَواهُ، يُوَثِّقُها في مَظانِّها، بِقَلَمٍ أَكادِيمِيٍّ واثِقٍ، وحِرفَةِ مُعَلِّمٍ طَوَى مَسِيرَةَ عُمْرٍ مَدِيدٍ معَ الكُتُبِ، والدُّرُوسِ، والتَّثَقُّفِ، ومُعالَجَةِ النُّصُوص. وهو رَصَدَ مَكامِنَ الجَمالِ كما مَواضِعَ الضَّعفِ – وإِن كان إِلماحُهُ إِلى هذه الأَخِيرَةِ نادِرًا – في مَقطُوعاتِ شاعِرِه.

وقد كان وَفِيًّا لِما قَرأَ، فَلَم يُهمِل جَمالاتِ الشَّاعِرِ، بَل سَلَّطَ الضَّوءَ الكاشِفَ على اللُّغَةِ الشِّعرِيَّةِ، في تَركِيزِها، وتَكثِيفِها، وطاقَةِ الإِيحاءِ فِيها، وصُوَرِها الثَّرَّةِ، وتَراكِيبِها المُستَلَّةِ مِن مُعجَمِ القَريَةِ الحَمِيمِ، ونَضارَةِ طَبِيعَتِهِ الغَنِيَّة.

وهو لا يَحرِمُ قارِئَهُ لَذاذاتِها، فَيُقَدِّمُ إِليهِ، مِنها، أَضامِيمَ في عَبَقِ الحَبَقِ، صَدِيقِ البَيتِ الرِّيفِيّ. مِنها نَقرأُ عِشقَ “الخَلِيلِ” بِــ “شَتلَةِ المَنتُور”:

“لا تَمُدَّ إِليها يَدًا

لا تُفَرفِطْ مِنها الزُّهُورَ

فَالجَمالُ يُصَلَّى لَهُ

يُركَعُ في مَعبَدِهِ، ولا يُلمَس”  (الشِّعر، ص 55).

أَناشِيدُ الرِّيفِ عِندَ الشَّاعِرِ “إِيلِي” تُذَكِّرُنَا بِدِيباجاتِ أَنِيس فرَيحَة القَرَوِيَّةِ، ولكنَّها تَمتازُ بِقالَبِها الشِّعرِيِّ الأَنِيقِ الرَّقِيقِ يَنقُلُ الصُّورَةَ وقد لَفَحَها لُهاثُ الحُبِّ والشَّوقِ واللَّهفَةِ وحَمِيمِ الأَيَّامِ الخَوالِي.

ويَتَبَسَّطُ “حِكمَت”، مع صاحِبِهِ، في استِعادَةِ ذاكِرَةِ الرِّيفِ، ومَشاهِدِهِ الزَّاهِيَةِ حُقُولًا ومُرُوجًا، والعاصِفَةِ ثُلُوجًا وزَمهَرِيرًا، و”حَفِيفِ أَوراقِ الأَشجارِ، وزَغرَداتِ العَصافِيرِ، وطَنِينِ النَّحلِ، وخَرِيرِ السَّواقِي، وتَفَتُّحِ بَراعِمِ الأَزهارِ، وثُغاءِ الخِرافِ، وغِناءِ المُزارِعِين” (النَّثر، ج 2، ص 26)، فَتَكادُ تَلمُسُ، في التِقاطِهِ شَذَراتِ ابنِ “وَطَى الجَوْزِ”، كم هو وَلُوعٌ بهذه الطِّيبَةِ القَرَوِيَّةِ الآيِلَةِ إِلى اندِثَارٍ مَحتُومٍ، والَّتي سَتَطوِي، مَعَها، أَرَقَّ الصَّفَحاتِ، وأَنقاها، في إِبنِ جَبَلٍ عَذْبٍ كَيَنابِيعِهِ، صُلْبٍ كَجَلامِدِهِ وسِندِيانِه. لقد أَحَبَّ كاتِبُنا شاعِرَهُ، ومُقَطَّعاتِهِ، فَانتَقَى، مِنها، وشَرَحَ واستَفاضَ، لَكأَنَّهُ يَنظِمُها مِن جَدِيدٍ، ويُسبِغُ عليها مِن أَنفاسِه هُوَ. أَوَلَيسَتِ القِراءَةُ عَلاقَةً خاصَّةً يُنشِئُها القارِئُ مَعَ النَّصِّ؟!

ما كَتَبَهُ “إِيلِي خَلِيل” هُوَ تَأرِيخٌ وتَوثِيقٌ لِحَضارَةِ الضَّيعَةِ – بِقَلَمٍ مَمشُوقٍ، مِدادُهُ بِصَفاءِ سَواقِينا، وصُوَرُهُ كَوَشْيِ سُفُوحِنا غَزاها الرَّبِيعُ – وقد راحَ يَقضِمُها مَدُّ العَصرِ الطَّاغِي، فَتَبقَى في ذاكِرَةِ جِيلٍ، أَو جِيلَينِ، قَبلَ أَن تُصبِحَ مَادَّةَ تُراثٍ قابِعَةً في بَعضِ الكُتُبِ المَنسِيَّة.

لقد جالَ صَدِيقُنا “حِكمَت” في رِحابِ “إِلِي مارُون خَلِيل”، فلم يَترُك شارِدَةً، فِيها، ولا وارِدَةً، إِلَّا ومَرَّرَ قَلَمَهُ على حَوافِيها، فَأَشبَعَها دَرسًا، ومُعالَجَةً، وتَمحِيصًا، وإِحالاتٍ ذَكِيَّةً إِلى عُمقِ الفَلسَفَةِ، وَمُعجَمِ الكِتابِ المُقَدَّسِ، ومَطارِحِ الصُّوفِيَّةِ، وكُلُّ ذلك في لُغَةٍ راقِيَةٍ تَحمِلُ البَلاغَ على أَجنِحَةٍ هَفَّافَةٍ، فَيُدرِكُ القِبْلَةَ بِأَسلَسِ الطُّرُقِ، فَلا غُمُوضَ يَمَضُّ، ولا إِبهامَ يَقُضُّ، ولا صِناعَةً مَمجُوجَةً، ولا استِعراضًا لُغَوِيًّا خالِيًا مِن مَضمُونٍ وَزِين. لقد مَلَكَ صاحِبُنا، حَقًّا، أَعِنَّةَ البَلاغَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتي تَتَناسَبُ ورُوحَ العَصرِ، وثَقافَةَ إِنسانِهِ، فكان نِعْمَ الدَّارِس. ولو شاءَ “الخَلِيلُ”، نَفسُهُ، أَن يَتَناوَلَ أَعمالَهُ بِالدِّراسَةِ والتَّحلِيلِ، فما أَظُنُّهُ سَيَذهَبُ أَبعَدَ مِمَّا ذَهَبَ صَدِيقُهُ الوَفِيّ.

حِكمَت حُنَين…

ما أَعوَزْتَ إِلى تَخَصُّصٍ في النَّقدِ، ولا إِلى عُدَّةٍ نَقدِيَّةٍ من نَظَرِيَّاتٍ وأُطرُوحاتٍ، فَأَنتَ نَقَّادٌ بَصِيرٌ، وذَوَّاقَةٌ مُرهَفٌ حَدِيدُ المُلاحَظَةِ، والأَدَبُ يَجرِي في نَجِيعِكَ مُوَقَّعًا على نَبْضِكَ، وحِسِّكَ، ورُوحِكَ الثَّاقِبَةِ الصَّادِقَة.

فَيا صَديقي…

يا خَدِينَ السَّنَواتِ الزُّهْرِ الطِّوالِ، خَبَرْتُكَ، خَلَلَها، إِلْفًا أَلُوفًا يَجِدُهُ الصَّحْبُ أَنَّى طَلَبُوهُ، وزَمِيلًا طَيِّبَ العِشْرَةِ، “حُلْوَ الفُكاهَةِ”، مَعسُولَ المِقْوَلِ والمَقُولِ، يُقصَدُ إِلى جَلسَةِ سَمَرٍ، كما يُقصَدُ إِلى لِقاء فِكْر.

يَقُولُ ڤُولتِير: “إِنَّ أَحسَنَ الكُتُبِ هي الَّتي يَكتُبُ قارِئُها نِصفَها”. وأَنتَ قَرأتَ صَدِيقَكَ حتَّى الجُمامِ، وكَتَبتَهُ بِكُلِّيَّتِهِ، فَلْتَكُنْ شَهادَةً لَهُ بِحُسنِ الكِتابَةِ، وشَهادَةً لَكَ بِجُودَةِ القِراءَةِ والدِّراسَةِ والتَّحلِيل.

أَدامَ اللهُ قَلَمَكَ، نُورًا في غَبَشِ أَيَّامِنا النَّحِساتِ، وأَطالَ عُمْرَ عَطائِكَ، فَنَحنُ نَتَشَوَّفُ، مَعَكَ، إِلى حَصادٍ وحَصاد!

اترك رد