صوت الكمان

ثمة حزن لا ينتهي.. وسماء لا تبرد

 

الى د . بشرى البستاني

بدأ صوته ينفذ الى كل أجزائي ، كمن ينفخ في الروح … موجات صوتية هادئة تخترق أنسجتي وكياني .. تحتل خاطري .. تسرح بي الى أعماقي وكوامني.. حتى توصلني اليك ..
أشعر اني طائر على بساط الريح … يأخذني شمالا الى أقصاه .. ويردني جنوبا.. أحلق فوق تمثال السيّاب على كورنيش العشار .. أمد يدي .. أمسح شعر رأسه الذي علق به غبار كثيف.. ودخان أسود جراء ما تبعثه حقول البترول من مخلفات…

أمسح عينيه المسودتين وبدلته البيضاء التي توشحت بسقم البصريين، وقصائد شعرائها البكائيين.. أتذوق شجن القصائد.. أنتشي من حلوِّ رطبها.. وطيب ملحها..

أسافر غربا حيث البيوت المشردة من أهلها … ناسها الفقراء قد فرّوا منها دون رجعة .. لا أعشاش تأويهم .. ولا أنهار تروي ظمأهم .. هم خارج معادلة الوطن .. مقصيون عن اللغة .. يتسلل القناصة والرجال الملثمون الى دهاليز أنساقها ونظمها وتأويلاتها .. لا سبيل لهم سوى شرب قوارير الدراويش .. باتوا يتجرعون الطعنات بلا ألم وشكوى .. بلا مطاليب .. خذلتهم الخيام والدواوين والسيوف المرصعة بالرياء ..

من قال أهل الغربية عراقيون ؟

أشم رائحة الدخان تنبعث من أفواههم.. أتنفس العلقم والكمأ المتعفن في حلوقهم.. أجسادهم تنز بالألم والخوف ..

يطير البساط بي حيث الفرات.. أسمع نحيب الثكالى وصوت الربابة المبحوح.. أرى رجالا طأطأ الهلع رؤوسهم .. ينظرون الى مواكب السياسيين من خرم الباب خوفا من طراطيش بنادق الحمايات وهي تصوب على الابواب.. على سعف النخيل .. على حقائب الاطفال وهم ذاهبون الى المدارس.. لا ينجو منها حتى السكارى الذين جلسوا على ضفة الفرات ليحتسوا زجاجات (العرق) المحلية الصنع.. ويزاجلون بعضهم البعض بالشعر الهزيل.. يستلون الوريقات من جيوبهم ليتباهوا بما كتبوه من شعر هجاء على المواكب .. يهجون كل شيء في الظلمة .. وفي النهار تراهم رجالا عاهدوا أن تبقى أصابعهم مبللة بالبنفسج ..

الى أين أمضي ببساطي وكل السماء اشتعلت بالبارود؟

هل أتجه الى شطر الموصل؟ لأرى ( جاسم خلف الياس) وهو يخطب على بقايا الأيزيديين .. وحفنة من الشبك .. وثلة من سكان ضفتي النهر .. يلقي عليهم نظرية كيف تتلقى الألم وتؤول الفاجعة .. وكيف ترى الحطام دون أن تنبس ببنت شفة ؟ …

كيف يتزوج مقاتل من أهل الناصرية بنت الموصل؟ .. مقاتل أصبعه على زناد (الكلاشنكوف ).. ويمد اصبعه الآخر لتلبسه بنت الموصل خاتم العهد والصبر والثبات على الوجع .. والخطى نحو الظفر ..

يستمر عزف الكمان وأنا أستل الورق .. ورقة بعد أخرى .. وزوجتي نائمة والاولاد .. والمدينة قد غفت منذ غروب بساطي …

يقول ابني احمد: البصرة غنية بالنفط والتجارة والمرافئ .. تعطينا كل شيء دون أن تأخذ شيئا … انها بقرة حلوب تدرّ حليبا دسما ولا تأكل سوى العشب الملوث !!

يتساءل أحمد : لمَ لا يبنون في البصرة (المولات وحدائق ومدارس ومستشفيات وشوارع نظيفة) ؟
لمَ يأتي البصريون ليسكنوا في مدن الحلة وكربلاء والنجف ومدينتهم عائمة على الذهب الأسود؟
لماذا ترك البصريون شرّب (العرق) ورقص (الهَوّه) والطرب والرسم .. وأصبح مهرجان المربد استعراضا للأزياء والأجساد وأشباه القصائد؟ ..

لماذا يتغيب عنه العظماء؟

يقولون إن (الخشابة) تركوا آلاتهم واشتغلوا بالشحذ والتسول وأصبحوا أثرياء البصرة وكبار تجارها.. وصاروا يتحكمون في أسواق البورصة.. ويفوجون قوافل الحجاج …

لم يسمع أحمد مني أي جواب على أسئلته وهو يترنح على وسادته بين غفوه وصحوه .. تاركا لي حرية الاجابة ..

يتركني مع صوت الكمان والأرق وركوب البساط .. أبحث عن ملتقى ( جاسم خلف الياس ) .. والرطب .. وشوارع بلا دخان .

7- 9- 2017

اترك رد