فتحٌ جديد: الفلسفة في المعترك العيادي!
مُنذُ أن سلكتُ سبيل الفلسفة، اختصاصًا وتدريسًا جامعيًا وحراكًا بحثيًا، ألفيتُني في جدالٍ، لا هوادة فيه، مع كثيرين من أقراني المستغرقين في مقارباتٍ، عفّى عليها الزمن، وفقدت “صلاحيتها”! بل هي مقارباتٌ خارج اهتمام الزمن الذي نُعايش، بإكبابها على موضوعات أكاديمية صِرفة ومكرورة لا تأتي جديدًا، تُجرِّدُ الفلسفة من واحدٍ من أهم أبعادها الوظيفية! مقارباتٌ لا تجيبُ عن أسئلة الحاضر، ولا تُطِلُّ على هواجس الإنسان وأوجاعه، في عصر يتسارع الزمن، بإيقاع جنوني ومزلزل، تحت وطأة العولمة المتوحّشة، بتجليّاتها والأعراض، وتحت ضربات التقدّم التكنولوجي الهائل الذي يُرخي بظلاله على جميع أرجاء المعمورة!
كأننا بهؤلاء المستغرقين في الماضي – وقد تأبّد الماضي لديهم وتأبّدوا فيه – تعاموا عمّا قام به سقراط، من جليل عمل مفصلي في مسار الفلسفة حين “أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض!”، مُسلِّطًا الأضواء ساطعةً على الحيِّز البشري فيها، من دون أن يطَّرِحَ البُعد الأنطولوجي الذي شكّل، لحينٍ مديدٍ من الدهر، أحد أبرز علاماتها الفارقة!
هكذا، والحال هذه، فإن الفكر، بمختلف تمظهراتِهِ والألوان، يخسرُ نفسه ما لم يتسم بالزمكانية، بحيث يُحايث المكان الذي يشهد حراكه، ويواكب الزمن الذي يعبُر؛ وليغدُوَ بحق ابن بيئتِهِ وعصره، بل روحُ المكان والزمان ولسانهُما المُفصِحُ المُبين!
هذا الاقتناع ما فتئ يترسَّخُ لدينا مع الأيام، من مُنطلق أن لا مكان للفكر “الموميائي”، فهو الجسدُ بلا روح، وماذا ينتفع الجسدُ إذا استُلَّت منه روحُه؟ ولا اعتبار للفكر “الديناصوري”، فهو من مخلّفاتِ الماضي السحيق، وإلى انقراض!
… وإذْ نرتدُّ إلى الكتاب الذي نُقارب، نجدُنا بإزاء باحثةٍ آثرتْ أن تشهد لزمنها، والشهادة للزمن هي قَدَرُ من يعيشون زمنهم سِنِيَّ فكر أصيل وليس عدَّ سنين! إنهم في الصميم من زمنهم، وليس على هامشِهِ، حَمَلَةُ رسالة يُبلِّغونها، وهم يلتزمون الإنسان، في قضاياه وآلامه وتطلّعاتِهِ والانتظارات!
كارولينا الخوري عبّود، التي أوكلت إلينا التقديم لهذا الكتاب، اختارت سبيلًا صعبًا، بمنعرجاته وبمتاهاتِهِ ووعورة المسالك! أبتْ أن تعيش بين حُفَرِ الفكر، فلم تتهيّب صعود جبالِه، ناهدةً إلى القِمم! أقدمتْ، غيرَ هيّابةٍ، على مغامرة – محسوبةِ الخطواتِ لديها- فحملت إلينا “العيادة الفلسفية”، بكل معدّاتها وتجهيزاتها والمشورات و”الوصفات” العلاجية، ولتقول بملء الثقة وبعينين مُشعّتين، تحدّقان في الشمس: ها إنني أتيتكم بعيادتي الفلسفية، فتعالَوْا إليَّ يا جميع المتعبين، علّكم تجدون فيها شفاء! هل هي خطوة جريئة؟ أهي مغامرة، خارج المألوف؟ لنوصِّفها كما نشاء، وبما يطيبُ لنا من نعوت، ولكن يبقى السؤال: ألم تكن الإنجازات، في تاريخ البشرية، كبيرُها وصغيرها، إلّا ثمرة مغامرات رائدة، إذْ بين الحلم والواقع خطوةٌ لا يستطيعها إلاّ من إبتُلِيَ بلوثة الإبداع، تقضُّ مضجعه وتناديه: أنْ كُنْ من الأحياء الشاهدين لزمنك، وكفى بالمرء أن يشهد لزمنه!
.. وإذْ استطال هذا التقديم بين أيدينا، واستحال مراجعةً نقديةً – نحسبها معمَّقة- فمن منطلق اقتناعنا بجدوى هذا العمل البحثي الذي جاءتنا به كارولينا الخوري عبّود، وهو في أساسِهِ رسالة ماجستير، بعنوان “الفلسفة العيادية لغدٍ متنوّر”، أنجزتها، منذ سنوات ثلاث، في الجامعة اللبنانية. وها هي تُقدِّمها اليوم في كتاب، يُحاكي، إلى حدٍ بعيد، تلك الرسالة، بعد أن عمدت إلى تبسيطها، مضمونًا وأسلوبًا، بما يجعله في مُتناول مختلف الفئات من غير المُتخصصين فلسفيًا، من منطلق “دمقرطة” الفكر، وإنزاله من أبراجه العاجية!
لقد غدا هذا الكتاب – بصيغتِهِ الحالية المبسّطة – بمنزلة مدخل إلى أطروحة الدكتوراه التي أنجزتها باحثتنا في الجامعة اللبنانية، بإشراف المرحوم د. موسى وهبه، وهي راهنًا بين أيدي الأساتذة القُرّاء، وبانتظار تحديد موعدٍ لمناقشتها، في الآتي من الأسابيع، وقد جاءت بالفرنسية، تحت عنوان:
“Herméneutique du temps et philosophie clinique: de Ricœur à Brenifier”
.. في مقاربتنا الكتاب، رسمنا لأنفسنا خريطة طريق، حدّدنا خطواتها بشكل منطقي تعاقبي، فكان أن توقّفنا عند أربع قضايا/عناوين، تُشكّل المفاتيح الأساسية لموضوعات هذا المؤلَّف. هكذا، عقِب المدخل، كان انطلاق من الإطار التأسيسي العام لأطروحة الكتاب، وكان هذا العنوان: في المنطلق التأسيسي/الفلسفة العيادية: مفهومًا وأبعادًا، وليكون أثر ذلك انتقال إلى لُبّ القضية، فكان لدينا عنوان ثانٍ: العيادة الفلسفية وملحقاتها/مسارًا تاريخيًا ودورًا؛ ولننتقل بعدها إلى مسألة تتلازم وهذه القضية، لجهة آلية العمل المعتمدة في العيادة الفلسفية، ولنجدنا مع العنوان الآتي: في آليات عمل العيادة الفلسفية/المشورات الفلسفية-المعايد الفلسفي والمستشير. وقد كان وضعٌ للكتاب في الميزان، فكان هذا العنوان: رؤى نقدية/ما للكتاب وما عليه. ثم كان تتويجٌ لدراستنا تحت عنوان: العيادة الفلسفية والانزياح بالفلسفة، أسئلة وممارسة، من حالة الإمكان إلى مشارف الفعل البنَّاء!
قبل المباشرة بهذه النقاط، لا بد من تبصير القارئ بموضوعات الكتاب، بشكل “بانورامي”، وهي تندرج تحت أبواب ثلاثة، يضمّ كلّ واحدٍ منها ثلاثة فصول، ولتترابط هذه الأبواب، ببعضها بعضًا، بحيث يمهِّد السابق للاحقه. وبذا تضع الباحثة بين أيدينا “حكاية” العيادة الفلسفية – إذا جاز التعبير- من ألفها إلى يائها، بشكل مُتدرّج، فتحلّ كلّ فصل من فصولها المكان الذي جُعل له، وفي ذلك نقطة إيجابية، على الصعيد المنهجي، تُسجَّل في خانة الكتاب والكاتبة.
في استعراض مقتصد، تُطالعنا العناوين الآتية، أبوابًا وفصولًا: الباب الأول/ البُعد الفلسفي أساس العيادة الفلسفية، ويضم الفصول الآتية: نشأة العيادة الفلسفية والحاجة العصرية إليها (الفصل الأول)، ترابط العيادة الفلسفية مع الفكر المعاصر (الفصل الثاني)، تطور العيادة الفلسفية وانتشارها: مقاهي ومؤسسات.
يتحصّل لنا، من خلال الباب الأول، رصد المسار التاريخي للعيادة الفلسفية، من حيث نشوؤها وتلبيتها للفكر المعاصر، ناهيك عن تناميها وانتشارها في زمننا الحاضر.
أما الباب الثاني، وقد جاء بعنوان: المشاورات العيادية/أهداف وحوارات، فقد اندرجت تحت الفصول الآتية: محاورات سقراطية ومناقشات عيادية (الفصل الأول)، واقع العيادة الفلسفية وأوجهها (الفصل الثاني)، العيادة الفلسفية وتمرين العقل على السعادة والسلام (الفصل الثالث). عَبْرَ هذا الباب، نقف عند آلية عمل العيادة الفلسفية والتقنيات التي يعمد إليها المعايد الفلسفي، وهو يستعين سقراط، في حواراته، التي تضع المستشير (أي قاصد العيادة الفلسفية) أمام إشكاله (أو إشكاليته)، فيهتدي إلى معالجةٍ ويروح إلى “إبلال”، وذلك بتمرين العقل على قيم السعادة والسلام وقبول الآخر المختلف.
وعن الباب الثالث، عنوانه: العيادة الفلسفية بين الشرق والغرب، فقد احتوى الفصول الآتية: أبعاد الفلسفة العيادية في الغرب (الفصل الأول)، تطلّعات الفلسفة العيادية في الشرق (الفصل الثاني)، العيادة الفلسفية مشروع حرية وجسر تواصل (الفصل الثالث).
في هذا الباب تُبصِّرُنا الباحثة، من موقع المقارنة غير المباشرة، بأهمية العيادة الفلسفية، وهي تتوقّف عند سيرورتها المتصاعدة غربًا، في حين يفتقر الشرق، لا سيما الشرق العربي، إلى الحضور الفلسفي العيادي.
لعل الباحثة كارولينا الخوري عبّود، عبر مشروعها الرائد، متمثّلًا في هذا الكتاب وفي أطروحة الدكتوراه، التي ألمعنا إليها آنفًا، تسعى إلى ردم الهوة بين الشرق والغرب، فيكون جسرُ تواصل ومعبرُ حرية في الاتجاهين!
أولًا- في المنطلق التأسيسي/الفلسفة العيادية: مفهومًا وأبعادًا:
في توصيفٍ للفلسفة العيادية – مُستقى من مقدّمة الكتاب- ترى إليها الباحثة وجهًا من أوجه الفلسفة التطبيقية، عبر إضفاء صفة “كيف التفلسف” العملية إلى النطاق الفلسفي النظري المحض، بمعنى اعتماد منحى براغماتي رائد للفلسفة، بوجهها العيادي، لمواجهة المشكلات المحسوسة (أي المعيوشة)، وبما يُفضي إلى الإنسان العلائقي.
ومن سماتِ هذا الأخير، قدرتُهُ على مواجهة الحياة، بصعوباتها، وإدراك قيمة العيش بهناء وانسجام. ناهيك عن بلوغ درجة التحوّل الذاتي، ووصولًا إلى التجدّد والتفاعل مع الآخر وقبوله.
في تقصّيها المسألة، تذهب الباحثة إلى أن الفلسفة العيادية، مرتكزها الأساسي الحوار بين المستشار (المعايد الفلسفي) والمستشير (أي “الزبون” ، بل قاصد العيادة الفلسفية)، وهذا الحوار يتضمّن تمرين العقل، لدى المستشير، على إيجابية الحياة وتنمية الثقة بالذات، واكتشاف الآخر، وتعويد الذات على الحرية، ومواجهة فكرة الموت التي قد تستبدّ بالمستشير، والتمرّس، بالمقابل، على حبّ الحياة، والرغبة في التفكير والعمل، على أسس الحكمة وإرادة المعرفة… كل أولئك، لا بد أن يؤدي، نهاية المطاف، إلى انخراط الذات – أي ذات المستشير- انخراطًا معرفيًا في مجاز الإنسانية والعبور إلى السلام الداخلي.
وفي استجلاءٍ لصُدقية المفهوم العيادي الفلسفي وجدواه، تذهب باحثتنا إلى أن هذا المفهوم أثبت نجاحه، عبر تقدّمه، بسرعة كبيرة، لا سيما في الأوساط الغربية، وفي البلاد الأوروبية بخاصة، مما يُؤشِّرُ على الحاجة القصوى إليه، من خلال العيادة الفلسفية، التي تُشكّل الحيِّز المكاني العملاني للفلسفة العيادية، بكل مندرجاتها والركائز.
ثانيًا- في العيادة الفلسفية وملحقاتها/مسارًا تاريخيًا ودورًا:
أ- في العيادة الفلسفية
تذهب الباحثة عبود إلى أن العيادة الفلسفية، بشقيها، النظري والتجريبي، تُشكّل ملامح مجال ناشئ، مُتعدّد التخصصات. بل إنها تأتي كوليدٍ صغير للقرن الجديد، راح يشبّ عن الطوق سريعًا!
وهي ترى بحق، أن طبيعة عمل العيادة الفلسفية، لجهة ربط اللغة بالتجربة، ربطًا عمليًا، وصياغة الواقع الخارجي، على أسس منطقية، عاملان يُمثّلان نقطتين، تضعانها في توافق مع الفكر الوضعي.
وعن “عمومية” العيادة الفلسفية ولا نخبويتها، فهي، بهذه السِمة، لا تتوجّه إلى الفلاسفة والعلماء، بل إلى الإنسان العادي، على نحو ما كان يلجأ إليه سقراط، في العصر الإغريقي، حينما كان يُحدّث العامة في الطرقات والدساكر، عبر حوار تقابُسيّ متدرّج.
وإذا كانت العيادة الفلسفية من تجلّيات الفكر الفلسفي الراهن، وباستنطاقها قواه النقدية، فإننا نُجبهُ بسؤال مشروع من قِبل الباحثة هو الآتي: هل بمكنةِ العيادة الفلسفية إعادة الدور “الأمومي” إلى الفلسفة، بما هي أم العلوم، ولتُشكّل العيادة النفسية فرعًا من بنوّتها، ومسلكًا فرعيًا، في حراكها الشمولي؟
لقد كان للعيادة الفلسفية، بحسب الكاتبة، أن تجسِّد روح الفلسفة الراهنة، التي انطلقت أواخر القرن العشرين، إذ غلب الابتعاد عن المطلق والمجرّد والذهني الخالص، وباتت الغلبة للواقعي والعيني والجزئي والمعيش والعقلي والنسبي. وقد غدا التوجّه نحو ما هو تطبيقي، بمعنى أن الفلسفة التطبيقية أصبحت من شواغل زمننا الحاضر.
وإذْ تتّبِع الباحثة عبّود مسار العيادة الفلسفية، فعَبْرَ اثنتين وعشرين محطة متعاقبة زمنيًا، ولتنطلق، بصورتها الراهنة، في النصف الثاني من القرن العشرين، غداة الحرب العالمية الثانية.
في معرض الربط بين الحرب – أيّ حرب – وما ينجلي عنها من منعكسات، نرى أن تحولاتٍ جذرية، على مختلف الصُعد، تنشأ بتأثير منها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الفلسفة الوجودية راحت إلى تصاعد، عقب الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي أفضت إلى قتل عشرات الملايين في أوروبا، وإلى تدمير هائل لبناها التحتية ومرافقها… مما دفع بعض الفلاسفة إلى التساؤل عن عبثية الحياة، وعن عدوانية الإنسان المتأصّلة لديه، وصولًا إلى ألوانٍ من المواقف العدمية، وضعت القيم الإنسانية موضع تساؤل وإنكار!
هكذا، والحال هذه، تأتي الفلسفة العيادية، بحيِّزها المكاني “العلاجي”، أي العيادة الفلسفية، لتطرح دور العقل وأهميته في الحد من الحروب وإراقة الدماء ومواجهة العدوانية لدى الفرد ولدى المجتمع، بمختلف ألوانها والأعراض!
وكما أسلفنا، فإن الباحثة تُغذُّ السير في تاريخ الفلسفة، متوقفةً عند أبرز النظريات المؤسسة، بطريق مباشرة أو غير مباشرة، في انطلاق فكرة العيادة الفلسفية وتطوّرها.
ب- “ملحقات” العيادة الفلسفية/في المقاهي والمقصورات الفلسفية والأطر التنظيمية الجامعة:
لن يتكامل الكلام على العيادة الفلسفية فصولًا من دون التوقّف لمامًا عند “ملحقاتها” – وهي من لزوم ما يلزم – عنينا المقاهي والمقصورات الفلسفية، ناهيك عن الأطر التنظيمية التي ينضوي إليها العياديون الفلسفيون من مختلف بلاد العالم، إضافةً إلى فعالياتهم المتمثّلة في مؤتمرات وورش عمل وندوات وما إلى ذلك من حراك عملاني جامع.
على صعيد المقهى الفلسفي، فإن مارك سوتيه (Marc Sautet) افتتح أول مقهى في فرنسا، إضافة إلى مقصورة فلسفية في العام 1992. وقد كان سوتيه يُريد، عبر هذه الخطوة، إخراج الفلسفة من إطارها النخبوي، فتنخرط في الحياة اليومية، وتغدو إحدى أدواتها. وبحسب رأيه، فإن المقهى والمقصورة كليهما يُساهم بطرح أسئلة على الذات، في عصر فقدت المجتمعات المعاصرة قيمة التساؤل والرغبة في التطوّر الداخلي. وقد كان من ثمار ذلك أن اجتذب “الحديث الفلسفي” في المقهى أعدادًا كبيرة، وراح قاصدوه يتزايدون بشكل مطّرد. وكان من شأن هذا التوجّه المستجد أن تُشرِّع المقاهي الفلسفية المجال وسيعًا لتذوّق نكهة الفلسفة من لدن غير المتخصصين بها.
ثالثًا- آليات العمل العيادي الفلسفي وتقنياته/في المشورات الفلسفية والمعايد الفلسفي والمستشير:
أ- في المشورات الفلسفية:
إذْ يُرى إلى المشورات الفلسفية بمنزلة نقد أصيل لشتى القيم، في إطار نظرة وتساؤل كاملَين إلى الوجود الإنساني، فإن الفرد يتمكّن عبرها من تخطّي عقبات وجودية، والابتعاد استطرادًا عن العبثية الهدامة، ولتنفتح أمامه ميادين تفاعلية سليمة، شكلًا ومضمونًا. وإلى ذلك، فإن هذه المشورات تدفع بطالب المشورة إلى أن يقترب من ذاته، انطلاقًا من حقيقة وجوده الحر وارتباطه العضوي والتفاعلي مع المجتمع.
وفي رصدٍ أكثر تفصيلًا لمسار المشورة الفلسفية تفاعليًا، بحسب الباحثة، تغدو السمة الجمالية للتفكير أساس شراكة، ننتقل من الأسئلة الذاتية إلى نوع من “التذاوت” (أي التفاعل بين ذاتين أو ذوات)، إذْ عندما يُوجِّه الآخر تساؤلات تُصبح التعددية الحوارية، بين الأسئلة والأجوبة، في توالد لا ينقطع، ينضج مع كل ومضة فكر!
وإذْ نُقفِلُ هذه النقطة، ينبغي ألاّ يغيب عنا أن النموذج السقراطي الحواري يُشكّل قاعدة أساسية، تنطلق منها أسس العيادة الفلسفية، وفي مقدّمتها المشورات الفلسفية.
ب- في المستشار (المعايد الفلسفي) والمستشير (طالب المشورة وقاصد العيادة الفلسفية):
في تعرُّف موقع المعايد الفلسفي وتبيُّن دوره، فهو يجهد في تحقيق نوع من التلاقي المعرفي القائم على الربط بين مختلف المضامين الإنسانية. وهذا ما يقتضي، بحسب الباحثة، الإلمام بالحركات العلمية والنظريات الفلسفية ومواكبة سائر العلوم الإنسانية.
إن المعايد الفلسفي هو شريك أفكار تتوالد، عبر النماذج الحوارية التي يعتمد، فيصنع منها حقيقة أزلية لوجوده، يحاور نفسه بنفسه، لدى طالبي المشورة. وعلى أن يلي المناقشة الدقيقة التي يُجريها توجيهٌ تلقائي، للعمل على تطبيق محتوى الحوار، والانطلاق منه لمتابعة الحياة الطبيعية.
وعن كفاح المعايد الفلسفي، فهو يهدف إلى إعادة تفاعل الذات، لدى المستشير، كذات عميقة، تتقلّد شُعلة الروح، خارج نطاق المادة الخالصة. وبذا، يكرِّس فعالية الروح الفلسفية، في بناء أبعاد فكرية عملية، تزهو بها الحياة الشخصية، لتنطلق بها نحو الإنسانية قاطبة!
أما لجهة آلية عمل المشير الفلسفي، فهو يستقرئ طبيعة المستشير، في عمقها، عبر كلّ سؤال وجواب، مما يُتيح له الغوص في طواياه الفكرية والمفهومية والإشكالية، فيربط فيما بينها، بشكل منطقي، ثم يصلها بمستلزمات فلسفية، تتناسب وعنوان الإشكال ومفاتيحه، وصولًا إلى الحل المنشود.
بإزاء هذه المهمة الصعبة، على المستشار الفلسفي أن يتحلّى بالقدرة على فهم المشاكل لدى المستشير، بهدف بلوغ الفاعلية الاستشارية مداها. هذه الفاعلية تتحقّق عندما يستطيع المعايد الفلسفي توجيه مستشيره لإيجاد أجوبة وحلول، تتوافق مع حاجاته المعرفية والمتطلبات، مساعدًا إياه على إجراء التحليل والمناقشة، ومشجّعًا في السيطرة على الذات والتحكّم بالأشياء من حوله. من هنا تتبدّى فكرة الإشراف الفلسفي التي تحلّ بديلًا من فكرة المتابعة الفلسفية.
… بهدف الاستزادة حول المسألة، وإذا كان النقيض لا يُستبان إلا بالنقيض، بحسب لغتنا، نحنُ المشتغلين بالفلسفة، – وباحثتنا “منّا وفينا”- فإنّنا نتعرّف المعايد الفلسفي، من خلال المقارنة التي عقدتها بين العلاج النفسي والعلاج الفلسفي، فإذا بهذا المعايد يتميَّز، بخلاف المعالج النفسي، لجهة انطلاقه من اقتناع مؤدّاه أن الشرط الحقيقي للإنسان هو موقعه الروحي. إضافة إلى أن المعايد الفلسفي يُشدّد على التبادل الفكري والخبراتي، بما يسمح للآخر (أي للمستشير) معرفة ذاته بحرية، خارج الأنماط المدروسة والمحدّدة.
أما عن المستشير، وهو الطرف الآخر والشريك المتكافئ الحضور في المعادلة العيادية، فيلزمه بداءة، وقبل أي شيء، الاقتناع المسبق بضرورة أن يكون قراره في التوجّه إلى العيادة الفلسفية نابعًا من رغبة، في تعرُّف ذاته، ناهيك عن إيمانه بإمكانية “الإبلال” مما يُعاني!
يُدرك المستشير ذاته، من خلال تعرُّف نفسه بنفسه، ويتمرّن على تغيير نظرته إلى الحياة، ويشعر، في عزّ ضعفه وعجزه أمام المواقف الصعبة، بقوة الحرية التي تُنير داخله، فيتمكّن ساعتها من جعل الألم في حياته نموذج خبرة ونضوج، وليغدو، نهاية المطاف، صاحب معرفة واقتدار.
ولا بد من التنبّه إلى مسألة، على قدر من الأهمية – سبقت الإشارة إليها- خُلاصتها أن من يقصد العيادة الفلسفية ليس مريضًا، ولكنه منهمّ ومؤرّق، بعدد من الأسئلة التي لا يجد لها حلًا، والتي قد تؤدّي به إلى الاكتئاب، بسبب عدم القدرة على اتخاذ أي قرار، أو فقدان الفرح، على رُغم وجود جميع أسبابه، أو الانعزال على رُغم توفّر جميع وسائل التواصل والانفتاح!
رؤى نقدية: ما للكتاب وما عليه!
لا يُجادل مجادلٌ في فرادة هذا البحث وأسبقيته، وهو يكبُّ على موضوع غير مطروق في الجامعة اللبنانية وفي مختلف الجامعات العاملة لدينا، وكذا في سائر البلاد العربية. وبهذا، فهو يُشكّل فتحًا جديدًا، مما يجعل واضعته رائدة في المجال العيادي الفلسفي، ولتبلغ هذه الريادة مداها، عبر أطروحة الدكتوراه التي أنجزتها، والتي ألمعنا إليها آنفًا.
وإذْ نضع هذا العمل الثرّ في ميزان النقد، فإنا متوقفون عند الرؤى والخلاصات الآتية:
أ- تأسيسًا على ما تقدّم، يتميّز هذا البحث براهنيتِهِ: جدّةً وحداثةً، وذلك بإجابته عن أسئلة الإنسان المعاصر، في قلقهِ الوجودي، مُتعدّد الأوجه والأعراض، ومن خلال تصدّيه لأمراض العصر – غير التقليدية – التي تتكاثر كالفطر وتتناسل من بعضها بعضًا، على إيقاع العولمة المتوحّشة المشتّتة للهويات والسالبة البشر حريتهم والآخذتهم إلى خواء روحي! أضف إلى ذلك التطوّر التكنولوجي الذي يُشيّء الإنسان ويُسلِّعُهُ ويُفقده سكينته الروحية، ويجعله كالريشة في مهبّ عصفه!
هذا البحث يدخل إلى فِناءات “علم” جديد، بات يُحاكي سائر العلوم ذات الصُدقية العلمية، وطفق يُرسخ أقدامه ويُثبت فعاليته، يومًا بعد يوم، ويصلُبُ عودًا، بما يدفعه إلى مزيد من الحضور في الغرب بعامة، وفي البلاد الأوروبية بخاصة، وفي بعض آسيا (اليابان على سبيل المثال). ولكن من أسفٍ، فهو غائبٌ في بلادنا، بل نحن غائبون عنه، إلى أن جاءتنا باحثتنا بهذا العمل المتفرّد، محققةً قصب السبق في مجال الفلسفة العيادية والعيادة الفلسفية!
ب- يُسجّل للباحثة، في سجل حسناتها، ذلك الجهد الكبير، في الاستحصال على “المادة الخام” لموضوعها – إذا جاز القول – من مصادر ومراجع كَلَبِنات، لإقامة العمارة البحثية التي ابتغت. فالمكتبة العربية تفتقر افتقارًا مُدقعًا إلى مراجع، في مجال الفلسفة العيادية، واستطرادًا فيما يخص العيادة الفلسفية.
وتعليل ذلك جهل البلدان العربية قاطبةً الفلسفة، مفهومًا عياديًا وعيادةً فلسفية، فكيف لفاقد الشيء بل لجاهلهِ أن يُنبئك عنه، وأن يمدَّ لك يد المساعدة؟ وهكذا كان لباحثتنا أن تعود، في مقاربتها موضوعها، إلى مظانِهِ الأصلية، فتغتني بالمصادر والمراجع الأجنبية، ولا سيما الفرنسية منها. وقد كان لإتقانها الفرنسية دور أساسي في الإفادة من هذه المصادر والمراجع لإنجاز رسالة الماجستير (أي هذا الكتاب)، كما في إنجاز أطروحة الدكتوراه. وبهدف التملّي من موضوعها، قامت بسفراتٍ مُتعددة إلى فرنسا وبعض البلدان الأوروبية، تتقصّى “العلم” الجديد، حيث انبثق وحطّ رحاله! وقد كانت مُتابعة حلقات دراسية ومعاينة شخصية مع أساطين هذا العلم، وفي مقدمتهم أحد كبار أعلامه الملهمين Oscar Brenifier. وقد كبّدها ذلك الكثير من الجهد، كما الأعباء المادية. وقد هان لديها، ما بذلت جهدًا ومالًا، بإزاء كنز علمي، يلتمع أمام ناظريها، فراحت تقبض عليه بملء العقل، وكان لها ما أرادت!
ج- اتسم هذا البحث، على رُغم تكثيفه وإعادة بنائه، بشكل مُبسط، وبما يتناسب وإصداره في كتاب، بمنهجية علمية صارمة. فقد توسلت باحثتنا منهجًا مركبًا، تنضوي إليه مجموعة من المناهج، تتداخل فيما بينها، بدءًا بالمنهج الوصفي التحليلي، عبورًا إلى المنهج التاريخي، ووصولًا إلى المنهج المقارن.
فهي، في استعراضها التعاريف والمفاهيم العائدة للفلسفة العيادية ولعددٍ من العلوم الإنسانية، وإلى سائر المسائل التي تصدّت لها، أعملت الفكر النقدي، ويتبدّى ذلك، على سبيل المثال، في مقاربتها أطروحتَي العلاج النفسي والعلاج الفلسفي، من موضع المقارنة. وقد أفلحت، عَبر رؤية ثاقبة، بتبيان الفوارق الموجودة بين المجالَين، إلى حدّ التناقض!
ولقد توسّلت المنهج التاريخي، عبر السردية التي تمثّلت في اثنتَي وعشرين محطةً، شغلت خمسًا وعشرين قرنًا من مسار الفلسفة، بدءًا من العصر الإغريقي مع هيراقليطس، وصولًا إلى بول ريكور، في زمننا هذا. إشارةٌ إلى أنها، بتوسّلها السرد التاريخي التعاقبي، عمدت إلى موقف تعليلي، مُبيِّنةً ما أفادت الفلسفة العيادية من كلّ محطةٍ من المحطات المذكورة. وقد أسهمت تلك المتابعة التاريخية في بلورة مفهوم الفلسفة العيادية، بصيغتها الراهنة. ولم يكن تعسُّف في ما خلصت إليه من نتائج. وهكذا سخّرت تاريخ الفلسفة للتدليل على مشروعية “العلم” الذي تتبناه ، كما على صُدقيته.
قبل أن نختم الكلام في المنهج، ثمة نقطة لفتت إليها الباحثة، وذلك باعتماد المُستشير (أي طالب المشورة العيادية) المنهج العقلي المنطقي، فيغوص على أعماق نفسه، ويتبصّر بواقعه الذاتي، وينفض عنه الغبار، بحسب باحثتنا، في إطار من الاعتراف بالذات والآخر، ضمن رؤية إنسانية شاملة. وهكذا، من خلال تزكيتها هذا المنهج العقلي المنطقي، تنمّ عن إيمان بدور العقل وفعاليته واعتماده منهجًا وآلية عمل في المجال العيادي.
د- لا بد من الإضاءة على مسألة، كان للباحثة أن تجول فيها، أيّما جولان، ولتحتلّ الصفحات الأخيرة من مؤلَّفها، وذلك باعتمادها عشر توصيات، تشكّل برنامج عمل “عيادي” فلسفي متكامل، بل “مانيفستو” (Manifeste) فلسفي عيادي، بشقَيه النظري والعملاني.
هذه المسألة يُرى إليها، بل تُقوَّمُ لدينا من موقع التزام باحثتنا بهذا “العلم” الجديد، داعيةً إلى تبنّيه، عبر استدخاله إلى مناهجنا التعليمية الجامعية، كما على مستوى التعليم الثانوي، وبما يفضي إلى قيام ثقافة الفلسفة العيادية وتأصيلها لدينا، وبما يؤول استطرادًا إلى أن تحجز العيادة الفلسفية لنفسها حيِّزًا، لا يقل أهمية عن عيادة الطب التقليدي وعيادة العلاج النفسي!
هـ- إذْ استنطقت الباحثة – كما أسلفنا – اثنتَين وعشرين محطةً “فلسفية”، وهي ترصد تشكُّل العيادة الفلسفية، فقد اُقتُصرتْ “جردتُها” على الفلسفة الغربية، عبر رافدَيها: اليوناني، والأوروبي: الوسيطي والحديث والمعاصر. بيد أنه لم يدُرْ في خَلَدِها تقصِّي الفلسفة العربية، من خلال فلاسفة أعلام، تركوا أثرهم البيّن في فلاسفة الغرب – بشهادة الغرب نفسه – كالفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن طفيل، وسواهم ممن كانت لهم صولات وجولاتٌ على الصعيد الفلسفي، علّها تحظى بشذراتٍ أو أقباس، تُنبئ بحضور، ولو خجولٍ، للمفهوم العيادي الفلسفي وللعيادة الفلسفية، فتفيدُ من ذلك في هذا البحث!
وفي هذا المقام ينبغي ألا نغفل عن حقيقة دامغة، خُلاصتها أن الفلسفة العربية الإسلامية شكّلت جسر عبورٍ للفلسفة اليونانية إلى الغرب الأوروبي في العصور الوسطى، واستمر تأثيرها، حتى وقت مُتأخّر في جامعاته، ويُنبئنا حضور الفكر الرُشدي (نسبة إلى الفيلسوف ابن رشد) بالخبر اليقين!
ولعلنا عبر مثالَين/نموذجَين، نتبيّن بعض شيء من المسألة. فقصة “حي بن يقظان”، للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل (1110–1185م)، تجسّد همومًا وجودية، من منطلق فلسفي وديني، وهي ترمز إلى الإنسان وعلاقته بالكون والدين. فبطلُ هذه القصة/الأسطورة حيّ، في عزلته في جزيرة “الواق واق”، طفق يخوض حوارًا مع ذاته ومع “محيطه”، بموجوداته المتعددة، عابرًا من التجربة الذاتية إلى اليقين العقلي المترنّح عند ساحة الإيمان الديني! والسؤال: أفلا نشهد الحالة ذاتها لدى المستشير (طالب المشورة الفلسفية)، وهو يعيش اختبارًا ذاتيًا، بعد طول معاناة، ليعبر إلى السكينة العقلية والهدأة الروحية؟ وبالمقابل ألا نشهد هذا الاختبار عينه مع المعايد الفلسفي، وهو يحاور ذاته، بادئًا بنفسه، قبل أن يكون “المشرف”، بإزاء طالبي المشورة؟!
ثمة مسألة لا يمكن نكرانها، تتمثّل في إفادة الفيلسوف جون لوك – وقد جاء بعد ابن طفيل بخمسة قرون – من هذا الأخير، لجهة أن العقل كصفحة بيضاء، خالية من كلّ القواعد والمعوّقات الموروثة، وأن هناك استعدادًا قبليًا للنمو، وهو ما يُتيح لنا التعلم والتطوّر.
… وإذْ نذهب إلى المثال الثاني، فمع الإمام أبي حامد الغزالي (1058-1111م)، وهو – إذا جاز التعبير- “زبون نموذجي” للعيادة الفلسفية، عبر حال الشك والقلق الوجودي التي كابدها، في مراحل مُتعددة من حياته. وهذا ما حدا بـ”ديورانت” إلى القول بأن الغزالي عانى من انهيار في قواه العقلية، أفضت إلى حال من التشاؤم والوساوس والسويداء!
وليس يخفى أن الصلة معقودة بين الغزالي وديكارت، من بوابة الشك المنهجي، وإن كان الأول قد عبر منه إلى اليقين الديني، بواسطة “نور قذفه الله في الصدر”، في حين عبر الثاني إلى اليقين العقلي الصِرف. وعلى رُغم الفارق بين الاثنين، فإن ديكارت – إحدى المحطات الاثنتين والعشرين في السردية الفلسفية – تأثّر الغزالي في مسألة الشك المنهجي، من هنا كانت العودة إليه من قِبل باحثتنا، كما إلى ابن طفيل، من لزوم ما يلزم!
و- حبّذا لو أن الباحثة عمدت إلى “دراسة حالة” حقيقية، أو عبر “سيناريو افتراضي”، بمنزلة تمرين تطبيقي على العيادة الفلسفية، فنتبيّن من خلال ذلك، بشكل حسّي وملموس، ما استعرضته تنظيرًا في هذا المؤلَّف!
لو فعلت، لكنا شهدنا حوارًا، على الطريقة السقراطية التي تحلو لها، وذلك من موقع اقتناعها بأن لسقراط دورًا تأسيسيًا “جنينيًا”- إذا جاز القول – سواءٌ على مستوى الفلسفة العيادية أم على مستوى العيادة الفلسفية، ويتمثّل ذلك – كما أسلفنا – من خلال تلك الأحاديث الحوارية التي كان يُجريها مع طالبي المعرفة في الطرقات! وإلى ذلك، فإن “دراسة الحالة”، لو وجدت لها مكانًا، في هذا الكتاب، لألفينا أنفسنا بإزاء مشهدية عملانية، تُغطي جوانب هامة من العمل العيادي الفلسفي.
عسى أن تكون باحثتنا قد أفردت حيِّزًا لدراسة حالة أو حالات، في أطروحة الدكتوراه، أو أنها ستفعل، وهي تُبشِّر بهذا العلم الجديد، من خلال أُطرٍ متعددة، لا زالت مفتوحةً أمامها على مصراعيها!
ز- إدراك الباحثة، بثاقب نظرٍ، أهمية العيادة الفلسفية، بالنسبة إلى الشرق، من منطلق إسهامها – وسواها من مبادرات خلاّقة وجريئة – في تحريك المياه الآسنة فكريًا لدينا!
وإلى ذلك، فإن العيادة الفلسفية، بحسب الباحثة، تُعزِّز دينامية التطوّر الفكري والفلسفي والاجتماعي، فيكون تجاوزٌ للنظرة الضيقة، وضمانة للنهوض من كبوة العمى الثقافي والجهل العميم!
وتفصيلًا، فإن العيادة الفلسفية تُتيح لنا عمليًا دراسة أشكال العلاقة بين الأنا والآخر، تلك العلاقة التي تعاني اختلالًا فادحًا في الشرق. بل إنها قادرةٌ، عبر آليات عملها، استنباش أعماقنا، وتجسيد أفكارنا، وتظهير ما يعترضنا من إشكالات تعانيها الأنا، في أنساقها التواصلية.
وبكلمة – ودائمًا بحسب الباحثة- فإن العيادة الفلسفية، حال قيامها لدينا في الشرق، ستمثّل موضوعًا علميًا منهجيًا جريئًا جديدًا، هو من ثمار الفكر المعاصر؛ وما أحوجنا نحن الشرقيين إلى الانخراط في المسار العالمي، عبر جميع مداخله العلمية والثقافية والمعرفية، وسواها من ميادين.
خاتمة:العيادة الفلسفية والانزياح بالفلسفة، أسئلةً وممارسةً، من حالة الإمكان إلى مشارف الفعل البنّاء!
تحصّل لنا، مما سبق استعراضه في مراجعتنا النقدية، أن العيادة الفلسفية -نتاج الفلسفة العيادية، وهي حيِّزها المكاني، بل “غرفة عملياتها”، إذا جاز القول- جاءت لتزحزح الفلسفة من الموضع الذي تتسمّر فيه، فتخرجها من حالتها الاستنقاعية إلى مشارف التحقّق والفعل البنّاء!
ومصداقًا لذلك، كان لرائد الفلسفة العيادية Gerd Achenbach أن يُثمِّن ما أفضت إليه هذه الفلسفة، عبر استبدال الأسئلة الكانطية الأربعة المطلقة والعامة بأسئلة المشورة الفلسفية اللصيقة بالواقع المعيش، ولنجدنا بإزاء الآتي:
1) ماذا أعرف؟ عوضًا عن ماذا يمكن أن أعرف؟
2) ماذا أفعل؟ عوضًا عن ماذا يمكنني أن أفعل؟
3) ماذا أتوقع؟ عوضًا عن ماذا يمكنني أن أتوقع؟
4) من أنا؟ عِوضًا عن مَنْ الإنسان؟
وهكذا كانت مُبارحةٌ للفلسفة من حالة الإمكان والتردّد والإطلاقية – وكلّ أولئك ينمّ عن عجز- إلى حالة الفعل البنّاء أو الوقوف عند أبوابه، تحفّزًا لحراك!
لقد شقّت الفلسفة العيادية طريقها، كفتح “علمي” جديد، وهي ماضيةٌ، تُصعِّدُ ارتقاءً، وتتوسّع انتشارًا، في أربع جهات الأرض، مُبشِّرةً بمرحلة للفلسفة متجددة، ومغايرة كلّ المغايرة، لما عهدناه منها، في غابر القرون!
ولا شك أن باحثتنا المبشِّرة بالعيادة الفلسفية، والداعية إلى “طب فلسفي”، قد يكون أكثر نجاعةً من الطب التقليدي “الجسماني” ومن الطب النفساني، سيبقى لها فضل السبق، في مجالٍ لا يزال مجهولًا في لبنان والمنطقة! وعسى أن يشهد انطلاقةً واعدةً، بجهودها الآيلة إلى افتتاحها أول عيادة فلسفية في شرقنا العربي.
كارولينا الخوري عبّود – إحدى أهم الطلبة الذين عرفتهم كلية الآداب في جامعتنا الوطنية- قسم الفلسفة، وقد شرُفنا بمواكبتها تدريسًا ورعايةً – تعِدُ بالكثير الكثير، وهي تصعِّدُ في طريق الجلجُلة، لا لتتسمّر على صليب الفلسفة، بل لتُخرِجَ الفلسفة لدينا من حالة الصلب، فتعود إليها حريتها وتُحطّم القيود!
كارولينا الخوري عبود، على رُغم بعض الثُغرات التي تعتور مؤلّفها، وهي ثغرات لا يُعتدّ بها كثيرًا، تبقى صاحبة تميُّز وريادة، يؤشّران على طاقة إبداعية لديها!
هذا الكتاب مُبسَّطٌ، انتُزع منه ما يخاطبُ المتخصصين بالفلسفة حصرًا، وكأننا بالباحثة التزمت نصيحة أبي عثمان الجاحظ، أحد كبار الأدباء المترسّلين في العصر العباسي، إذْ يقول: “خير الكلام ما كان معناهُ في ظاهر لفظه!”
وبكلمة، ليست مِسك ختام، إذْ لا ختام في قاموس باحثتنا، فإن هذا الكتاب/ المدخل إلى العيادة الفلسفية، بل دليلُها، يُقرأ “من الجلدة إلى الجلدة”، وهو بمنزلة ربط نزاع، – بحسب لغة الحقوقيين – مع أطروحة الدكتوراه القيّمة التي وضعتها الباحثة والتي سيكون لها شأن أيّما شأن، سيما أنها أُنجزت، على مدى سنواتٍ ثلاث، بإشرافٍ من أحد كبار المشتغلين بالفكر الفلسفي في لبنان والعالم العربي الزميل المرحوم د. موسى وهبه، مما يُعزِّز من صُدقيتها ومشروعية الأطروحة التي تُقارب!
*****
(*) مقدمة كتاب ”الفلسفة العيادية حوار علاجي لهموم يومية“ الصادر حديثاً للباحثة كارولينا الخوري عبود البعيني.