هل مات الأدب الروسي ؟ 

 

تراجع الأدب الروسي – بعد تفكك الاتحاد السوفيتي – عن موقعه المتقدم في العالم عموماً، وفي العالم الناطق بالإنجليزية خصوصاً. ويقال إن القارئ الأميركي – من الجيل الجديد – يكاد يجهل هذا الأدب تماماً ولا يستطيع أن يذكر اسم كاتب روسي معاصر واحد. والسبب الرئيسي لهذا التراجع هو ان الادب الروسي اصبح اليوم ادباً محلياً بكل معنى الكلمة . 

الأدب المحلي الذي يكون مفهوما وقريبا من شعب واحد فقط ، وغير ممتع بالنسبة الى بقية االشعوب، يتحول – في أفضل الأحوال –  الى مجرد مصدر لعلماء الأنثروبولوجيا ولا يهم القاري الأجنبي. أما الأدب المحلي، الإنساني الطابع، الذي بعبر عن روح العصر، ويثير أحاسيس مشتركة بين البشر وتجاوباً فكرياً يتفاعل في  كل بيئة مجردة من المكان والزمان، فهوالذي بجذب انتباه القارئ بصرف النظر عن العرق والمعتقد واختلاف الثقافات.

نتائج غير متوقعة لإلغاء الرقابة

مما يثير الدهشة حقاً، ان الغاء الرقابة واطلاق حرية التعبير والنشر، في اواخر حقبة (البريسترويكا ) لم يؤدِّ الى ازدهار الأدب الروسي المعاصر، كما كان متوقعاً، بل على النقيض من ذلك أدى الى شيوع أدب التسلية الجماهيري الاستهلاكي،  وهذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، أن الرقابة أمر مفيد، لأن ثمة أسباباً سياسية واقتصادية واجتماعية وتكنولوجية وراء ظاهرة الأدب المحلي الاستهلاكي، وفي مقدمها عزوف السواد الأكبر من الشباب عن قراءة الكتب الجادة المطبوعة وتفضيل الكتب الإلكترونية أو سماع تسجيلها الصوتي عبر الأجهزة الذكية ، فالسماعات لا تفارق الشباب الروس حتى في عربات المترو في موسكو وسان بطرسبورغ .

الأدباء الذين كانوا ينشرون نتاجاتهم سراً داخل البلاد (أدب الأندر غراوند) كما  يسميه الروس، لم يعد لديهم ما يعارضون به العهد الجديد، وأدب (الواقعية الأشتراكية) عفا عليه الزمن، وطوى النسيان أغلب كتّابه البارزين، الذين كانوا نخبة صغيرة مرفهة في العهد السوفيتي، تتمتع بامتيازات شبيهة بامتيازات القادة السياسيين في المكافآت والسكن والمعالجة في مستشفيات خاصة، وارتياد المنتجعات الجميلة على البحر الأسود صيفا، ودور الراحة في المناطق المشمسة ذات المناخ المعتدل في جنوب البلاد شتاءً. وكانت كتبهم المنشورة بأعداد هائلة تدر عليهم عائدات كبيرة.  وبعد تعويم (الروبل) في عام 1992 فقدوا كل مدخراتهم التي تحولت الى أوراق لا قيمة لها.

على سبيل المثال كان الشاعر السوفيتي الشهير يغور إيسايف (1926 – 2013 ) – الحائز على أرفع جائزة أدبية سوفيتية لمرتين، وهي جائزة (لينين)، وعلى وسام بطل العمل الإشتراكي – له نفوذ كبير في اتحاد الكتّاب السوفييت، وعضوا في هيئات تحرير كبريات المجلات الأدبية، ولكنه وجد نفسه على حين غرة من دون عمل في العهد الجديد، ومرّ بضائقة مالية شديدة، بعد انهيار سعر الروبل ورفض دور النشر الخاصة الجديدة – التي حلت محل دور النشر الحكومية السوفيتية – نشر أي ديوان جديد له. كما أن المكافآت لقاء نشر قصائده في المجلات الأدبية أصبحت ضئيلة وتافهة، لا تكفي لشراء كغم واحد من اللحم، وعانى الأمرين في تحصيل (لقمة العيش)، فلجأ الى تربية الدجاج في مزرعته في إحدى ضواحي موسكو لكسب ما يمسك عليه حياته وحياة أسرته. وتوقف عن كتابة الشعر.

ان مصير أغلب كتّاب الواقعية الإشتراكية لا يختلف كثيراً عن مصير الشاعر إيسايف، وقد طواهم النسيان، وأصبحوا في ذمة التاريخ .

الادباء المهاجرون اخذوا ينشرون نتاجاتهم داخل روسيا ايضا، وعاد العديد منهم الى الوطن بعد غيبة طويلة، ومنهم الأدباء الذين اسقطت عنهم الجنسية السوفيتية. ولكن سرعان ما  زال سحرهم في العهد الجديد، فإلإمبراطورية، التي كانوا يحاربونها، لم يعد لها وجود.

وجاء جيل جديد من الأدباء الشباب، ضائع لا يعرف ماذا يريد، وتحولت مهنة الكتابة الإستهلاكية الخفيفة الى تجارة رابحة، لأولئك الذين يبحثون عن اسهل الطرق للحصول على المال، وكانوا في السابق يمارسون مهناً اخرى، ولا يفكرون يوما في اتخاذ الكتابة الأدبية مهنة لهم. ونزل الى الميدان الأدبي ضباط بوليس ورجال مخابرات متفاعدون، يستمدون من خبراتهم الوظيفية وتجاربهم الحياتية، حبكات رواياتهم البوليسية والتجسسية ولم يقتصر الأمر على الجنس الخشن، بل اقتحمت صحافيات ونساء من شرائح ومهن شتى، وحتى ربات بيوت مجال الادب بسلاسل من الروايات الغرامية والبوليسية والخيالية، التي لقيت رواجاً كبيرا لدى الجمهور الباحث عن ادب اللذة.

وفي الوقت الذي كان فيه الجمهور القارئ في الحقبة السوفيتية يتابع الإصدارات الجديدة لعدد محدود من الأدباء المعروفين، ثمة اليوم مئات الأدباء من الجنسين – معظمهم في مدينتي موسكو وسان بطرسبورغ – وقد تحوّل كل منهم الى آلة لإنتاج رواية كل شهر أو شهرين للحصول على أكبر قدر من المال. وهم أعضاء في عدة  اتحادات جديدة للأدباء تشكلت بعد إلغاء اتحاد الكتاب السوفييت. وهذه (الاتحادات الجديدة)  تتناحر اليوم في ما بينها على ممتلكات الاتحاد السابق من بنايات ودور سكن في قرية الكتّاب (بريديلكينا) في ضواحي موسكو.

سولجنستين

أدب الـ (غرافومانيا)

لم يعد للأدب الروسي صلة بالواقع ويتسم بطابع  شديد الغرابة بالنسبة الى القارئ الأجنبي، ويسود فيه ما يسمى الـ(غرافومانيا)، أي هوس الكتابة السطحية التي غالبا ما تكون فضفاضة ومملة،  حول أحداث عادية وأبطال لا يتميزون بشيء.

البعض من اشهر الكتاب الاستهلاكيين الروس المعاصرين لا يجيدون حتى اللغة الأدبية الروسية، ونتاجاتهم مكتوبة بلغة سوقية أسوأ من لغة الصحافة الصفراء، مما ينم عن ذوق فاسد. ولولا البهارات الأيروتيكية مثل الوصف التفصيلي للعلاقات الحميمة وشتى أنواع التجارب الرذيلة لما قرأ أحد كتاباتهم.

أما الأدب الروسي الخالي من البهارات الأيروتيكية والعبارات الفاحشة – الذي يمكن إعتباره إمتداداً للتقاليد الأدبية الروسية –  فإنه يتناول عددا من القضايا، التي لم تعد تهم القارئ الغربي. مثل التعصب القومي الروسي، أو  العيش وفق معايير الكنيسة الأرثوذكسية، أو الإنسان في مواقف استثنائية (الحرب، والمعتقل). ويقصد بالحرب هنا المعارك الطاحنة التي جرت بين الجيشين الأحمر والهتلري خلال الأعوام الأربعة الأخيرة (1941-1945) من الحرب العالمية الثانية، التي يطلق عليها الروس (الحرب الوطنية العظمى) . وقد كتب عنها عدد لا يحصى من الروايات والدواوين الشعرية في العهد السوفيتي.

أما وصف جحيم المعتقلات، ومعسكرات العمل الإجباري الشاق فلم يعد فيه أي جديد بعد روايات سولجنتسن و”حكايات كوليما”  لفرلام شالوموف.

وتحتل موضوعة تفكك الاتحاد السوفيتي والحنين إلى المجد الأمبراطوري الغابر مساحة واسعة في الأدب الروسي الجديد – فما زالت الإمبراطورية حية في الأذهان، وحتى في الروايات الخيالية –

لأن روسيا مرّت في العقدين الأخيرين بسنوات عصيبة، تغيرت فيها، ليس اسلوب الحياة فقط، بل المعايير الاجتماعية والقيمية والجمالية أيضاً. ولا أحد اليوم يعرف بمن يثق، وبماذا يتفاخر، وماذا يفعل، وكيف يحيا لاحقاً. وثمة ثلاثة اتجاهات في هذا المجال:

-محاولة فهم ووصف ما حدث وما يحدث الآن، على أنقاض الإمبراطورية المنهارة .

-التعبير الفني عن مجتمع استهلاكي وضياع المثل العليا التي كانت تستشرفها النخب المثقفة.

-الإنسان الروسي الجديد، الذي يتعلق بأذيال المطامع المادية ولديه المال ووسائل الترفيه، ولكن حياته كئيبة. وأخذ يتساءل من جديد – السؤال الروسي التقليدي – ما العمل؟.

لودميلا اوليتسكايا

تراجع وانعزال

تشير الأحصاءات الحديثة  الى أن ما يترجم من الأدب الروسي الى اللغة الإنجليزية لا يتجاوز 3% من اجمالي الأعمال الآدبية الأجنبية المترجمة الى هذه اللغة الأساسية في عالمنا المعاصر. ويكفي أن نقول إنه خلال العقدين الأخيرين لم يدخل أي كتاب روسي الى قائمة جائزة  افضل كتاب أجنبي  مترجم   (Best Translated Book Award) في حين  حصلت عليها اعمال ادبية مترجمة الى الانجليزية من آداب بلدان اوروبا الشرقية الأخرى التي تحتل مكانة متواضعة في الأدب العالمي .

وعموما فإن نصيب الأعمال الأدبية الروسية من الجوائز الأدبية العالمية والأوروبية – منذ انهيار الإمبراطورية – جد قليل، رغم ان مشاهير الأدباء الاستهلاكيين الروس يحصلون باستمرار على الجوائز الأدبية الروسية المتعددة التي يصعب حصرها لكثرتها، وتتحكم فيها دور النشر والإشهار الروسية الكبرى.

الروايات الروسية المعاصرة تنشر في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا بأعداد قليلة من قبل دور النشر الصغيرة أو الجامعية، وليس دور النشر الشهيرة  مثل  (بنجوين أو راندوم هاوس، أو فارار وجيرو)،  ولا تعرض في المكتبات والمتاجر الشهيرة– ما عدا بعض روايات لودميلا  اوليتسكايا وميخائيل شيشكين – والأخير يقيم بشكل دائم في سويسرا –  بل في المكتبات الجامعية او على مواقع الإنترنيت مثل موقع امازون.

أحياناً يمكن العثور على بعض روايات الخيال العلمي للكاتبين (الروسيين) بوريس اكونين وفيكتور بيليفين في هذه المكتبة او تلك، ولكن ليس ثمة رواية روسية واحدة ضمن قوائم الكتب الأكثر رواجاً. والعالم لا يتابع نتاجات الكتاب الروس المعاصرين – كما كان الأمر في الماضي –  ولا يسوق كل النسخ المطبوعة منها رغم محدوديتها.

يقول اصحاب دور النشر  الروسية، والكتاب الروس انفسهم ان ذلك ناجم عن ضعف الدعاية والترويج للأدب الروسي المعاصر في الدول الغربية. ولكن هذا الزعم غير دقيق بدليل ان الكتاب الروس الإستهلاكيين يقومون بتكليف المترجمين الغربيين بترجمة نتاجاتهم الى الإنجليزية، كما يقومون بحملات دعائية مكثفة في الدول الغربية لترويج وتسويق نتاجاتهم، ولم يبق في جعبتهم من سبيل الا وسلكوه لأغراء القارئ الغربي، دون ان يحرزوا تقدما كبيرا في هذا المجال، لأنهم يلحون عليه اقتناء وقراءة ما لا يحتاج اليه.

النقاد الروس – الذين يدورون في فلك دور النشر الروسية الكبرى – يعزون سبب ذلك الى السياسة، ويقولون إن روسيا لم تعد عدوة أو منافسة للغرب، ولهذا فالأدب الروسي المعاصر لا يحظى باهتمام كبير في الغرب، ولكن هذا تضليل متعمد، الغرض منه الإيحاء بأن الأدب الروسي اليوم بخير، وان السياسة الغربية الحالية ازاء روسيا هي التي تمنع انتشار الأدب الروسي في الغرب، ولكننا نعلم أنه لا توجد أي رقابة على الأعمال الأدبية في الغرب، لا بالنسبة الى الأدب الروسي ولا أي أدب آخر، فمن يرتاد متاجر الكتب في العواصم الغربية يجد الكثير من الطبعات الحديثة للأعمال الأدبية لعمالقة الأدب الروسي الكلاسيكي ( تولستوي، دوستويفسكي، تشيخوف، تورغينيف) . وكذلك العديد من الكتب المكرسة لتحليل الوضع السياسي الراهن في روسيا البوتينية. وهذا يقودنا الى استنتاج جلي وهو أن القارئ الغربي  لا يزال مهتما بما يحدث في روسيا اليوم، ولكنه لم يعد يهتم بالادب الروسي الاستهلاكي، الذي لا يعبر عن الواقع الروسي الراهن .

بعد برودسكي وسولجنتسن لا يوجد كاتب أو شاعر روسي واحد يحظى بنفس القدر من أعجاب القراء في الغرب. الجمهور الذي يقرأ الأدب الروسي، حتى اليوم ، يتألف أساساً من المهاجرين والمغتربين الروس في الدول الغربية، وحفنة من المهنيين في كل بلد غربي، ومعظمهم من أساتذة وطلاب أقسام اللغة الروسية أو الأدب الروس، وكذلك الأجانب من خريجي الجامعات والمعاهد الروسية.

يقول اصحاب دور النشر الغربية إنهم يريدون روايات روسية عن الواقع الروسي، ولكن مثل هذه الروايات نادرة في الأدب الروسي المعاصر. ولم يظهر في روسيا خلال العقدين الأخيرين أي عمل أدبي ممتع ورفيع المستوى فناً وفكراً، يمكن أن يجذب انتباه القارئ الغربي العادي، ويثير اهتمام النقاد الغربيين ويدخل ضمن قائمة الكتب الأكثر رواجاً، كما هو الحال مع الأعمال الأدبية الخالدة  لعمالقة الأدب الروسي الكلاسيكي.

تولستوي

مائة صنف من السجق وفكرة واحدة

اجرت  الصحافية والمترجمة  الفنلندية كريستينا روتكيرش – التي تكتب باللغتين السويدية والفنلندية – لقاءات صحافية مع احد عشر كاتبا روسيا مشهورا تحدثوا خلالها عن سيرهم الذاتية واعمالهم واساليبهم وتجاربهم في الكتابة ( بوريس اكونين، يفجيني غريشكوفيتش، إدوارد ليمونوف، يوري ماملييف، فيكتور بيليفين ، لودميلا بيتروشيفسكايا ، نينا سادور، فلاديمير سوروكين، تاتيانا تولستايا، لودميلا اوليتسكايا، ميخائل شيشكين ). وقد جمعت روتكريش نصوص هذه اللقاءات في كتاب صدر قبل بضع سنوات في ستوكهولم باللغة السويدية بعنوان “لقاءات مع أحد عشر كاتبا روسياً”، ثم قامت بترجمة الكتاب الى اللغة الفنلندية ونشره تحت عنوان “مائة صنف من السجق وفكرة واحدة”.

ان عنوان هذا الكتاب هو (باروديا) أي محاكاة ساخرة وتهكم على روسيا، التي تسعى لبناء اقتصاد السوق. حيث تجد في متاجرها اليوم أصنافاً كثيرة من السجق، الذي كان شحيحاً في الحقبة السوفيتية. ولكن الأدب الروسي يعاني اليوم من ظاهرة الـ(غرافومانيا)،  وشحة الأفكار الملهمة.. وبين احد عشر كاتبا لا يوجد من يكتب الأدب الحقيقي سوى شيشكين، واوليتسكايا، التي يعرفها القارئ العربي بعد ترجمة روايتها الممتعة “سونيشكا” الى اللغة العربية . وهي روايتها الأولى التي نشرت في موسكو عام 1992 وترجمت الى العربية بعد حوالي ربع قرن.  ولأولتسكايا روايات وقصص كثيرة، وتحظى أعمالها بشعبية واسعة في روسيا والعالم حيث ترجمت الى أكثر من 25 لغة أجنبية، وحصلت على عشرات الجوائز الروسية والأوروبية، بينها جائزة “البوكر” في عام 2001.

شحة الأفكار والبؤس الإبداعي لنجوم الأدب الاستهلاكي هي نتيجة طبيعية لانعزالهم عن الواقع الأجتماعي. هذا الواقع الحافل بالتناقضات الحياتية والإنسانية التي يمكن أن يستمد منها الكاتب الروائي والقصصي آلاف الحبكات الممتعة. ولكن للسوق قوانينها، وهذا هو الحال في كل بلد يتحول فيه الأدب الى سلعة في السوق، ولا يقتصر الأمرعلى روسيا وحدها.

 

اترك رد