الرّسمُ نسخةٌ صادقةٌ عن الإحساس، ينشأُ عن تأثيرِ الإرادةِ على الدّماغِ البشري، فيصبحُ تجلّياً. لكنّ الغرابةَ تكمنُ في أنّ الصّورةَ وهي تتعَقلن، وتُمسي جسراً بين مادةِ المعرفةِ وشكلِها، تتحوّلُ ينبوعاً حراًّ لعفويّةٍ خلاّقةٍ لا تَخضعُ لتركيباتِ العقل. والرسمُ، على هذا، هو إعلانٌ صريحٌ لواقعٍ جديدٍ بديلٍ للإدراكِ في بُعدَيه المكانيِّ والزمنيّ، أو مُماثلٍ رمزيٍّ له، تَقذفُ سطوحُه الأشياءَ لتلتقيَ بالذّوقِ الذي هو الحَكَمُ الجماليّ، فتتمُّ بذلك المتعة.
ميشال روحانا الذي آمنَ بأنّ الرسمَ ينبعثُ من عَفوِ البديهة، إخترقَت رسومُه الجزَيئاتِ الدقيقةَ لأعضاءِ الحسّ، ووصلَت الى الذّهنِ صدماتٍ لمفاجأتِه، ولتوجيهِ انتباهِه الى أنّ الإبداعَ وَضعَ نفسَه في خدمةِ الريشة. وهكذا يصير الرسّامُ سيّدَ صُوَرِه، يجعلُها خالقةً لِكونٍ شخصيّ، له على الكونِ الحقيقيِّ امتياز، فالصورةُ تقومُ بِدَورِ عنصرٍ مُنظِّمٍ يُدخِلُ في المعرفةِ كلَّ ما في الحياةِ من ثروة.
رسومُ ميشال روحانا هي اشتياقُ الطبيعةِ الى مرآة، وهي في الآن ذاتِه تَنَوُّعٌ وترتيبٌ في التنوّع. إنّها تَنوّعٌ لأنها تُنتجُ المظاهرَ النوعيّةَ للإحساسات، وهي ترتيبٌ في التنوّعِ لأنها تُنسّقُ بين المظاهرِ وِفقاً لمقتضياتِ الابتكار المُطلَقة. لذا، يُمكن النّظرُ إليها في علاقتِها معنا، وهي المُتفلِّتةُ من قانونيّةِ العقل، على أنها مَصدرٌ للذّة. من هنا، فالطبيعةُ مع روحانا تمرُّ بمرحلةِ عبورٍ الى نفسِ الفنّانِ أولاً، تتماهى معها في زواجٍ إحساسيّ، لتصحّحَ ما قاله ” ديكارت ” بِ ” أنا أحسُّ إذن أنا موجود “.
الرسمُ بريشة روحانا ارتباطٌ بِمجالِ الخَلقِ الحرّ، وهو، بِقطعِ النّظرِ عن دَورِه الوسيطِ بين العينِ والمخيّلة، يعبّرُ عن غائيّةٍ تُكسِبُه في مجالِ الجَمالِ أكثرَ ممّا تُكسبُه في مجالِ القيمةِ الموضوعيّة. إنّ رسومَه تُحفّزُ فعلَ الذّوق، ليحدّدَ بوضوحٍ الفرقَ بين الفهمِ والاكتشاف، فإذا كانتِ الصورةُ مع غيرِه أضعفَ من الإحساسِ لتبقى في حالةِ العاديّة، فهي معه تُنشِّطُ العَصَبَ الذي يمنعُها من أن تُنسَبَ إلاّ الى الإبداع.
الطبيعةُ في رسومِ ميشال روحانا لها طعمٌ آخر، فكأنها تعتقدُ أنّ للحقيقةِ أوجهاً متعدّدة، لا يختلفُ الواحدُ منها عن غيرِه إلاّ بالدرجة. وإذا كان بمقدورِ الكثيرين معرفةُ المظاهرِ المطابِقةِ للواقعِ الملموس، فإنّ هذه المعرفةَ لا تبلغُ مدى الإدراكِ المُتأتّي عن الاختبارِ الباطن، إلاّ مع مَن يستطيعُ نقلَ الرؤيةِ من الظلمةِ الى النور. والطبيعةُ ليست صُوَراً بصريّةً لا يُحسنُ روحانا كتابتَها غيباً، فهو كَلاعِبِ الشطرنجِ الذي يُتقنُ نقلَ حجارتِه عن بُعد، من دون أن تكونَ الرقعةُ أمامه.
الصورةُ في نتاجِ روحانا ليست مُسطّحة، لأنها تنامُ على الضوء، فهي علاقةٌ قائمةٌ بين خطوطِها وإحساسِنا عن طريقِ تَجاوُبِ الانفعال. وهي لم تكن مرّةً هاربةً أو خادِعة، لأن روحانا الفنّانَ يرى فيها آخرَ مرحلةٍ من مراحلِ الفكرة. وقد يُقالُ إنّها الصّدمةُ بالذات، لأنّ موضوعَها يكونُ غالباً أمراً مألوفاً ندركُه، لكننا لا نستطيعُ أن نبدّلَ شيئاً في شكلِه أو دوره. والصورةُ عنده تتمتّعُ من ذاتِها بقوةٍ تقذفُها من باطنِ الذِّهنِ الى خارجِ سيطرةِ الإدراك، وعندئذٍ يصبحُ بإمكانِها أن تتحوّلَ الى إحساسٍ كافٍ يُفسِّرُ قدرةَ فكرِ الفنّانِ على مُعاشرةِ العبقرية، فيحقُّ له بالتالي أن يقول: إنّ الإبداعَ يتبعُني.
لا يمكنُ للعينِ أمام لوحةِ روحانا إلاّ أن تَشعرَ بهزّةٍ عاطفيةٍ إيماناً بانتصارِ الجمالِ الذي يَدخلُ إليها بالرّغم منها، كمَنْ هبطَت عليه سلطةُ المنبر. فرسومُ روحانا حالةُ وَعيٍ ونُضجٍ تنطلقُ لحمايةِ قيمة، ربّما تعرّضَت للانتهاك، فالجماليةُ لم تكن يوماً معه صَنماً باهِتاً تعمّرُه ريشةٌ وثنيّةٌ تمدُّ سلاسلَها حول عنقِ الطبيعة، بقدر ما كانت نَبضاً يُحرُّك لذّةً لا يُتَنازَلُ عنها. فروحانا، الأهوجُ في عَبَقِ الجمال، عندما يلتفتُ الى الأبعادِ يُحيي الحَجر، لأنّ ريشتَه من عَصَبه، وهو، حين يرسم، يُتقنُ صناعةَ الروائعِ لأنه يمشي على بَرَكةِ الموهبة.