خريفي إن أتى!

 

 

أرسل الخريف أولى نسائمه، وقد حطّت هنا تُخبر بقريب حلوله ضيفًا عزيزًا في ربوعنا.

نعم، تتناوب الفصول، وهي بذاك تُسلمّ أمانة الحياة وتتبادلها فيما بينها.

كلٌّ منها يزرع في الأرض جمالًا ما، ويرسم عليها لوحته الخاصة. والحياة إذاك تلبس حُللًا تخبرنا بأنها هي نفسها تتبدل، هي نفسها تبقى ذاتها إنما تخلع رداءً لتلبس آخر.

لَشد ما يُشابه الإنسانُ حياتَه في فصولها، فهو الآخر تتناوبه فصول حياته، وهو هو نفسُه لا يتبدّل إنما يتنقل بين رداء ورداء.

أنا ربّما اكتفيتُ من ثوبي هذا… ربّما، أتوق لثوبٍ جديد، لفصلٍ آخر… أتوقُ لحكايةٍ جديدة… أتوق لكي أكون كلمةً في قصةٍ من نوعٍ آخر… قصةٍ خريفيّة، ربما… لا أدري…

أعلم أني أفتقد أوراقًا متساقطة… أشجارًا تخلع ثوبها… تتحضّر هي الأخرى لجديدٍ على شاكلتي… أرى أفكاري مع كلٍّ من أوراقها تتساقط… وأرى نفسي أتحضّرُ لعُريٍّ فكريٍّ يمهّدُ لرداءٍ أجمل…

أرى ردائي يخلعني لأختار أنا آخرَ… أراه ممدّدًا أصفر اللون، يحمل ما علق بي من الحياة، ممدّدًا على الأرض تحتي… تلك الأرض التي تغذيني وتقيني… أرى أفكاري عليها أوراقًا صفراء، تنحلّ فيها، لتغذّيها… تموتُ فيها لتنهضَ فيّ حياةً… أرضي تلك التي أقيها فَيئًا… تهبني شيئًا…

تَهَبُ لنفْسي براعمَ تنتظر فراغًا تشقّ القدر، تبحث عن نور الشمس… تلتفتُ نحوه، تتّحد وإياه، تناديه بابتسامتها ليعود عليها بدفئه المغذّي، فتنمو وترتفع وتصرخ حياة… براعم ليّنة وقوية… تلين لتميل عن الصغائر فتعبر سبييلاً دقائق الأمور وعقداتها، وقويةً لتواجه المخاطر… تواجهها… وتقهرها!

نعم، أفتقد راحةً… فراغًا… نَفَسًا جديدًا قبل أن أغوص ثانية في بحر الحياة… هل سأعرف الراحة؟ لا لن أعرفها ولا أودّ معرفتها أو لُقياها… هل أعرف الاكتفاء؟ كيف أكتفي؟ أليسَ الاكتفاء موت؟!

الحياة ليس في الحياة… هي في الموت والحياة… فالموت جزءٌ من الحياة… فلا موت إلا في الحياة ولا حياة من دون موت… هوذا قد اقترب… اقترب الخريف… اقتربت نفسي بحلّتها اللاشيئية… اقتربت وبجعبتها ستحوي جميل الأشياء…

الحياة جميلة في فصولها… والإنسان كحياته، لن يَحلى وينمو من دون أن يعبر الفصول كلّها… الطبيعة تستريح والإنسان عليه أن يستريح… الطبيعة تموت، وكذلك الإنسان… يموتُ عن أمسه، ليغدوَ غدَهُ… يموتُ عن همسه ليغدوَ صوته… يموتُ عن حبسهِ ليغدوَ… حريتهُ.

اترك رد