عاشق اللون والموسيقى والكلمة يستلهم فنه من حبيبته “بيروت”
“مقطوعات وألوان تحيّة إلى أمين الباشا”، المعرض الأول ضمن سلسلة معارض ينوي متحف سرسق في بيروت تنظيمها لكبار الفنانين الرواد المحفوظة أعمالهم ضمن مجموعاته (15 سبتمبر 2017- 12 مارس 2018).
يضمّ معرض “مقطوعات وألوان تحيّة إلى أمين الباشا” لوحات زيتية ومائية ومنحوتات خشبية أنجزها أمين الباشا بين 1960 والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. منذ بداياته مع التجريديّة تتميّز لوحاته باحتفالها باللون والحركة حتى ليخال الناظر إليها أن الخطوط والألوان تتراقص مع بعضها البعض. كذلك تمتاز لوحته بأنها مجزأة في تأليفها، فالمناظر الطبيعية المكوّنة من الأشجار المترامية في آفاق لامحدودة، تتجاور مع مشاهد دينية تقليدية على غرار العشاء الأخير، وتتناغم على هدي الموسيقى لتشكل دعوة إلى ولوج عالم الخيال.
“ولدت في بيت تختلط فيه الموسيقى بالرسم والأدب، ثم كبرت ورأيت نفسي ميالاً إلى هذه الفنون الثلاثة، لكني اتجهت إلى الرسم والأدب وبقيت عاشقاً للموسيقى الكلاسيكية. هذا باختصار ما جعل مني فناناً وبكل تواضع”، بهذه الكلمات المختصرة يعرف الفنان أمين الباشا عن نفسه.
يعتبر أمين الباشا إحدى الشخصيات البارزة في المشهد الفني اللبناني، ولد في بيروت عام 1932، وتلقى دروسه في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة في بيروت، والمعهد العالي للفنون الجميلة وأكاديمية “دي لا غراند تشوميير في باريس.
في الخامسة عشرة من عمره اختار طريقه في الرسم، وفي عام 1959 فاز بجائزة السفارة الفرنسية، كذلك فاز بجائزة وزارة التربية والفنون الجميلة، وبجائزة Cittaeterna في روما 1976.
عام 1970 وضع رسوماً لديوان شعر ألان جوفروا، ما فسح في المجال أمام تزيينه رسوم ديوان الشاعرة ناديا تويني (1983)، كذلك وضع رسوم النسخة الإيطالية من ديوان شعر لليوبولد سيدار سنغور.
يتنقل أمين الباشا بين بيروت وباريس، ويمضي وقته بين المحترفات والمقاهي، يكتب ويرسم. كذلك يزور اسبانيا. أعماله محفوظة في متاحف الفن الحديث في اسبانيا وإيطاليا وفرنسا والبلاد العربية وفي مجموعات خاصة.
صدر له عن دار “نلسن” كتاب “بيروت أمين الباشا”، وفيه يؤرخ لمدينة بيروت منذ 1953 إلى 2009، بالريشة والألوان، قائلاً: ”هي مجنونة بجمالها… هي لا تنام”. كذلك صدر له: “شمس الليل” (2012) ضمن سلسلة كتاب العربي، “دقات الساعة” (قصص ورسوم)، “المنتحر” (مسرحية)، “أليس” (مسرحية من سبعة مشاهد)…
جمال لا ينتهي
يتوقف ناشر كتب أمين الباشا سليمان بختي بدوره عند محطات من سيرة أمين الباشا ومن فنه قائلاً في مناسبة تكريمه في “المهرجان اللبناني للكتاب”: “منذ خمسينيات القرن الماضي وهو يريد أن يرسم العالم على هواه. وإذا كان لكل فنان أسطورته أو أيقونته فإن بيروت هي أسطورة أمين الباشا. هي خارطة الطريق وذاكرة المكان. هي الحياة الجديدة التي انزرعت في اللوحة. لا يتوقف أمين الباشا عن تهديم كل العوائق التي تحول بينه وبين وضع اللون على اللوحة وتجهيز السطح الملائم لبناء اللوحة، وهذا بحد ذاته الدليل على قوة الفن على ما يقول بيكاسو”.
يضيف: “هكذا يظل أمين الباشا يسأل اللوحة عن السر أو على طريقة هايدغر ما هو العمل الفني، وينتقل من لوحة إلى لوحة ليكتشف أن ثمة جمالاً لا ينتهي وأن هذا الجمال بتعريف هايدغر أيضاً هو طريقة انغلاق الحقيقة والإحاطة بعمق الطبيعة الشعرية. هل كان الفتى أمين يعلم أن بوسع ريشته الطرية أن تجترح المستحيل؟ هل كان الفتى الذي كان أمين يعلم أنه وقع في حب المدينة مذ كان والده المحب لحياة المدينة والأدب والغناء يصطحبه صباح كل أحد في نزهة حول المدينة وشاطئ البحر؟ شعر مذّاك أن ألوان المدينة ملكه وحده. وراح يرسم ما يرى لأن ما لم يرَ ليس لوناً على حد ابن حزم الأندلسي في رسالة الألوان (…).
دهشة مستمرة
حول علاقته ببيروت وبالرسم يقول أمين الباشا في محاضرة له: “لم أكن تجاوزت العاشرة من عمري عندما اتجهت إلى الرسم. كان أول نشاط لي مرافقة خالي إلى الجبال وشواطئ بيروت، أحمل له علبة الرسم الخشبية التي كان يصنعها هو بيديه… وبعدها مرّت عشرات من السنين وما زالت تمرّ، وأنا ما زلت اندهش كلّما أرى نور الصباح وكأني أراه للمرة الأولى”.
وتابع: “في هذه المرحلة كنت أحوم حول مكتبة البيت المتواضعة وكأني سحرت بالكتاب وصفحاته وبما يحتوي، فانكببت على قراءة “ألف ليلة وليلة” ودواوين من الشعر والتاريخ. وكنت في الوقت ذاته انقل جملاً تروق لي من هذه الكتب، ثم ابتدأت بالذهاب صباحاً إلى قرب البحر وأجلس متطلعاً سابحاً بخيالي، متصوراً نفسي شاعراً وموسيقياً ورساماً وكل شيء، إلى أن أعود إلى البيت وتعود لي صورتي الحقيقية، الصبي الذي لا يعلم ما يحب وما يهوى. ولكن الألوان كانت، وما زالت تحرّكني، وكنت أستريح من الكتابة في الرسم، واستريح من الرسم في الكتابة، إلى أن تغلّب الرسم على الكتابة، لكنها لم تزل حيّة فيّ”.
يضيف: ”كنت أرتاد المقاهي الشعبية في ساحة البرج، وكنت أرسم فيها بالحبر وبالأقلام الملوّنة وبالأكواريل، واعتبر أن المقهى الشعبي البيروتي هو مدرستي الأولى، وما زالت مهمة وضرورية لمداومة عملي الفني اليومي، فعندما سافرت إلى باريس تابعت الرسم في المقاهي وكان خروجي من مرسمي هو للدخول إلى مرسم أوسع، أي المقهى… الشارع… الناس”.
يتابع: “الفنان هو فرد من أفراد مجتمعه، وهو الأكثر إحساساً بما يجرح الوطن وما يفرحه. ما زلت أعمل للوصول إلى مكانة فنية يثق بها إحساسي وأقبل بها، علماً بأن الوصول إلى نتيجة ما في الفن كالسراب، كلما اقتربت منه، بَعُد عنك…”.
******
(*) جريدة الجريدة 7 سبتمبر 2017