تُرى لماذا يركضون؟

                        

كنتُ في بلادِ الله الواسعة أجولُ كمَنْ يستعطي الزَّمنَ بعضًا من ساعةٍ أَتلهَّى فيها عمَّا كان يشغلني، فجلسْتُ على مقْعَدِ أَحدِ الأَرْصفَةِ أَرْقَبُ النَّاسَ غادينَ رائِحين، يرْكضونَ كَمَنْ ينتظرُهم أَمْرٌ أَو أَحَدٌ، ويَخْشون التَّأْخير، أَو كَمَنْ يخافُ مِنْ وَهْمٍ يُلاحِقُهُ فيَجدُّ السَّيْرَ هَرَبًا مِنْ ذاك الَّذي لا يفارِقُ ذِهْنَه. نَظَرْتُ ونَظَرْتُ فجالَتْ في رَأْسي مَشَاهدُ وتَساؤُلات، وَقَفْتُ عِنْدَ واحِدٍ يَعْنيني فأَنْساني أُولئِك الَّذين يُسابِقون الزَّمَن.

لقَدْ تراكَضَتْ أَمَامي الأَيَّامُ والسُّنونُ فأَحْصَيْتُ مَا مَضَى مِنَ العُمْرِ وكَمْ سيُعْطيني الله كَيْ أَتَمَكَّنَ مِنْ عَيْشِ مَا لَمْ أَعِشْهُ حتَّى اليَوْم.

وعُدْتُ بالذَّاكرَةِ إلى طُفولَتي يَوْمَ كُنَّا نَأْكُلُ حَلْوَى العيدِ ونَلْتَهِمُ مُسْرِعينَ قطْعَةً بعدَ قطْعَة، وحينَ نُدْرِكُ أَنَّه لَمْ يَبْقَ إلَّا القليل، نَأْخُذُ بالتَّمَهُّلِ كَيْ يَطولَ وَقْتُ اسْتِمْتاعِنا بتِلْكَ الحَلْوى. وكَمْ تُشْبِهُ تِلْكَ الحَلْوَى أَيَّامَنَا وأَسابيعَنا والسِّنين الباقِيَة، نَرْكُضُ في مطالِعِها ونَتَمَهَّلُ في خَواتيمِها.

وتَسَاءَلْتُ: هلْ مَا بَقِيَ مِنَ العُمْرِ هو للاجْتماعاتِ العَقيمَةِ الَّتي يَكْثُرُ فيها الكلامُ وتقلُّ الأَفْعال؟

هلْ هو للاِستِماعِ إلى كلامِ الخُطَبِ المَعْسُولَةِ لَفْظًا، المَشْحونَةِ خُبْثًا وسمًّا؟

أَمْ هو ليُسْتَهَلَكَ مع مَنْ لَمْ تُعْطِهِم السّنونُ حِكْمَةً ورَصَانَةً فَكَبُروا بالأَعْمارِ واسْتَمَرُّوا  صِغارًا بالفِكْرِ ومُراهقينَ في حُسْنِ المَسَار؟

وهلْ هو ليَحترقَ في مَرْمَى الوُصوليِّين الذين يَسْتَغِلُّونَ حُبِّي وحَمَاسي ثمَّ يُطْفِئُونَ زَهْوَةَ الأَيَّامِ في كُؤُوسِ انْتِصاراتِهِم الدُّونْكيشوتِيَّة؟

هَلْ هو لِرَدِّ نَظَرَاتِ الحُسَّادِ وأَلْسِنَةِ الحاقِدينَ الَّذين يحاوِلُونَ أَنْ يَكْبُروا مُتَوَسِّلينَ تَشْوِيهَ الكِبَار، طَمَعًا بمَنْصِبٍ أَو برِزْقٍ أَو بشُهْرَةٍ أَو بسُلْطَة؟

هلْ هو للاِسْتِهْلاكِ عِنْدَ مَنْ هُم في السُّلطَةِ وَيحْرُقُهُم الغَيْظُ أَكْثَرَ مِنْ القَيْظِ حينَ يرَوْن مَن دونَهُم سُلْطَةً أَسْمَى مِنْهُمْ رِفْعَةً عِنْدَ النَّاس؟

وأَعودُ مِنْ رِحْلَتي في عَلامَاتِ الاِسْتِفْهَامِ لِأَقولَ لِذَاتي مَا يُشْبِهُ القَرَار، مُتَمَنِّيًا لَوْ أَنّي قادِرٌ على فِعْلِ مَا أَتَمَنَّى. ومَا أَتَمَنَّاه هو:

أَنْ أَصْرفَ مَا بَقِيَ في جُعْبَةِ أَيَّامي مع النَّاسِ الَّذينَ تَشَبَّعُوا مِنَ الإنسانيَّة جَوْهَرًا ومَسْلَكًا، فلا نَفختهُمُ الأَيَّامُ حتَّى أَعْمَتْ عُيونَهُم عَنْ أَخْطائِهِم وفَتَحَتْها على عَثَراتِ الآخَرين.

مع أُولئِكَ الَّذين إنْ تَسَلَّمُوا سُلْطَةً لا يتَسَلَّطُونَ وإنْ حَكَمُوا لا يَتَحَكَّمُّون. وإنِ اغْتَنوا  بالخَيْرِ لا يَسْتغنون عن أَهْلِ الخَيْر.

مع الَّذين يُقدِّسونَ كرامَةَ الإنسانِ مَهْمَا كان وَضيعًا، ويَلْمُسونَ بكلامِهِم وأَعْمالِهِم المَجْروحين فيَلينُ الوَجَعُ، والجائِعينَ فيَسْتَطْعمونَ بالخُبْزِ, والعريانينَ فَيَشْعرونَ بالدِّفْء.

مع الَّذينَ نَزَعَتْ قَسَاوَةُ الحياةِ قَسَاوَةَ قُلوبِهِم وحَلَّتْ مَرَارَةُ الأَيَّامِ جرْعَاتِ أيَّامِهِم، فبَاتُوا يَعْرِفُونَ مَعْنَى المُعَانَاةِ عِنْدَ غَيْرِهِم بَعْدَمَا مَرُّوا في مَعَابِرِها بَاسِمينَ مِنَ الجِراح، يَضْحَكونَ اسْتِخْفَافًا بِمَا تَرْميهِ الصُّرُوفُ عَلَيْهِم، فيَعْرِفونَ كَيْفَ يُساعدونَ النَّاسَ على اجْتِيازِ لَهَبِ الصُّروف.

مع الَّذين يَعْرفونَ مَتَى يَسْكُتونَ حينَ يكونُ السُّكوتُ أَبْلَغَ مِنَ الكلام، ومَتَى يُغْمِضونَ أَعْيُنَهُم عنْ نقائِصِ النَّاسِ حينَ يُداوي تَجَاهُلُ النَّقائِصِ شَديدَ فِعْلِها وخُشونَةَ لَمْسِها.

مع أُولئِكَ الَّذينَ يَجِدُونَ وَقْتًا للاِصْغاءِ إلى سائِلٍ والعَطْفِ على باكٍ، ولَمْ يَسْرِقْ كُلَّ وَقْتِهِم أُولَئِكَ المُرَاؤونَ في المُجْتَمَعاتِ الَّذين يَتَلَهُّونَ بِمَا هو لِبُطونِهِم عَمَّا هو لِعُقولِهِم.

وعُدْتُ إلى الواقعِ أَنْظُرُ النَّاسَ وأَسْأَلُ لمَاذا يَرْكُضُون؟

اترك رد

%d