لا يكاد أي مثقف عربي يتحدث عن فكر ابن خلدون اليوم إلا بالمدح لعقله النيّر والمتفتّح والسبّاق لعقل الحداثة الغربية المعاصرة. ومن ثم، يُسرع الكثير من المثقفين العرب إلى القول بأن موقف صاحب المقدمة سيكون متحمساً للتفتّح، بلا حدود، على الفكر الغربي المعاصر.
ينطلق عالم الاجتماع التونسي د. محمود الذوادي (*) من هذا الكلام لتبيان جهل أصحابه بالمنظومة الكاملة (تراث الجمع بين العقل والنقل) لفكر مؤلف كتاب العبر، الذي يدعو بصوت عالٍ في الجزء الأول منه (المقدمة) إلى ضرورة محافظة المسلمين على حصانتهم الفكرية في مربط فرس الثقافة الإسلامية، وبالتالي كسب رهان المناعة الثقافية والفكرية الأصيلة، يقول:
يكفي ذكر تحذير ابن خلدون من مخاطر معرفة ثقافة الآخر، وفكره، قبل تحصين الذات في ثقافتها وفكرها في المقام الأول. ففي الفصل الحادي والثلاثين من الباب السادس للمقدمة، يتحدث ابن خلدون عن الفلسفة اليونانية، التي كانت ذات أثر كبير على فكر الكثير من فلاسفة المسلمين ومفكريهم فيقول: “فليكن الناظر فيها متحرزاً جهده من معاطبها، وليكن من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطّلاع على التفسير والفقه، ولا يُكِبَّنَّ أحد عليها وهو خلو من علوم الملّة فقَلَّ أن يسلم لذلك من معاطبها…”.(ابن خلدون 1993: 445).
من المتوقع أن ينزعج ابن خلدون في قبره عندما يعلم أن معظم الأساتذة العرب المدرِّسين، والطلبة خريجي الجامعات العربية في الفلسفة، لا يكادون يعرفون شيئاً عن علوم الملة. وسوف تزداد حسرتُه حزناً عندما نخبره أن تلاميذ شهادة البكالوريا في موطن ميلاده (تونس) لا يكادون يتعلمون شيئاً عن الفلسفة الإسلامية، ناهيك بعلوم الملة. بينما هم يدرسون مادة الفلسفة الغربية لما يقرب من سبع ساعات في الأسبوع. فالجميع عند ابن خلدون لا يستطيعون أن يسلموا من معاطب هذا الوضع، بسبب خلوهم من تراث علوم الملة. وهكذا يُستنتج من مقولة صاحب المقدمة، أن التلاقح الفكري الإيجابي بين مثقفي ومتعلمي الثقافات المتنوعة، لا يحصل إلا بشرط امتلاء الإنسان في المقام الأول من لغة، وفكر، ثقافة مجتمعه، وحضارته. وتلك هي أبجدية التحاور الحكيم مع الآخر، التي طالما يضلّ عنها بالأمس واليوم المثقفون والمتعلمون العرب في المغرب والمشرق.
هيمنة الفكر الغربي على علم الاجتماع العربي
بالتوازي مع الهيمنة الغربية، سياسياً واقتصادياً وعلمياً وثقافيا،ً منذ عصر النهضة، تمّت عولمة المنظور الغربي للعلم والمعرفة في أغلب مجتمعات العالم، بما فيها المجتمعات العربية والإسلامية. فمعظم علماء الاجتماع العرب، على سبيل المثال، يتبنّون اليوم ذلك المنظور الغربي، الذي يفصل بقوة بين المعرفة العقلية والمعرفة النقلية. وهم بالتالي يعارضون فكرة إدخال ودمج الرؤية المعرفية الإسلامية في بحوثهم ودراساتهم السوسيولوجية.
ويمكن للمرء أن يحاج بإطناب أغلبية علماء الاجتماع العرب في هذا الأمر، لكي يشكك على الأقل في أسس نكرانهم لمشروعية قبول وجود علم الاجتماع الإسلامي، كفرع معرفي ذي مصداقية في فهم وتفسير شؤون الأفراد والمجتمعات البشرية:
أولاً: لا يجوز على المستوى النظري إقصاء الإسلام من إمكانية إنشاء علم الاجتماع الإسلامي. إذ إن للعقيدة الإسلامية بكلّ تأكيد رؤية شاملة وتفصيلية حول الإنسان وسلوكياته، من ناحية، وحول المجتمع كنسق اجتماعي متكامل، من ناحية ثانية.
ثانياً: نجح ابن خلدون في اكتشاف علمه الجديد (علم العمران البشري) وإرساء أسسه عبر الملاحظات الميدانية، والمفاهيم، والنظريات الجديدة، التي توصل إليها من خلال دراسته لمكوّنات المجتمعات العربية الإسلامية في المغرب العربي على وجه الخصوص. لقد أنجز ذلك التفكير الاجتماعي الرائد، من دون أن يفصل بين معرفته العقلية ومعرفته النقلية في تحليله وفهمه وتفسيره لشؤون الأفراد والمجتمعات.
ويكفي التوقف عند مثال واحد يطبق فيه ابن خلدون بالكامل منهجية العقل المسلم الأصيل، الذي يجمع بين تحليل وتفسير العقل البشري للظواهر، من ناحية، وتفسير النقل (القرآن في هذه الحالة) من ناحية أخرى. فبتعبير العلوم الاجتماعية الحديثة، لقد وجد صاحب المقدمة علاقة ارتباط قوية correlation بين انتشار ظاهرة الترف في المجتمعات العربية الإسلامية، وظهور مشكلات عدّة، مقترنة بحضارة الترف، والتي تقود في نهاية الأمر إلى انهيار تلك المجتمعات. فبعد مشاهدة الآثار السلبية لثقافة الترف على الأفراد والمجتمعات في مدن منطقة المغرب العربي، والإفاضة في تحليلها بالمنظور العقلي، يذهب ابن خلدون إلى المعرفة النقلية (القرآن) ليعزز بها صدقية ملاحظاته الميدانية، وتحليلاته العقلية، كعالم مسلم ومؤسس لعلم العمران البشري: “وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميراً” (سورة الإسراء : 16).
يتحدث ابن خلدون نفسه عن الجذور الإسلامية لعلمه الجديد “وأنت إذا تأملت كلامنا في فصل الدول والملك، وأعطيته حقه من التصفّح والتفهم، عثرت في أثنائه على تفسير هذه الكلمات، وتفصيل إجمالها مستوفى بيّناً بأوعب بيان، وأوضح دليل وبرهان، أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو، ولا إفادة موبدان”. إن نشأة علم العمران الخلدوني انطلاقاً من مرجعية ثقافية إسلامية، يعطي مشروعية كبيرة للمناداة والعمل على رفض الاستلاب الفكري في العلوم الاجتماعية في العالمين العربي والإسلامي.
ثالثاً: إن النجاح الباهر الذي حققه العقل الخلدوني – الجامع بين العقل والنقل – في ميلاد ووضع الحجر الأساس لعلم العمران/علم الاجتماع الجديد، يطرح أسئلة فيها الكثير من التحدي لمسلمات وقناعات العقل العلمي الغربي الحديث. فهذا الأخير يعتقد ويدعي أن كسب رهان العلم الحقيقي، والمعرفة الأصيلة والصحيحة لا يمكن تحقيقهما إذا لم يقع الفصل الكامل بين الدين والعلم. لكن الشهرة العالمية لفكر ابن خلدون العمراني/ السوسيولوجي، ذي الأرضية الإسلامية، كما نجده في مقدمته، يفند مسلمات واعتقاد العقل الغربي الحديث بالنسبة إلى العلاقة بين الدين والعلم. فهما ليسا بالضرورة دائماً في حالة تناقض وعداء كما هو الأمر في الثقافة الغربية المعاصرة. وإنما هما قد ينعمان بالتعاون والانسجام، كما عرفت ذلك الثقافة العربية والإسلامية عند أبرز علمائها ومفكريها، وفي طليعتهم ابن خلدون.
لذا، أرجع عالم الاجتماع الماليزي فريد العطاس الاستلاب الفكري للمختصّين في العلوم الاجتماعية في آسيا، إلى ما يسميه التبعية الأكاديمية academic dependency الفكرية للعلوم الغربية، التي ترى أن مفاهيمها هي مفاهيم عالمية صالحة الاستعمال في المجتمعات والحضارات كلّها. وفي ذلك إنكار لإمكانية تنوّع أصول الأفكار في العلوم الاجتماعية. وكنتيجة لذلك يطرح السؤال: هل يمكن إنشاء علوم اجتماعية في مجتمعات الجنوب، تكون صاحبة مفاهيم وأطروحات ونظريات خاصة بها؟ يرى العطاس أن ذلك ممكن إذا: (أ) وقع التحرّر من الاستعمار الأكاديمي أو الاستلاب الفكري و(ب) وقع التخلص من مشكل فقدان صلاحية irrelevance العلوم الاجتماعية الأوروبية الأميركية لغير مجتمعاتها وحضاراتها.
وتحدّث عالم الاجتماع الماليزي الآخر سيد حسين العطّاس بعد منتصف القرن الماضي حول فكرة ما سمّاه بالعقلية الاستعمارية Colonial mentality لدى كثير من مثقفي العالم الثالث، والتي سمحت له بإنشاء مفهوم جديد، أطلق عليه مصطلح العقل السجين The Captive Mind أو العقل المستلب، لدى هؤلاء، والذي حذّر منه ابن خلدون بقوة، كما رأينا.
الاستلاب اللغوي لدى العرب
يقترن الاستلاب الفكري العربي المشار إلى بعض معالمه آنفاً، بظاهرة الاستلاب اللغوي في الوطن العربي. إذ العلاقة وثيقة جداً بين اللغة والفكر. تستمر النخب العربية وشعوبها في الاعتماد الواسع على مخلّفات الاستعمار الغربي اللغوية، مثل استعمال الفرنسية أو الإنجليزية، ليس في تدريس العلوم في الجامعات العربية فقط، بل حتى في مرحلة التعليم الثانوي. ويتجلّى الاستلاب اللغوي في المجتمعات العربية في أمثلة ميدانية تكاد لا تُحصى.
نقتصر هنا على نقل وقائع أحد الأمثلة الناطقة بالاستلاب اللغوي لدى النخب العربية، من ذلك مثلاً، ندوة حول نمو المدن المغاربية عبر العصور في 26 – 27/ 05/ 2005، أقامها “المركز الأميركي للدراسات المغاربية” CEMAT في تونس. حيث اختار المشاركون، من جزائريين ومغاربة وتونسيين، اللغة الفرنسية لمداخلاتهم، ماعدا مشاركة مغربية واحدة اختارت اللغة العربية، لإلقاء ورقتها. غير أن ذلك أثار حيرة وصدمةً واستهزاءً بين زملائها وزميلاتها المغاربيين. وهذا يعني أن جل المثقفين والمتعلمين المغاربيين، بخاصة في تونس والمغرب، لم ينجحوا في عهد الاستقلال في تطبيع علاقتهم باللغة العربية، لغتهم الوطنية الأولى، لكي تصبح العرف اللغوي التلقائي للتواصل بين الأكاديميين والباحثين في هذه المجتمعات، مثلما هو الأمر في المشرق العربي.
**********
(*) مؤسسة الفكر العربي ــ نشرة “افق”
(*) بروفسور في علم الاجتماع- جامعة تونس