صُوَرٌ في البال!

    (مُقَدِّمَةُ كِتاب “عِنَّا بِالضَّيْعَة”، لِلكاتِبِ عِماد فغالي)

 

مَن مِنَّا، نَحنُ أَبناءَ القُرَى خُصُوصًا، لا يَرجِعُ، في ساعاتِ الصَّفاءِ، آنَ تَتَوَهَّجُ الذَّاكِرَةُ بِصُوَرٍ حَمِيمَةٍ هارِبَةٍ، وتَدفَأُ الحَنايا بِلَفَحاتِ الوَجْدِ والحَنِينِ، إِلى ماضِي قَريَتِهِ، وإِلى أُحدُوثاتِ أَهلِيها؛ إِلى مَطارِحِها المُلَوَّنَةِ بِغِلالاتِ الزَّمَنِ الجَمِيلِ، وإِلى رُباها المُوَشَّاةِ بِالخُطُواتِ الحَبِيبَة؟!

هذه الصُّوَرُ في البالِ، جُذًى في رَمادٍ، تَعُودُ، كُلَّما نَكَتَها يَراعٌ عَرُوفٌ، بِدِفئِها وحَنانِها وأَلوانِ الأُنسِ في ثَناياها.

عِماد فغالِي… واحِدٌ مِمَّن نَذَرُوا القَلَمَ لِلمَهَمَّةِ الجَلِيلَة، يَأخُذُنا بِحِكاياتِهِ إِلى هاتِيكَ المَرابِعِ، ويَحدُونا بِجَمالِ قَصِّهِ، وأُسلُوبِهِ الغَنِيِّ بِالصُّوَرِ اللَّفظِيَّةِ، فإِذا نَحنُ، على صَفَحاتِهِ، في أَخصَبِ الأُوَيقاتِ، وأَندَى الذِّكرَيات…

كاتِبُنا يَأخُذُ بِيَمِينِهِ الرَّايَةَ المُبارَكَةَ الَّتي رَفَعَها أَعلامٌ مِن بِلادِنا، أَلا وهي رايَةُ الحِفاظِ على تُراثِنا المُهَدَّد. أُولاءِ كان دَيدَنُهُم تَرسِيخَ عاداتِنا وتَقاليدِنا، ونَمَطِ حَياتِنا الهانِئَةِ الَّتي كانت، لِتَبقَى، لِلأَجيالِ القابِلَةِ، إِرثًا دَفِيئًا، نَقِيًّا مِن “حَضارَةٍ في طَرِيقِ الزَّوالِ” كما دَعاها الكاتِبُ الكَبِيرُ أَنِيس فرَيحَة.

صُورَةُ القَريَةِ اللُّبنانِيَّةِ، المارُونِيَّةِ على وَجهِ الدِّقَّةِ، شَكَّلَها عِماد فغالِي بِرُؤْيَةٍ ثاقِبَةٍ، وبَصِيرَةٍ حادَّةٍ، وقَلَمٍ أَنُوفٍ، مُحتَذِيًا مِثالَ المُبدِعِينَ الكِبارِ في أَدَبِ القَريَةِ، مِن مارُون عَبُّود ومِيخائِيل نُعَيمَة إِلى يُوسُف حَبْشِي الأَشقَر، وكَوكَبَةٍ خَلَّاقَةٍ شَقَّت هذه الدَّربَ المُبارَكَةَ إِلى صَمِيمِ ذاكِرَتِنا، وشَجَنِ أَيَّامِنا الغابِرَة…

لَقَد شَكَّ صَدِيقُنا بَنْدَهُ بَينَ بُنُودِهِم، فالخَوافِقُ مَوَّارَةٌ في الرِّيحِ، وَهَّاجَةٌ في الشَّمس!

يَقُولُ الكاتِبُ النَّاقِدُ فَتحِي الأَبيارِي: “كانت القِصَّةُ وما زالَت أَشيَعَ فُنُونِ الأَدَبِ على الإِطلاقِ، لما انطَبَعَت عَلَيهِ النَّفسُ البَشَرِيَّةُ مِن حُبِّ الاستِماعِ إِلى الأَساطِيرِ والحِكاياتِ والخُرافات. وهي أَقدَمُ أَلوانِ الأَدَبِ، لأَنَّها تُصَوِّرُ حَياةَ النَّاسِ وأُسلُوبَ مَعِيشَتِهِم، والكَشفَ عَن مُيُولِهِم وما يُقَدِّسُونَهُ مِن مَبادِئَ ويَسِيرُونَ عليه مِن عادات”(1).

كاتِبُنا يُصَوِّرُ الحَياةَ كما هي، في فَرَحِها وفي تَرَحِها، في جَمالِها وفي بَشاعَتِها، في انقِيادِها وفي حِرانِها، فلا يَفتَعِلُ العُقَدَ، ولا يَبتَنِي الذُّرُواتِ قَسرًا. وهو يَرسُمُ شَخصِيَّاتِهِ على جَدِيلَةِ الإِنسانِ في واقِعِهِ، فلا يَدهَشُ القارِئُ أَمامَها، ولا يَعتاصُ عَلَيهِ فَهمُها، فهو إِمَّا أَن يَكُونَ مَرَّ بِأَعدالِها في مَسِيرَةِ حَياتِهِ، أَو رَآها مُحتَمَلَةَ الوُجُود. إِنَّهُ الفَنَّانُ المُرهَفُ، لا يُعمِلُ المِبضَعَ لِيُعَدِّلَ في الإِهابِ، ولكنَّهُ يُلبِسُ القَوامَ ما يُناسِبُهُ مِن مَطارِفَ وغِلالات.

والحَياةُ تَيَّارٌ صاخِبٌ، يَمُرُّ، وفي أَمواجِهِ تَعبُرُ الأَسماكُ، غَثُّها وسَمِينُها. والقَصَّاصُونَ صائِدُونَ في عُبابِهِ، فَمِنهُم مَن يَعُودُ بِالواهِي الرَّخِيصِ، ومِنهُم بِالكَفافِ النَّزرِ، ومِنهُم بِالأَندَرِ الأَغلَى، وأُولاءِ هُم ذُرَى القَصِّ، وأَساتِذَتُه.

يَنقُلُنا عِماد إِلى أَجواءِ القَريَةِ بِبَراعَةِ المُصَوِّرِ الَّذي يَقتَطِعُ مِن المَشهَدِيَّةِ العَرِيضَةِ تَفصِيلًا دَقِيقًا، يَحُوكُ على مَتنِهِ الحِكايَةَ الطَّرِيفَةَ، يُحَمِّلُها عاداتِ أَهلِ الرِّيفِ الطَّيِّبِينَ، وخِصالَهُمُ النَّقِيَّةَ، وإِيمانَهُمُ الَّذي تَعِزُّ فِيهِ الشَّوائِب. فَيَروِي لَنا عَن ذاكَ القَرَوِيِّ المُؤمِنِ الَّذي تَحَكَّكَ بِجِدارِ الدَّيرِ العَتِيقِ، يَقِينًا مِنهُ بِالبُرْءِ مِن الثَّآلِيلِ… فكانَ لَهُ ما أَراد. إِنَّهُ الإِيمانُ  المُنَزَّهُ عن الكَدَراتِ، المُدانِي لِـ”حَبَّةِ الخَردَلِ”، والَّذي يَندُرُ وُجُودُهُ إِلَّا في هذه الفِلْذاتِ المَقدُودَةِ مِن صُخُورِ الجَبَلِ، المُشبَعَةِ مِن خِصْبِهِ المُتَجَدِّدِ، المُتَهَجِّدَةِ مع سُرُجِ سَمائِهِ، تَرَى في ضِيائِها الخالِصِ وَجهَ رَبِّها السَّاهِرِ، أَبَدًا، على عِبادِه.

ولَكَم أَتحَفَنا، كاتِبُنا اللَّطِيفُ، بِحِكمَةٍ تُتَوِّجُ مَقطُوعَتَهُ، لِتَبقَى، في ذاكِرَةِ القارِئِ، قَبْسَةً لا تَطْفَأُ، لأَنَّها مِن صَمِيمِ الواقِعِ، ومِن نَسِيجِ القَلبِ، ومِن عُصارَةِ التَّجرِبَةِ الحَيَّةِ المَجبُولَةِ بِالدَّمِ، والعَرَقِ، والُّلهاث…

يَقُولُ، في مَعرِضِ الأَرضِ، وتَعَلُّقِ الفَلَّاحِ بها: “اللِّي ما بتِتعَب عليه الأَيادِي، ما بتِبكِي عليه القلُوب”، و”نامْ تَحت الشَّجرَة بتِعطِيك ثَمَر”، و”إِضحَك لِلأَرض تضحَكلَك”. ويقُولُ، في مَواضِعَ أُخرَى: “لِمْ كان فِينا، ما كان فِينا. ولِمْ صار فِينا، ما عاد فِينا”، وأَيضًا: “كَتِّر الأَسئِلة وقَلِّل البَرْم”.

ما أَرَقَّ الحِكمَةَ، عِندَ هذا الكاتِبِ الرَّقِيقِ، وما أَلطَفَ وَقعَها. لا تَأتِيكَ بِجِلبابِ الوَقارِ، وتَقطِيبِ المَلامِحِ، بَل تَغشاكَ بِابتِسامَةِ الأَلِيفِ، وتَدخُلُ خِدْرَكَ وفي راحَتِها القَمحُ الذَّهَبُ، والثَّمَرُ اليَنِيع!

راوِينا الحَصِيفُ، يَتَكَلَّمُ على إِيمانِ أَهلِ القُرَى بِشَغَفٍ تَنضَحُ بِهِ حُروفُهُ، شَغَفٍ بِالقَداسَةِ والقِدِّيسِينَ، مُصَفًّى كَأَنْ مِن سَماءٍ صُوفِيَّةٍ، ومِن أَخدارِ المُصطَفِين. فهو، إِذ يَروِي ظَواهِرَ عَجائِبِيَّةً، كَتَقَطُّرِ الماءِ مِن صَخرَةِ مار أَنطُونيُوس، تَمثِيلًا، لا يُخالِجُهُ طَيفٌ مِن شَكٍّ، ولا يَعتَوِرُ فِكرَهُ سُؤَال. وكَيفَ لا… وهو الَّذي فُطِرَ على العِبادَةِ الصَّافِيَةِ صَغِيرًا، وتَكَرَّسَ، قَولًا ومَسلَكًا، على إِعلانِ النِّعَمِ العُلَى كَبِيرًا، ولمَّا يَزَل.

في حِكاياتِ صاحِبِنا، وهي تَتَّسِمُ بِالبَساطَةِ والعَفوِيَّةِ، مُتعَةٌ مُحَقَّقَةٌ لِطالِبِ التَّسلِيَةِ العابِرَةِ الخَفِيفَةِ الوَقعِ، الَّتي لا تُجهِدُ الفِكرَ، ولا تَدَعُ المَدارِكَ مُتَوَفِّزَةً مَكدُودَة. بَيْدَ أَنَّ في قَراراتِها غَوْصًا في طَبائِعِ القَومِ، وتَظهِيرًا لِلمَلامِحِ الخافِيَةِ في الكائِنِ البَشَرِيِّ، ما يَجعَلُ مِنها زادًا لِناشِدِ الفِكرِ، ولَقَياتٍ ثَمِيناتٍ لِغائِصِ الأَعماق.

وهو، إِذ يَتَعاطَى، في قَصِّهِ، مع شَخصِيَّةٍ قَرَوِيَّةٍ تَمِيلُ إِلى السَّذاجَةِ، غَالبًا، لا يَغفُلُ عَمَّا تَكنِزُ مِن نَقاءٍ إِنسانِيٍّ خالِصٍ، وطِيبَةٍ تَأرَجُ في مُحِيطِها، وسَلامٍ يَشِعُّ مِن داخِلٍ إِلى خارِجٍ، ومَحَبَّةٍ تُؤَثِّثُ المُجتَمَعَ الصَّغِيرَ المُغلَقَ بِخَيرِ العَلائِقِ، وأَشَفِّ الأَواصِر.

لَم يُعِرْ هذا الفِغالِيُّ كَبِيرَ اهتِمامٍ لِلمُزَوِّقاتِ اللُّغَوِيَّةِ، والأَلاعِيبِ البَلاغِيَّةِ، وضُرُوبِ المُحَسِّناتِ والزَّخارِفِ، بَل كان جُلُّ اهتِمامِهِ نَقلُ الواقِعِ بِزُبدِهِ وخاثِرِهِ، تارِكًا لِلقارِئِ جَنْيَ العِبَرِ مِن مَظانِّها. فكان أُسلُوبُهُ غَدِيرًا مُتَسَلسِلًا يَحمِلُ الماءَ القَراحَ، وقد يَجُرُّ مَعَهُ بَعضَ الطِّينِ، على أَنَّهُ لا يَخلُو مِن شَذَراتِ الذَّهَب.

وَمَن يَدَّعِي أَنَّ القِصَّةَ مَقامَةٌ أَدَبِيَّةٌ، أَو مَقطُوعَةٌ فِيها الشِّعرُ والفَصاحَةُ وشَوارِدُ اللُّغَة؟!

أَلَم يَقُلِ الأَدِيبُ فرَانك نُورِيس: “مَن ذا الَّذي يَعنَى بِالأُسلُوبِ الجَمِيلِ؟ إِنَّنا لا نُرِيدُ أَدَبًا وإِنَّما نُرِيدُ حَياة”(2).

صَديقي!

في نِتاجِكَ الجَدِيدِ “عِنَّا بِالضَّيعَة”، ارتَحَلنا إِلى جُزُرِ الحَنِينِ، والحَنايا تَرتَعِشُ وَلَهًا. وها أَنتَ كَلِفتَ بِقَريَتِكَ، ناسًا وتُرابًا وعاداتٍ، فَطَبَعَت رُوحَكَ بِصَفائِها، وسَرَت في شَرايِينِكَ نُسْغًا يَضُوعُ فيه شَمِيمُ الجُدُودِ، فَأَبَيتَ إِلَّا أَن تَنقُلَها إِلى الخَلَفِ ذُخْرًا مِن سَلَفٍ صالِح…

أَلَا بُورِكَت يَداك!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): فَتحِي الأَبيارِي، كِتاب “عالَمُ تَيمُور القَصَصِيّ”، ص 25.

(2): كِتابُ “القِصَّة القَصِيرَة في لُبنَان..” للدّكتُور عَلِي حِجازِي، ص 476.

اترك رد