“صدى القلب: كلمات من حصاد العمر” لمازن لبّان: “ليلى” تعود بعدما طوتها يد الأقدار

“صَدى القَلب” لمازن لَبَّان (“دار نلسن”)، أصداءٌ وترانيم، ذِكريات وحنينٌ، تحسبها صوتًا واحدًا، ولكنها هواتِفُ تتعاود من أغوار الأسى وأبْعاد القرارات، ضمن وجودٍ امتدَّ على أربعة عقود. وأعمقُ اللحظاتِ في قرارَة الوجود، صورةُ “الأم”، وقد اختارَ لها القدرُ اسمَ: لَيلى، كأنما يُخلِّد ذكرى الحَبيبة الأسطورية، تلك التي هيَّمَت مجانينَ الحب العذري، وحَرَّكت شُعراء الغَزَل، وألهمت العشاق من الصوفية: وكلُّهم تَغَنَّى بجمال لَيلى، وكلهم، مِن شدة أشواقهم، هاموا في مراتع الصحراء، يتسمَّعُون أصداءَها ويتابعون أخيلتها، عَساها تجود بلحظة وصال. 

وها هي “ليلى” تعود في سِفْرٍ، ليس من الشِّعر، ولا من النثر، بعد أن طوَتها يدُ الأقدار، فَخَلَّفت قلوبًا كَلمى وعيونًا حرَّى. ومن ماء غِيابها، انسكبت عَبَرَات المآقي، وصاغها ابنُها مازن لَبَّان مِدادًا لِعِبارات الأقلام، وبه حَبَّر من وجدانه أصدقَ الأشعار، وأبانت مقاطع نَثره المرسل عن حُرقَة البَيان.

راح هذا الابنُ، بعد أن انقَضَى رسمُ ليلى، يُدوِّن أصداءَ قلبٍ مَفؤود، ويُرَجِّع صورَ تعشقه لِأمٍّ رؤومٍ، يناجيها في وَحدته، ويناغيها بعَبْرته: “حبّي الأول، حبي الأكبر، حبي المُطلق، والدتي وصدیقتي ومُلهمتي وحافظة أسراري”، يتعقَّب ما تبقى في نبراتِ صوتها من تَرانيم الأمومة الخالدة، يَعزفها سمفونيةَ جمالٍ وحياةٍ. وبِفعل الكتابة، تحوَّل الابنُ غَزِلاً رقيقًا، يُحرِّك الضَّنى قلمَه، وتهزُّ الأشواق ريشتَه، يرنو بعين آملة إلى مستقبلٍ، ربما لن يُدركَه، ولكنه يراه في “نور” ابنتِهِ، يُسارُّها: “نور، نور العیون، فخري واعتزازي، فَرحَتي وأملي ورجائي، نور التي تحمل في كیانها حناني وكبریائي”.

والأصداء أصواتٌ في الذاكرة مُكتَنَزُها، ولكنها أيضًا أسطرٌ من مِدادٍ، وكلماتٌ قُدَّت من تراث اللسان ومنابعه، فقد كانت، قبل إحيائها، “مَجموعة من النصوص المتراكمة على مدى أربعین سنة، كتبتها لنفسي وبقیت دفینةَ قصاصات الورق الصفراء القدیمة والأدراج الخاصة”، أخرجها مازن من غيابات الماضي حتَّى لا يطويها الزمن، مع سائر الأوراق التي سيحجبها النسيان، فلا يطَّلع عليها إنسٌ ولا جانٌّ. لَمْلم قصاصاتِه من بطون الأدراج وأوجاع الماضي وخاطب بها القدرَ: يُهديها لابنته نور، والأحفاد، مثل ما أهداها ذلك الخاتم النفيس الذي وَرثه عن ليلى: أراد لنصوصه أن تكون ماساتٍ وجواهرَ غالية، تشد الأجيال فيترابط أفرادها ويلتئمون، مثلما يلتئم الخاتم الدريّ مع يد “نور” ويُزين براءتها.

هذه الأصداء هي ما تبقَّى من ذكريات مَن أحب في قلبه، وما اجترحته آثارُ العُمر في العُمر. يخلد بالقَصَص الصافي، وجله ساذج صيغ من معدن العفوية، لمصائر هؤلاء الذين عَمَروا كونَه، فملأوه أنغامًا وسلاما، فما تمالك عن النداء، ومِثل سَلَفه قيس، رددت منهُ خفقاتُ القلب: جمال، جمال، جمال…وأجمل ما في الكون إمرَأة متعددة.

وما أعجب أمرَ مازن مع المرأة! فقد أحاطت به النساء من كل جانبٍ، فأخذ من إكسير الروعة عندهنَّ خلاصةَ الحب وصفوَه، رقته والأريج، وما المرأة إلا عَبَق ورجاء ووَجعٌ: أمه “ليلى”، وقد سافرَ بها القدر باكرًا، وابنته “نور”، التي أضاءت دروبه، وأخته “ريما” مَن ظلَّ ينتظر عودتَها بلسمًا لكل داء، و”فادية” زَوجته التي ردد قلبُه اسمها مع كل نبضة من نبضاته حتى أعیاه المرض، وخالته “سلمى” التي زادها الشيب وقارًا… وكأنَّ النساء جميعهنَّ صِرنَ واحدةً: ذوبًا من عظمةِ الحب في يقين العطاء، ولَمْعة الجمال: تُلهمنه الكتابة، وتعلمنه الحبَّ كيف يكون، فراح بقلمه وقلبه يَتَتَبع أصداء العمر ونَبَرات العبور، تتيه في قلبه وعقله فتنبعث من كل الأرجاء، وتملأ صفحات كتابه بحصادٍ فيه عذوبة الأوقات التي عاشها وعذابات الساعات التي كابدها: والخيط الجامع بينها رباط رقيقٌ بين الأنوثة والموت، بين المرأة والفناء، بين سِحرهنَّ وقوة البقاء: اختطف الرَّدى أمَّه، وجدته، وصديقًا له رآه يَغرق أمام ناظريه، في جزيرة غسمها يونانية، تَسخر أمواجها العاتية من فلاسفتها: الموت غرقًا يتحدى، في لحظة، محاورات أفلاطون.

وفي الكتاب إطلالة، كأنما قُدَّت من مادةٍ مباينة، على دنيا المال والأعمال، وتجارب الشغل في متاهة الآلة الإنتاجية المعاصرة، وقد استعبدت الناسَ وجعلت من كبرى الشركات سوقًا للنخاسة من “العصور الوسطى، تُشبه فيه المجموعة الجالسة حول الطاولة الرقیق البیض، كلٌّ یسعى إلى إرضاء سیده، یمتثل لأوامره، یقهقه لنكاته السخیفة، یمتدح أفكاره السمجة طمعا بإكرامیة في نهایة السنة أو درءً لغضب السلطان.” تذكيرًا بأنَّ تفاهات الأثرياء وسماجة نقاشاتهم المملة موتٌ للضمير والكلمة. وفي تفاصيل اجتماعاتهم المقرفة إفناءٌ لنفحَة الروح وتألقِ الكيان.

ومن الأصداء التي انبعثت من الذاكرة قِصَصُ حُبٍ خانها الزمن، وحال دون تحقق الآمال منها، فضاعت وبقي منها عبق ذكرى يحرك الوجدان. ويختم مازن أصْداءَه “بوصيِّة”، تنبعث من أمواج المستقبل، لا من عتبات الماضي، وتشيع من أثير الحياة الأبدية، يُسلِّي بها الحبيبَةَ، ويعلن للقدر صمودَهُ، في رضا المؤمنين، ووَلَه العاشقين. في الوصية صدقُ وجدانٍ يتعرَّى أمام حقيقة الموت مناديا أنَّ الوجود استمرارٌ، وأنَّ روعة الحبِّ تحدٍّ للغياب. موتُه سفرٌ يحركُ مطاياه شَوْقٌ لِليلى…

لا تسل – عزيزي القارئ- عن بِنية الكتاب وهَيكله: فهي أصداء تتتالى وأصوات تتعالى من قلب مازن: يُرَجِّع بعضُها بعضًا، وكلُّ قطعةٍ أثرٌ ينبعث من خبايا الذاكرة، فيحمل معه ترنيمة وجودٍ، ونشيد حياةٍ ونفَسَ أملٍ، تأتي كلها من قرارة الضمير. فهل خطرَ ببالك أن تنضبط الأصداءُ التي تتردد من أغوار الوهاد، أو تتعالى من حناجر الصُدَّاح في معزوفة رتيبة؟ كلا، إنما هي نَفَثَاتٍ مصدورٍ تتسابق لتنتشر في رحابة الأفق، ويريدك الكاتب أن تستشعرها فتحيلها سؤالاً عن “عبورك” وما نسجتَه خلاله من علاقاتٍ.

وإن بحثتَ عن مظان الأدبية في هذا النص، فلن تصادفها في براعة كبار الشعراء المجوِّدين، ولا في تلويحات المُقتدرين من كُتابنا، بل ستصادفها في نبرة الصدق المشبوب الذي يجمِّلُ كل سطرٍ، وكل كلمةٍ وحرفٍ، وستعجب من مسلكه البسيط في الإنشاء: أُوارُ العاطفة الجارفة يشتَعل في حصاد العُمر، فينبعث اللهيبُ هادئًا يتآكل منه طيب العودُ فتفوحُ صفحات الكتاب صورًا صادقة، وكلماتٍ قوية، تتبارى من القلب وإليه تعود، مثل رَجْع الصدى، وهو صدقٌ كله، لا مواربة في نبراته… ولا بلاغة.

مُرَدِّد هذه الأصداء وباعثها مازن لبَّان، وُلد في بيروت في إحدى ليالي سنة 1960، وفيها تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي، وفيها أيضا كسرت الحرب أحلامَه، وهشمت لياليه وأيامه، فسافر إلى المملكة العربية، ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ينهل، في ذات الآن، من ينابيع التراث ومصادر الحداثة، وأتقن لغاتها وخَبِر عواملها، فاغتَنى بتجارب مهنية كبيرة، مكنته من تطواف القارات واستكناه الثقافات، فهو ينقل من معين التجربة ويهدي من حصاد العمر أكرمَ غلاله وأطيب أثماره: تجربة رجلٍ أحبَّ وأخلص في الحب، حبٍّ زيَّنَ حياته فانبعَث نشيدًا وترجيعًا.

****

(*) جريدة النهار 15 اغسطس 2017.

اترك رد